مصطلح "الأدب" في ثقافة العرب، النشأة والتطور والدلالة
المصطلح هو وعاء لغوي ضخم ومستودع جامع يحتوي في داخله (المناهج والدلالات والحقائق والمكونات..) التي تعكس المخزون الفكري والثقافي لذاكرة الأمة.
وهو في تطوره التاريخي (كائن حي ذو هوية كاملة، تسجل ظروف ولادته وتطوره الدلالي، ما يعترض هذا المفهوم أو يعتوره، من صحة ومرض وشحن وتفريغ، وأول ما تصاب به الأمم في أطوار ضعفها الفكري هو طمس مفاهيمها..)(1) واختلاط مصطلحاتها وما يرافق ذلك من إهمال خصوصيات
هويتها الحضارية، وبذلك يحصل الاضطراب وتضيع اللغة الموحدة التي توحد فكرها، وتحميها من الخلاف والتشتت.
مما سبق ندرك أهمية العودة إلى مصطلح "الأدب" وتاريخ ظهوره في ثقافة أمتنا، وما رافق ذلك من تطور لدلالة هذا المصطلح، تساعدنا في إدراك معانيها المختزنة، وما اعتوره من تقلبات، تفيد الباحثين من أبناء الأمة في تذكر مفاهيمها وتأصيل كيانها في لحظات تداعي الحضارات الطامعة عليها.
يقول شوقي ضيف: (كلمة "أدب" من الكلمات التي تطور معناها بتطور حياة الأمة العربية وانتقالها من دور البداوة إلى أدوار الحضارة، وقد اختلفت عليها معان متقاربة حتى أخذت معناها الذي يتبادر إلى أذهاننا اليوم وهو الكلام الإنشائي البليغ الذي يقصد به التأثير في عواطف القراء والسامعين سواء أكان من الشعر أم من النثر).(2)
والملاحظ لمشتقات الكلمة التي كانت سائدة في العصر الجاهلي أنها كانت تدل على المعنى الحسي نحو: الآدب: الداعي للطعام، ومن ذلك المأدبة: الطعام الذي يدعى إليه الناس.
ومع قلة الشواهد التي تتوسع في استعمال الكلمة إلا أنها انتقلت من المعنى الحسي إلى معنى آخر يدل على ما يرافق الكرم والطعام والضيافة والعلاقات الاجتماعية من (تهذيب) يتمتع به (الآداب) المكرم للناس: كأن لا يكون مناناً في كرمه، وأن يكون بشوشاً في استقبال ضيفه، وأن لا ينتقر الضيوف انتقاراً، أي ينتخب وينتقي، بل يكرم الناس جميعاً دون تمييز. وقد يطرح (المتأدب) ما يتمتع به من تهذيب في ضيافته، من ابتعاد عن السلوك المذموم كالجشع في الأكل، والتهام الطعام والإثقال على المضيف. فمن الأول قول طرفة في أخلاق (الآدب) مفتخراً بقومه يقول:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب منا ينتقر(3)
ومن أمثلة الثاني قول الشنفرى في (المتأدب) دون ذكر اللفظ ذاته، مفتخراً بنفسه يقول:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل(4)
وقد تطور اللفظ بدلالته وإن لم تصلنا الشواهد الكافية على ذلك التطور، ولكننا نلمس هذا من خلال أقدم النصوص التي تتصل بهذه الكلمة في فجر الإٍسلام حيث ظهرت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أدبني ربي فاحسن تأديبي)(5) ولا يخفى أن المقصد من –أدبني- في هذا النص يعني (علمني وهذبني).
وهذا يدل على أن هذه الكلمة كانت في عهده صلى الله عليه وسلم مادة (التهذيب والتعليم) وفي ذلك إشارة لتطور هذا المعنى في نهاية العهد الجاهلي الذي انتهى ببداية عهده صلى الله عليه وسلم.
وهكذا استمرت هذه الكلمة طوال فترة العهد الإسلامي الأول والأموي على المعنى أو الدلالة نفسها، ولكنها ترسخت وتأصلت في الحياة الثقافية العربية، ثم ظهر إلى جانبها كلمة (المؤدب) التي كانت تطلق على من يعلم أبناء الخلفاء والأمراء (ما تطمح إليه نفوس آبائهم فيهم من معرفة الثقافة العربية).(6)
وبحكم انتشار العلم وبروز دور المؤدب (المعلم) بدأت الكلمة تستقل ويتضح معناها في هذا الاتجاه، حيث كان المؤدب يعلم تلاميذه القراءة والكتابة أولاً ثم يعطيهم قسطاً من التهذيب والمعرفة وكانت وسيلته في التهذيب والمعرفة تقوم على الانتقاء والانتخاب من فنون القول الجيد المؤثر (الشعر والخطابة والقصص والحكمة والأمثال والوصايا..) بالإضافة إلى تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف والسير والأنساب والتاريخ وبذلك أصبحت الكلمة بحكم هذا الاتساع تقابل كلمة العلم.
وقد وردت أقوال عن الخلفاء والعلماء يوصون المؤدب ويدلونه على كيفية الاختيار لمادة التعليم والتهذيب والعمل كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى الأشعري: (مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي..)(7)
ولما جاء العصر العباسي وازداد سوق الثقافة العربية الإسلامية ارتفاعاً بدأت كلمة (الأدب) تظهر في خضم الازدهار الثقافي وفي تعابير الكتاب ومؤلفاتهم، فمنهم من استعملها للدلالة على معرفة أشعار العرب وأخبارهم ولغتهم، ومنهم من اتسع بها لتشمل كل المعارف التي ترقى بالإنسان فظهرت كتب مثل (الأدب الصغير) و(الأدب الكبير) لابن المقفع وكتاب (الأدب) لابن المعتز، و(البيان والتبيين) للجاحظ، و(العقد الفريد) لابن عبد ربه، حتى قال ابن خلدون: (الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف) () وكأنها أصبحت ترادف كلمة الثقافة بمعناها الموسوعي.
ثم أخذت هذه الكلمة تستقل تدريجياً في دلالتها عن معنى التهذيب، لتصبح علماً خاصاً جامعاً على فنون القول الجيد الراقي التي كانت معروفة عند العرب في الجاهلية كـ (الشعر والخطابة والقصص والأمثال والحكمة والوصايا والرسائل) وما أضاف لها العرب في العصر العباسي من فنون جديدة نحو (التوقيعات، والخاطرة، والمناظرة، وأدب الرحلات والمقامات والسيرة...) وغيرها.
واستمر هذا المصطلح في مسيرته حتى القرن التاسع عشر، ليدل على ما ينتجه العقل والشعور من خلال اللغة، ثم استقل في نهاية الأمر على معنى الأدب الخالص، بعد أن استقلت العلوم بدلالتها وعناوينها، ليكون مصطلحاً خاصاً على فنون الشعر والنثر، وقد أضاف لها العرب في القرن العشرين الفنون التالية: (فن الرواية، وفن المقالة، وفن المسرحية، والحديث الإذاعي، والندوة والحوار والمرافعات، وغيرها من الفنون...) وذلك بحكم انتشار الطباعة والصحافة والإذاعة، وإلى هذا المصطلح ينصرف الذهن في الدراسات الأدبية الحديثة.
ومن خلال استعراض مسيرة هذا المصطلح يمكننا أن نسجل الملاحظات التالية:
1 – أن العرب منذ الجاهلية كانت لهم مجموعة من الفنون القولية التي تعتمد الفصاحة والبيان الجميل، وهي ما نسميه في عصرنا بالأنواع الأدبية كـ (الشعر، والخطابة، والمثل، والحكمة، والوصايا، والقصص والرسائل..) ولكنهم لم يتوصلوا إلى اسم جامع يجمعها في مصطلح واحد، بل كان العرب يتعاملون مع هذه الفنون، كأنواع منفصلة عن بعضها.
2 – وفي العصر العباسي بدأ استعمال مصطلح (الأدب) ليدل على فنون الكلام الجيد المؤثر في العواطف من الشعر والنثر، وهي التي كان يختارها المؤدب في تهذيب تلاميذه، وأخيراً بدأ اللفظ يستقل عن معنى التهذيب ليصبح مصطلحاً جامعاً على فنون الأدب الخالص، وبخاصة في القرن التاسع عشر، بعد أن استقلت العلوم الاجتماعية ومالت إلى التخصص.
مع أن المعنى اللغوي القديم ما زال مستعملاً بمعنى التهذيب حتى أيامنا، ولا تزال بعض الجامعات تستعمل مصطلح (كلية الآداب) في تقسيماتها ليدل على المعنى الثقافي الموسوعي القديم.
3 – لقد اكتشف العرب المتعة الجاذبة في الفنون الأدبية فسموها (سحر البيان) فجعلوا من الشعر والخطابة والمثل والقصة مادة سمرهم في مجالسهم ونواديهم، وعندما أوغلوا في تلك المتعة، اكتشفوا فوائد كثيرة تختلط بتلك الفنون الممتعة، وبذلك تعرفوا على الفائدة العظيمة للأدب والوظيفة التي يمكن أن يؤديها، فجعلوا منه مادة التهذيب والتعليم التي يستعملها المؤدب (المعلم) في تعليم أبناء الخلفاء والأمراء وأبناء الأمة عندما اتسعت قاعدة التعليم، وبذلك اكتشفوا تأثير هذا السحر فوظفوه في حياتهم قبل أن يتمكنوا من تفسيره، ولم يكن عندهم من علم حول طبيعة الأدب إلا القليل وذلك من خلال تذوقهم الفطري لسحر الأدب وجمال المعاني، وما كانوا يتداولونه في أسواقهم الأدبية من تذوق فطري انطباعي سريع حول ما يلقى من الشعر أو النثر.
4 – ثم تطور الأمر حتى ظهر النقد المنهجي العميق في العصر العباسي، وعندها تعمقت صلاتهم بطبيعة الأدب، وتأصلت عند النقاد، ومما ساعد في ظهور هذه المرحلة الجادة في تفهم طبيعة الأدب، ما رافق تلك الفترة من نشأة وتطور لعلوم اللغة العربية وما كان لها من فضل كبير في تعميق تلك الجهود. وهو أمر يلفت نظرنا إلى أهمية التمييز بين (وظيفة الأدب) و (طبيعة الأدب) وما بينهما من علاقة متينة، تقوم على التأثر والتأثير، وأثر هذه العلاقة وفائدتها لنا في التنظير للأدب الإسلامي، لأنه يكشف لنا قيمة طبيعة الأدب وأهميتها في تحقيق وظيفته، وذلك أن الأدب الراقي في تحقيق طبيعته هو الأدب الناجح في أداء الوظيفة والتأثير.
5 – كما دلتنا سيرة المصطلح على الدور التربوي العظيم للأدب في تاريخ الأمة، وأهمية الأدب تربوياً في تشكيل ذوق الأمة وبناء الوعي العام عند أجيالها، وهو أمر يمكن أن يتوسع فيه علماء التربية والثقافة في دراساتهم التربوية والثقافية المعاصرة.
6 – إن كشف تاريخ هذا المصطلح فيه فائدة عظيمة، تخدم دراساتنا في تعريف (الأدب الإسلامي) وتجذير مفاهيمه، لأن الأدب الإسلامي في تجربته النموذجية الأولى (أدب الصحابة) الكرام رضي الله عنهم، نشأ في أحضان الأدب العربي، وتغذى بخبراته الفنية الغنية، ثم بدأ تأثير الإسلام في الأدب العربي، فأخذ يصبغه بصبغته الفنية والشرعية، عندما أسلم العربي، وأخضع نفسه للإسلام في عقيدته وشريعته ونظامه للحياة، واستمر تأثير النموذج الإسلامي الأول في الأدب العربي عبر عصوره الممتدة، وقد تعتوره حالات قوة أو ضعف وانفلات بحسب قرب المسلم من إسلامه أو ابتعاده عنه.
وهنا يجب تذكير دعاة الأدب الإسلامي بتاريخ نشأة الأدب الإسلامي في تجربته الأولى في عهد الصحابة وارتباطها بالأدب العربي، ليس في الأدب الإسلامي المكتوب باللغة العربية فحسب، بل بالأدب الإسلامي المكتوب بلغات الشعوب الإسلامية الأخرى، لأن ذلك يساعد الأدب الإسلامي المعاصر في إيضاح أمور كثيرة يحتاج إليها أثناء معركته في الحياة الأدبية والثقافية والنقدية.
2 – مصطلح النقد الإسلامي
(تاريخ ومراحل وطموحات)
من خلال المراجعة السابقة لمصطلح الأدب عند العرب وجدنا أن العرب لم يعرفوا مصطلح الأدب كمصطلح جامع (للفنون الأدبية) طوال فترة الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي، لأن ظهوره جاء متأخراً في العصر العباسي، وهذا معناه أن الصحابة مارسوا الفنون الأدبية كفنون منفصلة عن بعضها، كما كان سائداً في عصرهم.
وهكذا ظهر الأدب الإسلامي في تجربته النموذجية الأولى على يد الصحابة الكرام رضي الله عنهم- وكان التوجيه التأسيسي لهذا الجيل في أدبه، يتم من القرآن الكريم وآياته، التي تكلمت عن البيان والكلمة وأثرها، والآيات التي فصلت قضية فن الشعر، ومن خلال حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهه لشعراء الدعوة، ومن فقه الصحابة للقرآن والسنة، ومن تذوقهم لما يقال بين ظهرانيهم من الفنون الأدبية، التي تمرسوا بها (الشعر، والخطابة، والرسائل، والأمثال، والحكم، والوصايا) وغيرها. هذه هي مصادر الفقه الأدبي الإسلامي، ولكن الشيء الذي لم يتم إنجازه في تلك الفترة، وما تلاها من العصور الإسلامية هو أن المسلمين لم يتمكنوا من استخراج الفقه النقدي من تلك المصادر.
لم يطرح مصطلح (الأدب الإسلامي) إلا بعد ظهور مصطلح الأدب العربي واستقراره في الثقافة العربية، وكان ذلك عندما بدأت عملية الإحياء والتجديد الإسلامية في عصر النهضة الحديثة، وبالتحديد في النصف الثاني من القرن العشرين، على يد دعاة الإسلام المعاصرين، لمواجهة عملية التغريب والتخريب الثقافي التي كانت تغزو الأمة من جوانب حياتها المختلفة.
والهدف من هذا التمهيد، هو الإشارة إلى الظروف التي اكتنفت ظهور مصطلح النقد الإسلامي، الذي أخذ على عاتقه مسئولية الدعوة إلى الأدب الإسلامي، للتعرف على الظروف والعوامل التي أدت إلى بروز الأزمة التي يعاني منها هذا النقد في أيامنا، وذلك بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على الدعوة المعاصرة إليه، والتي ظهرت على يد الرواد الأوائل له، وحيث ظهر الجهد الريادي لهذا النقد، بجهود متفاوتة من الشهيد سيد قطب، والدكتور صلاح الدين السلجوقي، والدكتور نجيب الكيلاني – رحمهم الله جميعاً-، ثم جهود كل من محمد قطب وعماد الدين خليل ويوسف العظم وغيرهم.
ثم تلا ذلك جهود مباركة لعدد من العلماء، الأجلاء في الجامعات العربية أمثال: الدكتور شكري فيصل، والدكتور محمد محمد حسين، والدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، والأستاذ أنور الجندي(9)... وغيرهم ساعدت في تأصيل الوعي الأدبي والثقافي العام لدى أبناء الأمة.
ويمكننا متابعة موجات الجهد الذي بذل في التأسيس للنقد الإسلامي الحديث، ودعوته إلى الأدب الإسلامي من خلال مراحل نختزلها في المصطلحات التالية:
1 – مرحلة الريادة (جيل الرواد) (10):
وهي المرحلة التي ظهر فيها رواد النقد الإسلامي في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين أمثال: سيد قطب، والسلجوقي والكيلاني ومحمد قطب وعماد الدين خليل وغيرهم من الرواد المتناثرين في أقطار الوطن العربي، والذين لم تسعفنا المراجع أو الظروف في التعرف على جهودهم.
ويهمنا أن تتعرف على (نموذج الرائد) بشكل عام ووصفه والتعرف على أهمية فعله الريادي في هذا المجال.
فالرائد بشكل عام: هو مكتشف يتعرف على ظاهرة ما، لأنه أدرك أهميتها قبل كثير من الناس، ويكون فضله واضحاً، عندما يلفت نظر الناس من حوله إلى أهمية الظاهرة أو الفكرة التي اكتشفها، كما أنه يسلط الضوء على تلك الظاهرة ويضعها في بؤرة الاهتمام، وهو بهذا يقدح شرارة التأسيس ويثير الانتباه إلى تلك الظاهرة.
وعندها يتحلق المهتمون بهذه الظاهرة، لدراستها ومتابعتها، وإيضاح معالمها، والتفصيل لبعض خفاياها، ثم الدعوة إليها.
وتمتاز رؤية الرائد في تلك الفترة للظاهرة أو الفكرة تلك بأنها رؤية أولية استطلاعية، كما أنها تتأثر بقدراته وعلمه وخبراته، ومقدار الجهد المبذول منه في تلك المرحلة الاستكشافية، فقد يكون الرائد جريئاً متمكناً، وقد يكون لمحه للفكرة طويلاً، فيرى كثيراً من خطوطها ومعالمها، وقد تمنعه الظروف من معاودة المتابعة والمراجعة، فتبقى عند الخطوط الأولية للرؤية.
وقد يكون الرائد متيقظاً، ولكنه قليل الخبرة، غائم الرؤية، يسيطر عليه الانبهار بالمحيط البيئي للظاهرة، فلا يرى الأمور جيداً، أو أن جهده كان لمحاً سريعاً، فهو في النهاية يصف لنا ما تمكن من رؤيته في تجربته تلك، هذا ما استطاع أن ينجزه في تقديم الظاهرة أو التعريف بالفكرة.
ويهمنا أن نؤكد أن فكر الريادة فعل يمتاز بالجرأة، ويقوم على الانتباه والاستكشاف والاستطلاع، ولكنه فعل ناقص غير مكتمل، تلزمه جهود وجولات ومتاعب من دعاته، حتى تتضح معالمه وتستبين سبله.
وهذا ما فعله رواد النقد الإسلامي، وهو أمر طبيعي أن لا يكتمل العلم والفهم لأي قضية إلا بتتابع الجهود واستمرارها في الأجيال المتعاقبة.
وكان فضل هؤلاء النفر، يوم أن نبهوا الأمة إلى ضرورة استكمال فكر النهضة الإسلامية في الجانب الأدبي والثقافي، وإثبات شمولية الإسلام وكماله وصلاحه لكل زمان ومكان، أسوة بالجهود الإسلامية المبذولة في الاتجاه نفسه من مجالات كثيرة: كالاقتصاد والفقه والسياسة وعلم النفس والتربية وغيرها من الجوانب الأخرى التي تؤصل للنهضة الإسلامية.
فقد كانوا رواداً متحمسين يتحسسون طريق النهضة لأمتهم وسط الظلام، الذي يتحسس فيه الرواد الطريق تحسساً، وتحيط بهم عقبات وصيحات من الاستهجان والاستنكار من أبناء الأمة المضبوعين، فما بالك بردة الفعل لدى الأعداء.
2 – مرحلة دعاة الريادة (المقلدون):
استطاع جهد الرواد أن يوصل الدعوة للأدب الإسلامي إلى كثير من الناس الذين أُعجبوا بها، والتفوا من حولها، خاصة بعد أن أدرك الكثيرون أهمية الأدب في حياة الأمم والشعوب، وشاهدوا بأنفسهم كيف استطاع دعاة التغريب أن ينجحوا في استقطاب الناس لدعواتهم وأفكارهم عن طريق الأدب وفنونه المختلفة.
وبذلك ظهر جيل دعاة الريادة وهم الذين تسلموا راية الدعوة للأدب الإسلامي من جيل الرواد، وقد استطاع دعاة الريادة أن يحملوا جهود الرواد حول فكرة الأدب الإسلامي، وأن يوصلوها إلى آفاق جديدة، و تمكنوا من إيصالها إلى قاعدة شعبية واسعة، كما تمكنوا من تذليل كثير من العقبات التي كانت تقف في طريقها، وكانت لهم جهود مباركة في شرح الفكرة والتبشير بها، ونشرها من خلال الكتابة في الصحافة وإصدار الكتب والمحاضرات، ودفع الفكرة إلى الدراسات الجامعية العليا للاعتراف بها، وقد حصلوا على اعتراف فعلي من بعض الجامعات الإسلامية، وكذلك من خلال عقد المؤتمرات التي تهتم بالأدب الإسلامي، وتبحث في شؤونه، وأخيراً تكللت هذه الجهود في جمع دعاة الأدب الإسلامي في رابطة عالمية هي (رابطة الأدب الإسلامي العالمية)(11) من أجل خدمة الأدب الإسلامي وتجذير الدعوة إليه من خلال عمل جماعي مؤسسي، يستعمل الأساليب الممكنة في دفع الدعوة إلى هذا الأدب نحو الأمام.
وهكذا بدأ الاستقطاب لأعداد كبيرة لا بأس بها من المؤمنين بهذا الأدب والداعين إليه، وهذه شهادة حق لجيل دعاة الريادة تكشف فضلهم وجهدهم في الانتصار لهذا الأدب واكتساح الأشواك من طريقه، حتى خفتت حدة المعارضة لهذا الأدب وبدأ الاعتراف به بين شرائح الأدباء والمثقفين يمتد بشكل ملفت للنظر.
لكن المذهل في هذا الجيل الذي نجح في الدعوة إلى فكرة الأدب الإسلامي، أنه لم ينجح في طرح مفاهيم محددة وواضحة حول تعريف الأدب الإسلامي والفكر النقدي الذي يطرحه، فبقيت تعريفات الرواد المختزلة على حالها، دون إضافة أو تفصيل أو تصحيح أو تعديل، يقول الدكتور صالح آدم بيلو بعد ذكره لتعريف سيد قطب للأدب الإسلامي وتعريف محمد قطب للفن الإسلامي معلقاً:
(ويكاد الكاتبون والباحثون الذين خاضوا في هذا الموضوع للوصول إلى تعريف موحد للأدب الإسلامي، لا يخرجون عن ذلك إلا في بعض ألفاظ وعبارات).(12)
ويقول الدكتور محمد زرمان: (وعلى الرغم من هذه النهضة الشاملة، التي شهدتها حركة الأدب الإسلامي فقد بقي المصطلح من الناحية النقدية في حاجة ماسة إلى الدراسة والإثراء والمناقشة والتعمق لمعالجتها معالجة علمية وموضوعية دقيقة).(13)
لأن هذا الجيل (جيل دعاة الريادة) عاش على فكر الرواد وشرحه، ولم يبذل جهداً يذكر في استكمال العمل الريادي وتفصيل الجهد النقدي للرواد، ولم يصلوا إلى نظرية إسلامية في النقد، تأخذ بيد المبدع المسلم نحو الرقي الفني، وعندما حاولوا هداية الإبداع الإسلامي، كانت تطبيقاتهم عشواء، لأنها لا تهتدي بنظرية إسلامية واضحة المعالم، بل كان فعلهم النقدي يقوم على خلط مناهج النقد الغربي المسيطر على الساحة الأدبية، مع مقولات النقد العربي القديم، ومن خلال منظور الخبرة الفردية المتفاوتة من شخص إلى آخر.
ولأنهم لم يصلوا إلى بلورة فقه نقدي مستخرج من الإسلامي والأدب، يوحد منظورنا النقدي ويحمي المبدع المسلم من مزالق الضعف، ويهديه إلى سبل الإبداع والرقي بالأدب الإسلامي، والاستقلال به عن سيطرة النقد الغربي، الذي يسيطر على الساحة الأدبية، برزت الأزمة النقدية التي يعاني منا النقد الإسلامي المعاصر، لأننا لا نملك المقاييس الإسلامية التي نحاكم بها النص الأدبي، فكيف نطالب بإسلامية الأدب؟ ونحن لا نملك نظرية واضحة لإسلامية الأدب، وهو أمر يكشف ضعف الخطاب النقدي، ويؤدي إلى ضعف الاستقطاب الجماهيري لصالحه.
وأظن أن الأسباب التي تقف وراء هذا العجز وهذه الأزمة التي يعاني منها النقد الإسلامي المعاصر، هي أسباب كامنة في عقلية دعاة الريادة، فقد كان فكرهم النقدي يقوم على الآداب بجهود الرواد، يرونا برؤية المبهور، ويرون أن الريادة عظيمة كاملة مكتملة، لقد وقعوا في هالة من التمجيد، منعتهم من محاكمة فعل الرواد، وإنجازاتهم فأصبحوا مقلدين للرواد، لا يرغبون بتجاوز جهودهم أو تخطيها، أو معرفة عيوب فكر الرواد ونقائصه، بل وقفوا ضد محاكمة الريادة ونقد جهودها، يدفعهم حماس للتوسع الأفقي في الدعوة للأدب الإٍسلامي، ويعتمدون الخطاب النقدي العاطفي في كثير من الأحيان، لأنهم يميلون إلى السكون وتكرار الذات، ولأن الرائد أراحهم من مصيبة الريادة ومتاعبها، وهم لا يرغبون بتكرار فعل الرائد، فنقد الريادة يتعبهم ويمنعهم من متعة التمجيد، التي تضمن لهم الراحة والسكون.
ولقد تعاموا عن حقيقة الريادة وتعريفاتها المختزلة، ونقصها وعدم اكتمالها، وضعف محصولها في نظرية الأدب، ولذلك فهم لا يلمسون الأزمة النقدية ولا يعترفون بها، وهاجسهم الوحيد هو التوسع في الدعوة للأدب الإسلامي دون تقييم أو تقويم.
يستثنى من ذلك نشطاء النقاد، الذين أدركوا أن الدعوة إلى فكر الريادة النقدي قد أشبعت، وأن النقد الإسلامي بحاجة إلى قفزة تفصل شيئاً من مشروعه النقدي، فأخذوا على عاتقهم الدعوة إلى فكرة التأسيس للمرحلة الجديدة (دعاة الإبداع).
3 – مرحلة دعاة الإبداع (الحلم والطموح):
وهكذا قضى جيل الرواد، وبقي منهم اثنان، أما الأول فهو محمد قطب الذي انقطع عن التنظير للأدب الإسلامي، وتفرغ لقضايا الفكر الإسلامي، ولكنه ترك كتاب (منهج الفن الإسلامي) في الساحة الأدبية، ليطبع مرحلة دعاة الريادة بطابعه وتأثيره، وأما الثاني فهو الدكتور عماد الدين خليل، الذي استطاع أن يخترق مرحلة (دعاة الريادة) نحو التأسيس لمرحلة الإبداع أو دعاة الإبداع، بعد أن تخلص من تأثير مدرسة (منهج الفن الإسلامي) وخاصة في كتاباته الأخيرة، التي كشفت عن نقلة نوعية في تفكيره النقدي، يرفده في ذلك جهود ثلة من نشطاء الجيل الثاني (دعاة الريادة) الذين لم يعجبهم الضعف والركون الذي أصاب المرحلة.
ثم انضم إليهم جهد مبارك من الجيل الثالث، الذي ولد وقد يسرت له الجهود السابقة وضوحاً في رؤية المرحلة الثالثة وما تحتاج إليه، من الدعوة إلى الإبداع وجهود التأصيل، وهذا يذكرنا بالتقاء جهود الأجيال في هذه المرحلة، وتضافرها في خدمة المشروع النقدي للأدب الإسلامي، كالجهود التي ظهرت من الدكتور حسن الأمراني، ومحمد بن عزوز، وسهيلة زين العابدين، ومحمد الحسناوي، وعبد الله الطنطاوي، ومأمون جرار، ومحمد إقبال عروري،ومحمد حسن بريغش، ومحمد صالح الشنطي، وسعيد الغزاوي، ووليد قصاب، وعمر بو قرورة، ومحمد شلال الحناحنة، وأحمد بسام ساعي، وصالح آدم بيلو.. .وغيرهم.
وقد تأكدت ملامح هذه المرحلة، بعد ميلاد رابطة الأدب الإسلامي العالمية، في الجهود التي تمثل الحلم والطموح والأمل في أيامنا، وتعبر عن رغبة دعاة الأدب الإسلامي في الخروج من حالة التهرب من نقد الذات، ونقد المنجزات النقدية، للتعرف على الأزمة النقدية وأسبابها، لتخليص الأدب الإسلامي ودعوته من حالة الضعف والركود، والانطلاق به إلى آفاق جديدة وانتصارات جديدة.
ومن مظاهر هذه المرحلة كثرة تجارب التأصيل التي تدل على الرغبة الملحة في الخروج من حال الضعف وتقليد الريادة، والاتجاه نحو البحث عن أسس النظرية الإسلامية في النقد، من مرجعياتها الشرعية (القرآن الكريم، و السنة الشريفة، وأدب الصحابة الكرام) بالإضافة إلى مرجعيتها من الأدب نفسه.
نرى جهود الأجيال التي التقت في هذه المرحلة، وهي متعطشة إلى إنجاز مشروع النقد الإسلامي، في أعمال متناثرة هنا وهناك ولكنها لم تصل بعد إلى مرحلة التيار القوي المؤثر القادر على الأخذ بزمام الأمور، بسبب العقبات الكثيرة التي تعترض طريقها.
ويمكننا أن نتصور نموذج المبدع وما يجب أن يفعله ليساعد هذا الجيل على النضج والامتداد، يدفعنا إلى ذلك شوق لرؤية مشروعنا الأدبي الإسلامي، وهو يمتد ليحقق للأمة هويتها الثقافية، ويعيد لها مقاييس ذوقها.
وها أنا ذا أرسم صورة المبدع كما أتصورها في ذهني وطموحي، فالمبدع فيما نرى:
يرى الريادة عملاً استكشافياً ناقصاً غير مكتمل.
كما أنه لا يسقط في حالة تمجيد الريادة، التي وقع فيها دعاة الريادة.
يعتبر الريادة فاتحة الطريق، ولكنه أيضاً يميز خبرة الريادة وقوتها وضعفها ويعرف لها عذرها وفضلها، ويدرك الظروف التي أحاطت بها.
يملك جرأة الرائد، ويكرر تجربة الرائد في إعادة الاكتشاف، مرات ومرات لا يخاف ولا يهاب، وهو بذلك يكمل خبرة الريادة وفعلها وإنجازاتها ويطورها، ويسير بها نحو النضج، يتجاوزها باحثاً عن الإبداع والتأصيل والإضافة النوعية للنقد الإسلامي، حتى يصل به إلى مرحلة الاستقلال عن نظريات الواقع، معتمداً في ذلك كله المرجعية الشرعية والأدبية، ولذلك نحن بحاجة إلى أن يتسع الإبداع حتى يصبح تياراً عريضاً ليحرك النقد الإسلامي من حالة السكون إلى حالة الحركة حتى نرى ميلاد المنهج النقدي الذي يستطيع أن يكون ابناً شرعياً حقيقياً للرؤية الإسلامية الفكرية من (القرآن والسنة) والرؤية الفنية الجمالية من (النصوص الأدبية الإبداعية) التي أبدعتها قريحة الأديب المسلم عبر عصور تراثه العريق الممتد من العصر الجاهلي حتى عصرنا الحاضر، أو ما يراه الناقد المسلم من الإضافات المؤصلة لمشروع النظرية الإسلامية في الأدب.
مظاهر الأزمة في النقد الإٍسلامي المعاصر(14)
(خواطر وأفكار سريعة)
يمكننا أن نسجل بعض مظاهر الأزمة النقدية في هذه العجالة، من خلال الإشارات السريعة للمظاهر البارزة على السطح، ضمن النقاط التالية:
1 – استمر دعاة النقد الإسلامي على التعريفات الناقصة المختزلة التي طرحها الرواد قبل أكثر من أربعين عاماً، ولم يغيروا فيها شيئاً سوى بعض الكلمات والعبارات، وهذا يدل على قلة الجهد المبذول في تعريف الأدب الإسلامي وتفصيل دقائقه، واستخراج مصطلحاته ومفاهيمه الخاصة به، مما أفقد (مشروع الأدب الإسلامي) الخطاب النقدي الجاد والمقنع للآخرين، وبذلك كان ضعف الخطاب النقدي سبباً لضعف الاستقطاب للأدب الإسلامي، وكثيراً ما نقف عاجزين في تعريف الأدب الإسلامي أمام أنفسنا وأمام الآخرين، بسبب قلة الحصاد النقدي الموجود بين أيدينا، وهو حال نابع من وهم الاكتمال الذي سيطر على تفكير دعاة الريادة.
2 – الوقوع في حالة وهم الاكتمال:
كثير من دعاة النقد الإسلامي يعيشون حالة وهم الاكتمال، فقد وقع في وهمهم أن تجربة الرواد قد اكتملت من جميع جوانبها، وما عليهم إلا أن ينزلوا لواقع التطبيق النقدي، ولكنهم نسوا أنهم لا يملكون نظرية إسلامية نقدية واضحة المقاييس، تهدي التطبيق وتشكل معياراً للحكم على الأدب، وبذلك ظهرت تطبيقات عشواء ليس لها منهجية إسلامية سوى الخبرة الفردية.
3 – الاتكاء على تقنيات النقد الغربي:
وعندما وقع هؤلاء الواهمون في حالة من وهم الاكتمال، ولم يجدوا الأداة النقدية في فكر الرواد استعاروا تقنيات النقد الغربي وخلطوها بالنقد العربي القديم، وظنوا بذلك أنهم حققوا للنقد الإسلامي مقاييسه، فبدأت محاكمة النصوص الإسلامية من هذا المنظور، فأدى ذلك إلى الارتباك وفقدان القدرة على النصح النقدي للمبدع، فسادت التطبيقات الفضفاضة والمجاملة والمدح والتهرب من التوجيه النقدي السليم، ففقد المبدع المسلم من يأخذ بيده ويشرف على صقل تجربته ويحفزه نحو معارج الابتكار مما أدى إلى تكريس الضعف والسطحية في الإنتاج.
وعاش الأديب المسلم على ما يملكه من ثقافة نقدية خاصة كوَّنها باجتهاده، ولكنه لا يملك نقداً إسلامياً يحقق طموحه في توضيح (إسلامية الأدب) ومقاييسها.
4 – فقدان اللغة النقدية المشتركة:
أين هي اللغة النقدية الواحدة المشتركة لمشروع النقد الإسلامي؟ التي لو تكلمنا بها، استطعنا أن نفهم مقاصد بعضنا دون عناء أو تعب.
أظن أننا لم نصل بعد إلى تلك اللغة، لأننا ما زلنا نبحث عنها، ولن نصل إلى امتلاك تلك اللغة، إلا إذا وصلنا إلى النظرية الأم، التي توحد فقهنا ونظرتنا وفكرتنا، حول قضايا الأدب المتشعبة.
وعندما نصل إلى تلك اللغة النقدية المشتركة، سوف نتخاطب بلغة المصطلح، فيفهم بعضنا بعضاً، لأنها لغة نقدية علمية متفق عليها، وليست لغة الخبرة النقدية العائمة التي نتخاطب بها الآن في نقدنا الإسلامي العشوائي.
وهذه اللغة النقدية المشتركة التي نطمح في الوصول إليها، لا تتأتى جزافاً ولا تنبع من الفراغ والعفوية، وإنما تأتي بالقصد والتخطيط والتحديد والتوحيد للمرجعية والمنهج والغاية.
وهي لا تأتي إلا بعد الكد والجهد من المبدعين المخلصين، الذين يجمعون بين النضج والمنهجية العالية، وعندها تستطيع هذه الفئة أن تفرض فقهها وتفسيرها وخطابها النقدي المقنع، وحيث يطمئن الناس إلى صفاء إسلاميتها ووعيها الأدبي، ثم تمتد هذه اللغة بعد أن تتشكل وتتكامل وتتبلور فتكون لغة نقدية مفهومة للجميع، ويبدأ انتشار تلك اللغة النقدية المؤصلة شرعاً وأدباً حتى تستقر ويصطلح عليها.
وهو أمر سهل الحصول عند العمل الجاد، ولكن لا بد من تحقيق شروط حصوله، وهو توحيد المرجعية والمنهج، لأن توحيد المرجعية هو الذي يوجد اللغة المشتركة، وهو الذي يوحد الفكر والمفاهيم ويقرب التجارب من بعضها.
وهو أمر مفقود في لغة النقد الإسلامي الحالي الآن، لأننا نأخذ من مشارب متعددة، تؤدي إلى التباعد والتباين ولا تؤدي إلى التقارب والتوحد.
هذه اللغة النقدية الواحدة التي تعبر عن وحدة التفكير والمنهج والمصطلح والممارسة والتطبيق، لا يمكن أن تظهر قبل أن نحدد مرجعية التنظير للأدب الإسلامي، التي تضمن لنا الانطلاقة القوية الموحدة، وأظن أن هذه المرجعية محددة بـ(القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأدب الصحابة والراشدين) لاستخراج أصول الفقه النقدي، ثم يأتي بعد ذلك دور الأجيال الإسلامية في تجديد الفقه النقدي ومده بخبرات وإبداعات جديدة، وعند ذلك يحق لهذا النقد أن ينتسب إلى الإسلام لأنه خرج منه واحتكم إليه.
5 – وأخيراً وليس آخراً، كان الهدف من هذه المقدمة الطويلة التي تناولت تاريخ مصطلح الأدب عند العرب، ثم عرجت على مصطلح النقد الإسلامي الذي طرح (قضية الأدب الإسلامي) في الساحة الأدبية، والظروف التي اعتورت هذا المصطلح، تمهيداً لطرح موضوعنا الجديد (مفهوم الأدب الإسلامي في ضوء نظرية العلم والمعرفة) لأن الأدب الإسلامي ظهر في أحضان الأدب العربي في صدر الإسلام، ثم بدأت الدعوة الحديثة للأدب الإسلامي، وقد ألقينا الضوء على الظروف التي كانت سبباً في بروز أزمة النقد الإسلامي وانعكاساتها على الأدب الإسلامي، وغموض مفهومه الذي لم يلق العناية الكافية، التي تبلور مفهومه وتفصل مقاصده، بسبب قلة الجهود المبذولة، وبقاء التعريفات المختزلة التي طرحها الرواد وتأتي محاولتنا القادمة لتعريف الأدب الإسلامي، تمهيداً للاهتمام بهذه القضية لعلنا نجدد الانتباه والجدال والسجال الذي يعمقها ويؤصلها.
4 – دوافع هذا البحث وفوائده
1 – بحثنا هذا هو بداية لمشروع هدفه التعريف بمصطلح (الأدب الإسلامي) على أسس من البحث عن البدايات الفكرية وتفاصيلها في ضوء نظرية المعرفة، للاستفادة منها في إيضاح معالم المصطلح.
2 – التعريفات المختزلة التي سيطرت على ساحة النقد الإسلامي، لا توصل الباحث إلى فهم واضح لمشروع الأدب الإسلامي، لأنها لم تتعب نفسها في البحث عن الأسس الفكرية الجادة للمشروع، وهي عاجزة عن تقديم الخطاب النقدي المقنع، مما يؤدي إلى عجز متراكم في عملية التنظير النقدي ومصطلحاته ولا يساعد في إيضاح دقائق الفكر النقدي، ولذلك يبقى النقد الإسلامي كسيحاً عاجزاً، إذا لم يستند إلى حكمة نقدية مفصلة ترتوي من ينابيع القرآن الكريم والسنة الشريفة وأدب الصحابة، وهذا هو السبب الذي جر الناقد الإسلامي إلى الاتكاء على مقولات النقد الغربي تحت عباءة (الحكمة ضالة المؤمن) ويبقى في حالة من التبعية، لأنه يتهرب من البحث عن الأصول الفكرية التي تفسر له نظريته الإسلامية في النقد.
فلا بد من الصبر على متاعب مرحلة التأسيس للنقد الإسلامي، إذا أردنا أن نخرج نظريتنا من داخل الإسلام، حتى نستطيع أن ننتمي إليه. لأن النقاء واستقلال النقد الإسلامي بنفسه عن الآخرين، لا يتأتى إلا من خلال المصطلحات النقدية التي تتوالد أثناء عملية التفصيل الجاد للنقد الإسلامي، وبميلاد هذه المصطلحات تتضح معالمه ويتيسر استقلاله ويبين خطابه.
3 – التعريفات المختزلة التي قدمها جيل الرواد للأدب الإسلامي، هي تعريفات ريادية غير مكتملة، وينقصها التحديد الشامل، لأن الرواد قد قدحوا لنا شرارة التأسيس، فعلقوا لافتة الأدب الإسلامي في أرض المشروع، ووظيفة هذه اللافتة أن تعلن عن البدء في المشروع، مشروع التأسيس للنقد الإسلامي ومفاهيمه التي تهتدي بها جهود المبدعين، وهنا يبدأ الخلاف:
- بعضنا يعتبر التعريف قد اكتمل وما عليه إلا أن يبدأ.
- وبعضنا يستعجل العمل ويريدنا أن نبدأ البناء دون حفر الأساس.
- وبعضنا يريد استيراد خرائط المشروع وتفاصيلها النقدية من أوروبا، لأنه يريد وبسرعة فائقة أن ينهي البناء، لينقل اللافتة من أرض المشروع إلى ظهر البناء.
- ونسينا أننا نؤسس لمشروع أدبي ينتسب إلى الإسلام، نسينا أن نستفتي الإسلام نفسه، لأن الإسلام آخر من يستفتى في حالات الاستعجال والانفعال، ولأنه وقع في وهمنا أن الإسلام يرضى منا أن يرفع اسمه فوق أي بناء، حتى لو تحكم فيه الهوى والمزاج، فكثيراً ما يقع المسلمون في الأحوال والأفعال، ثم يفطنون بعد فوات الأوان إلى استفتاء الإسلام، (وخلق الإنسان عجولاً)!!
5 – من أجل ذلك رأيت أن أبدأ مشروعي هذا في محاولة هدفها التفصيل لمفردات المشروع النقدي، وبقدر ما نستطيع، وذلك من خلال البحث عن أصول (الظاهرة الأدبية) في النفس البشرية وفي ضوء (نظرية العلم والمعرفة).
لأن نظرية العلم والمعرفة هي الأقرب من غيرها إلى تفسير الوعي الإبداعي والنشاط الفكري عند الإنسان، هذا من جانب، ومن جانب آخر، لأن الأدب يشكل نوعاً فريداً من أنواع النشاط الذي ينتجه العقل البشري، أثناء خلافته في عمارة هذه الأرض، وفي هذا مدخل مفيد لتعريف الظاهرة الأدبية أولاً، ثم الانتقال إلى التعريف العام للأدب، ومن ثم التعريف الخاص بالأدب الإسلامي ثانياً.
والله ولي التوفيق
الهوامش:
* ألقيت هذه المحاضرة في مقر رابطة الأدب الإسلامي العالمية – المكتب الإقليمي عمان في 10/8/2002 ضمن موسمها الثقافي.
1 – دورة المفاهيم الإسلامية/ معهد الفكر الإسلامي/ المنعقد في الجامعة الأردنية/ الورقة الثانية/ 1996
2 – تاريخ الأدب العربي/ شوقي ضيف/ ط9، ص3/ دار المعارف
3 – ديوان طرفة ابن العبد
4 – لامية العرب. الشنفرى
5 – الحديث (أدبني ربي...) انظر النهاية/ ابن الأثير/ غريب الحديث والأثر ج1، ص3 والوافي في تاريخ الأدب/ فائز الغول ومجموعة من المؤلفين ج1، ص5
6 – تاريخ الأدب العربي/ شوق ضيف ص8.
7 – العمدة ج1/11
8 – مقدمة ابن خلدون ص408
9 – انظر كتب كل من:
د. شكري فيصل المجتمعات الإسلامية وتطورها اللغوي والأدبي في القرن الأول وتطور الغزل...
د. محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية في الأدب، حصوننا مهددة من الداخل...
د. عبد الرحمن رأفت الباشا: نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد - الرياض 1985
أ. أنور الجندي: دراسات إسلامية معاصرة.
10 – انظر كتب كل من:
سيد قطب: في التاريخ فكرة ومنهاج، وفي ظلال القرآن، والنقد الأدبي أصوله ومناهجه..
محمد قطب: منهج الفن الإسلامي.
وصلاح الدين السلجوقي: الفن الإسلامي من خلال كتاب الإسلامية والمذاهب الأدبية.
ونجيب الكيلاني: الإسلامية والمذاهب الأدبية ومدخل إلى الأدب الإسلامي من سلسلة كتاب الأمة.
11 – رابطة الأدب الإسلامي العالمية: القوانين والأنظمة، ومجلة الأدب الإسلامي، الإصدارات والنشر ومقابلات صحفية متعددة مع الدكتور عبد القدوس أبو صالح (رئيس الرابطة) التي يشرح فيها فكرة الرابطة.
12 – من قضايا الأدب الإسلامي: د. صالح آدم بيلو ص 57
13 – ملخصات مؤتمر الأدب الإسلامي: الأدب الإسلامي النشأة والمصطلح د. محمد زرمان/ ص17/ جامعة الزرقاء الأهلية/1999.
14 – انظر في (سيمياء الأدب/ حسن الأمراني) و(الثنائيات الأساسية/ عماد الدين خليل) من كتاب مؤتمر الأدب الإسلامي في جامعة الزرقاء الأهلية 1999 (ومقدمة في نظرية الأدب الإسلامي/ عباس المناصرة/ دار البشير 1997).
وسوم: العدد 752