ليلة تسليم جلجامش لليهود؛ فضح مغالطات التناص بين الفكر العراقي القديم والفكر التوراتي (26)
قصّة وليست اسطورة !
إنّها ليست أسطورة مثل الأساطير العراقية السومرية والمصرية الفرعونية واليونانية ، مثلاَ ، فيها آلهة خيالية تسكر وتزني وتقتل وتتآمر كما هو معروف . بل هي حوادث فعلية لبشر معروفين في التاريخ اليهودي هم نبي ، وأولاده الأسباط ، وأحفاده .
والآن هل هذه العصا - هنا - هي رمز للنظام الثقافي وللخصب ، أم هي سلعة (مكافئة للمال) لأن ثامار عندما مارست دور البغي مع عمّها يهوذا أخذتها منه مع خاتمه وعصابته كرهن يستعيده عندما يدفع لها أجر المضاجعة ؟
ثمّ إنّ هذه الأدوات عائدة ليهوذا رمز السلطة البطريركية وليست لثامار رمز السلطة المتريركية ، ولهذا فيهوذا هو رمز الخصب وليست ثامار !!!!
لماذا جعلت ثامار عمّها يزني بها ؟
_____________________
ولماذا تصرّفت ثامارا هكذا ؟
يقول النص التوراتي لأن يهوذا لم يزوّجها من ولده شِيلة حسب وعده ، فعطّل مسيرة الإخصاب ، فأرادت أن تذكّر عمّها بأنها من رموز الإخصاب الكوني ، وتحرجه أيضاً . لماذا لم تطلب من يهوذا الوفاء بوعده بحوار صريح وجلسة عتاب كما يفعل الأوادم في كلّ مكان ؟ ولماذا اختارت عمّها لينيكها وتورّطه ؟ ألم تكن قادرة على لعب نفس الدور مع شيلة الإبن وهو الزوج المُنتظر ؟
سيقول قائل إنها أرادت أن تزني وتأمن من عقاب الحرق مادامت تورّط عمّها السبط ؟ لكن هل من المعقول أنّ امرأة تريد إثبات خصوبتها تزني مع محارمها ؟ ولو أتينا بهذه العصا وحكينا قصّتها لهذا الكهل العراقي المُسلم كأكبر احتمال ، والغير يهودي بصورة مؤكّدة ، هل يوافق على استلامها واستخدامها في حياته اليومية كرمز للخصب أم أنه سيعتبرها نجاسة وأداة للإثم والشرّ والمسافحة ، ويقوم برميها في الزبالة ، ثم يغسل يديه ؟
طيّب .. الآن ولدت ثامار توأما من عمّها وأثبتت خصوبتها . ما هو الوصف الذي ينطبق على هذين المولودين ؟
لقد ولدت ثامار توأمين هما : فارص وزارح ، وهؤلاء هم أسباط يهوذا الفارصيون والزارحيون. ومن الفارصيين الزناة جاء أكبر ملوك العابيرو وأعظم أنبياء يهوه وهو : الملك داود (وأكرّر هو ليس داود القرآن الكريم) .
لكن لنترك هذا الأمر ولنعد إلى السؤال الأساسي :
هل هناك علاقة لعصا هذا الكهل العراقي المُتعب كالعادة والذي صوّره الراحل فؤاد شاكر وحيدا معزولا في المقهى ، بعصا السبط يهوذا التي رهنها لدى كنّته ثامار حين زنى بها وهي من محارمه ؟!
كل إنسان يختزن في طبقات لاشعوره الجمعي دلالات الرموز المرتبطة بالنماذج الأولّية – archetype ، كالماء والشمس والقمر والأرض والعصا وغيرها بمعانيها العامة (الماء رمز الخصب والتجدّد والولادة وليس رمزا لصورة الإله إنكي مثلا) ، ولكي يختزن هذا الكهل معاني هذه الأسطورة (أسطورة يهوذا وثامار) يجب أن يطّلع عليها ، فأين قرأ هذا الكهل البغدادي هذه الأسطورة وأين سمعها في حياته ؟ في المدرسة ؟ في المكتبة ؟ في الصحف ؟ سمعها من الإذاعة العراقية ؟ هل يحتفظ أبوه وأمّه بكتاب التوراة أو العهد القديم في البيت ويثقفونه عليه كل يوم ؟ هل نقرأ المزامير في الإذاعة والتلفزيون في الأعياد كاليهود ؟ أم أن القرآن هو الأساس في التربية الدينية اليومية ، والموروث السومري والبابلي في اللاشعور الجمعي هما الأولى في تكوينه الأسطوري ؟ فلماذا هذه الحماسة والإفراط في إعادة كل حركة ، وكل عصا ، وكل شجرة ، وكل ثوب ، وكل لون ، وكل سمكة بُنّية ، وكل كرسي ، إلى تشبّع وجدان وذاكرة العراقيين بالآيات والسور والمزامير والأسفار اليهودية ؟؟؟!!
حتى الكرسي الذي يجلس عليه هذا الكهل البغدادي في المقهى صار رمزاً لكرسي العرش للإله اليهودي يهوه الذي استراح عليه بعد أن خلق الكون في سبعة أيام كما يقول ناجح (راجع ص 40) حيث ربط كرسي الكهل في المقهى بالأسطورة التوراتية :
(حين خلق الربّ اليهودي السموات والأرض واستكمل خلق الحيوان والإنسان وجعل العالم مكتملا وفي اليوم السابع استوى على العرش/ الكرسي !! – ص 40) (153).
هل معقول أن كرسي هذا الكهل العراقي له هذا المعنى التوراتي ؟؟!!
وهل أن القصّة التوراتية تقصد بكرسي يهوذا كرسي المقهى الذي شاهد فؤاد شاكر هذا العجوز المتهالك يجلس عليه في مقهى "حسن عجمي" مثلا قبل أن يلتقط له الصورة ؟؟!!
أمر غريب لا أستطيع شخصيا أن أقرّه على الإطلاق .
وكل هذه الأخطاء تعود من وجهة نظري إلى سبب رئيسي هو عدم تحديدنا للمعنى الدقيق لـ "الرمز – symbol" ، وخلطه بـ "العلامة – sign" في كثير من الأحوال ، تابعين لتأويلات بعض النقّاد الغربيين "الكبار" ، ونسيان القاعدة الذهبية (كل رمز هو علامة ، ولكن ليس كل علامة رمز) . عندما يقول زوج لزوجته :
(لقد مللتُ .. كلّ يوم غداؤنا رز ومرق .. إشوي لنا سمكة اليوم) .
هل معنى هذه الرغبة أن هذا الرجل يريد احتضان الإلهة عشتار والنوم في أحضانها ليمثل معها دور الإله الإبن دموزي مادامت السمكة رمزاً من رموزها الأسطورية ؟
على هذا الأساس يكون المشتغلون بالسمك المسقوف في شارع أبو نواس هم أكثر العارفين الثقاة في عالم الأسطورة !!
يجب أن تأتي هذه السمكة ، وهذا الطلب ، ضمن "سياق" محمّل بشحنة نفسية ، وله مرجعياته الثقافية والاجتماعية وحتى الدينية . إنّ الدخان "علامة" على النار ، لكنه يصبح "رمزا" في قصيدة تتحدث عن روح العاشق المهجور المحترقة أو قلب المقاتل الجسور المُلتهب مثلا. ونفس الشيء يُقال بالنسبة إلى عصا الكهل . إنّها "علامة" على التقدّم في العمر والضعف والعجز ؛ أداة معاونة على المشي والإتكاء وحفظ التوازن ، وليست رمزا للسلطة والملوكية وعصا للألوهة والخصب والإنبعاث والقضيب . لكن إذا جاءتنا معلومات عن أن هذا الرجل العجوز يلوّن عصاه ويطليها كل يوم ، وينيمها معه ويتشمّمها كل ليلة .. إلخ .. أو أنه يحلم كلّما نام بأنه يركبها ويطير بها ، أو يستخدمها كأداة سحرية لفتح ما هو مُغلق ، أو للإشباع الجنسي ، أو أنه يكتب القصائد والقصص عنها ، فسوف تتحوّل إلى رمز للرجولة الضائعة وطموح للإنقاذ واستعادة القدرة الإخصابية .
إنّ الحصاة علامة على الأرض الصخريّة ، ولكنها تصير رمزا حين تستخدمها عجوز لمعرفة الحظ أو إذا تبرّك بها شخص وحملها في جيبه .
أمّا أن هذه العصا التي يتكيء عليها هذا العجوز المنعزل في مقهى بغدادي تمثل الخصب والإنبعاث والنظام الثقافي ، فهذا توسيع مروّع لمعنى هذه الأداة ، وتعسّف في إقحامه قسريّأً في "سياق" ليس له أبداً . وأمّا أن عصا العجوز تشبه عصا السبط يهوذا الذي رهنها عند زوجة ابنه المومس عندما زنى بها – فهذه – وليسمح لي صديقي وأخي الأعز الأستاذ ناجح – "شطحة" أسطورية !! وأجلى أشكال خطورة هذه الطريقة في التحليل ومقاربة النصوص تتمثل في أنّ هناك جيلاً من الشباب ينظر إلى طرقنا في التحليل ويعمل على الإقتداء بها .
وسوم: العدد 751