نحن الضيوف وأنتُما ربّ ذاك المنزل
في تأمّل تجربة الكتابة
تشرفتُ يوم الجمعة 10/9/2021 بزيارة الكاتب الفلسطيني عليان الهندي، بصحبة الصديق والكاتب سعادة السفير منجد صالح وولده الفتى "محمد ناصر". هاتفني العزيز منجد طالباً أن يشرب فنجاناً من القهوة، ليعرّفني على صديقه الكاتب عليان الهندي، والهندي هو صديق مقرّب لمنجد صالح، وكتب عنه في كتابه "ضاحية قرطاج"، وأسماه في واحدة من القصص "علّان". والكاتب عليان مختصّ بالشؤون الإسرائيلية، وله ترجمات عربية من العبرية، فترجم كتابين هما: "أسياد البلاد: المستوطنون ودولة إسرائيل 1967– 2004"، من تأليف الكاتبين الإسرائيليين عقيبا الدار، وعديت زرطال". وكتاب "الطُّعُم في المصيدة: السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة 1967-1997" للكاتب شلومو غازيت، كما ألف كتاباً يحمل عنوان: "بين السهل والجبل.. قرية القباب".
وللكاتب عليان- التي تبدو عليه ملامح الشباب والتوهج الفكري وهيبة الكاتب "الأرستقراطي النبيل"- قصة طريفة لن أتحدث عنها فهي موجودة في كتاب "ضاحية قرطاج"، وأكتفي بالقول: إنه عمل في بيت الشرق مع المرحوم الدكتور فيصل الحسيني، وتدرج في السلم الوظيفي، ليصبح مديرا، وكاتبا مرموقا، ومحللا سياسيا، تستضيفه الإذاعات والفضائيات للحديث عن الراهن اليومي، ومستجدات السياسة، وتحتضن مقالاته ودراساته المسهبة في التحليل مجلتان فلسطينيتان: شؤون فلسطينية، والدراسات الفلسطينية. إنه مثال للرجل العصاميّ، تبدأ رحلته مع الكتابة بمقال تحليلي، يكون لهذا المقال أثره الإيجابي عليه من ناحية وظيفيّة، ليكون مفتاحه لمستقبل زاخر بالكتابات والعطاء.
لا شك في أنني أعود "طالب علم" عندما أكون بحضرة كاتب له كل هذه المميزات، وهذا الأفق المعرفي الذي أفتقر إليه، فأنا لا أتقن سوى اللغة العربية، ولا أعرف العبرية أو الإنجليزية، وكل زادي من نتاج ثقافة هاتين اللغتين وغيرهما من اللغات إنما هو من الترجمة، فأنا لست حرا في قراءاتي، بل أظل خاضعا لهوى المترجمين، وأسيرا لقناعاتهم واختياراتهم، لذلك لا أستطيع الحديث كثيرا فيما يتعلق بهذه المجالات إلا بحدود الترجمة، لذلك أنصت بخشوع المتعلم إلى ما يقال، وعليه فقد استمعت باستمتاع لحديث عليان الهندي، ومقارنته بين أوضاعنا وأوضاع الإسرائيليين، وبين مكاتب رؤوساء تحرير الصحف ومحاضري الجامعات عندنا وعند الإسرائيليين، حيث تغلبنا وتتغلّب علينا الفخامة والأبهة والمنظرة والمظاهر الكاذبة، والتكبّر والعنجهية. ليخلص عليان إلى نتيجة مهمة ألا وهي أنه كلما زاد علمك ومعرفتك ازددت تواضعاً.
وحدثني عن الاعتقال وعن المعتقلين، كونه معتقلاً سابقاً، وعن طببيعة النضال والتحوّل في كل شيء في فلسطين، ليصبح الأمر مخيفاً سواء في السياسة أو الاعتقال أو الحالة العامة الوطنية التي تعاني من الركود والسطحيّة، والأفق المسدود، خاصة فيما يتعلق بالمفاوضات والمقاومة المسلّحة، والعلاقة مع الإسرائيليين، فمن يبني جدارا بينك وبينه- كما قال الهندي- هو لا يريدك شريكا في أي عمل سياسي. بهذا العمق وبهذه السلاسة، وبهذه المباشرة البلاغية الصادمة فَهِمَ الكاتب الرائي عليان الهندي المسألة الفلسطينية الإسرائيلية في وضعها الراهن بصراع دون حلّ. لكننا على ما يبدو- نحن الفلسطينيون- لا نريد أن ندرك هذه الحقيقة، فبقينا كما كنا لم نتغيّر، فيما تغيّر الكلّ من حولنا وفي العالم.
يظهر أن للكاتب عليان الهندي طقوساً خاصة للكتابة والعمل. يبدأ يومه بالكتابة، حيث يفرّغ صباحاً ما جمعه في رأسه من ملاحظات على الحاسوب، فهو لا يستخدم أسلوب كتابة الملحوظات، فلو كتب قصصات وملحوظات لطارت الأفكار من رأسه. يأخذ هذا الفعل يوميا منه ساعتين إلى ثلاث ساعات تقريبا، ثم يتفرغ لقراءة الصحف والمقالات والاطلاع على ما تنشره مراكز البحث الإسرائيلية لمتابعة الجديد، وما يصدر عنها.
خلال الحديث، يقول عليان إنه قرأ لي بعض المقالات التي أطلب فيها آراء الأصدقاء من الكتاب، ويؤكد أنه يقرأ تلك المقالات؛ احتراما لطلبي رأي الكتاب فيها، لكنه لم يحدث أن ردّ يوما على مقال من تلك المقالات، فكيف وصلتُ إلى الكاتب عليان الهندي؟
سؤال طرحه عليّ بالتأكيد، وقد اتضحت الأمور عندما عرفت أنه عضو اتحاد الأدباء والكتاب الفلسطينيين، وبالتالي فإن عنوان بريده الإلكتروني لديّ أسوة بعناوين البريد الإلكتروني لكل كتاب الاتحاد، بل كل كتاب فلسطين في الداخل والخارج، إذ أعمم بعض المقالات الراهنة لكل الكتاب، وخاصة تلك المقالات التي تعبر عن موقف ما؛ مستطلعاً بطريقة غير مباشرة آراء الكتاب لنتحاور فيما بيننا، كونهم زملائي وأصدقائي جميعاً، وإن لم أعرفهم شخصيا، فأنا أنظر للكتاب جميعا على أنهم عائلتي الكتابية الفكرية التي يمكنني أن أتشارك معهم ببعض الأفكار والأعمال المستقبلية، وإن كان يصيب أحدهم "الغيرة" أو"الحسد" أو "الإهمال" أو "الحقد" أو "العداوة الشخصيّة"، إلّا أنهم كلهم يعنون لي الكثير، هكذا قلت لعليان الهندي، حتى من اختلف معي، فهو خلاف أخوة فكر وأدب وقلم، لا خلاف عداوة ونفور وقطيعة. بهذه الطريقة تعرفت مثلا على الكاتبة روز شوملي التي نشرت لي مقالا في مجلة "شؤون فلسطينية"، وعلى الكاتب عمر حلمي الغول الذي كان يردّ على بعض المقالات التي كتبتها تحت عنوان "ظواهر سلبية في مسيرة الشعراء"، وقد التقيته مرة واحدة فقط دون أن يجري بيننا أي حديث، إنما كان لقاء عابرا خلال أحد مؤتمرات اتحاد الكتاب الفلسطينيين، حيث كانت خدعة الديمقراطية القاتلة التي أفقدتني الثقة بكل تلك المسرحيات العبثية والقائمين عليها وما نتج عنها. ولم يعد "عمر الغول" يردّ على المقالات بعد ذلك، يبدو أنه قد ملّ منها، أو لم يرد أن نختلف على بعض الأفكار التي لم تعجبه بطبيعة الحال، وخاصة فيما يتعلق بما كتبته معترضا على اتحاد الكتاب وأفعاله ومواقف الأمين العام.
الصديق منجد صالح يلفت نظري إلا أن عليان الهندي يختلف عني وعنه في الكتابة، فعليان لا يعمم كتاباته على المواقع الإلكترونية كما نفعل أنا وهو، بل إنه يلتزم بنشرها في مجلة أو في كتاب فقط، ويحسن من استثمار الكتابة ومنتوجاتها لصالحه.
الوقت مرّ سريعاً، ولم نشعر به حقيقة، يستعجل عليان فنجان القهوة؛ لأن ثمة ارتباطات تنتظره في رام الله، وأنتهز هذه الفرصة لأقدّم للكاتب عليان الهندي بعضا من كتبي هدية موقّعة، وعندما يتصفحها واحدا واحدا، يجد أن لديه نسخة من ديوان "وأنت وحدك أغنية"، كان قد حصل عليها من مقر اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، سعدت بذلك بالطبع، وما زاد من سروري هو تمسكه بالكتاب ليكون في بيته، فتلك النسخة موجودة في مكتبته في الجمعية أو في العمل. لم أنتبه لذلك بالضبط، واعدا أن يقرأ الشعر، فهو بدأ بحب الشعر وقراءته منذ مدة. وقد لفت انتباهه أيضا كتاب "يوميّات كاتب يدعى X"، مصمما أن يقرأه كذلك.
سعادة السفير منجد صالح في هذه الجلسة كان مراقبا جيدا للانطباعات والملامح، مشاركا في الحوار بحب، مضفياً على الجلسة كثيرا من الود والحب، إذ ترتسم على محياه بين الحين والآخر علامات الرضا لمدى الانسجام الذي حدث بيني وبين رفيق دربه وصديقه، بل خدنه المقرّب عليان الهندي، ولم ينس أن يرسل إلي رسالة بعد ذلك يخبرني فيها أنه كان مسرورا لمثل هذا اللقاء، فكتب يقول: "أستاذنا. سعدت أنا وسعدنا ثلاثتنا باستضافتنا الكريمة في بيتك العامر. عليان قال لي: لقد وجدت صديقك فراس كما وصفته لي تماما. هذا يعني أنني أجدت وصف صديق مبدع بديع لصديق قديم معتق. تيناتك الخرتمانيات دائما طازجة وشهية، وأرجو أن لا يعرف حسن عبادي حتى لا يطالب بسلة أخرى. سعدت للانسجام الكبير والحثيث بينك وبين عليان. فالأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف. دمت ودام بيتك عامرا. ودامت التينات الخرتمانيات".
أنا من سيفشي هذه المرة يا سعادة السفير بأمر "التينات الخرتمانيات"، معبّرا عن سعادتي العظيمة بهذا الحدث وبذلك الحديث، دمتما صديقين، ولستما ضيوفا بالتأكيد؛ فأنتما أصحاب بيت، وأتشرف بكما شرفا كبيراً. فأهلا وسهلا ومرحبا دائما وأبدا، وفي أيّ وقت، فنحن الضيوف، وأنتما ربّ ذاك المنزل.
وسوم: العدد 946