في رحيل المؤرخ كمال الصليبي "الطائر على سنديانة"

في رحيل المؤرخ كمال الصليبي

"الطائر على سنديانة"

شاكر فريد حسن

[email protected]

يوماً بعد يوم ، وعاماً بعد عام، تتواصل خسارة امتنا وشعوبنا العربية للعقول المفكرة والمبدعين الكبار والمثقفين العظماء ، المنحازين للعلم والحداثة والمعاصرة وللفكر الانساني العقلاني والتنويري الحر والموقف النقدي ، والملتحمين بقضايا الحرية والديمقراطية والعدالة ، الذين اثروا حياتنا الثقافية والفكرية والمعرفية، بكتاباتهم واعمالهم وتنظيراتهم ومقارباتهم الفكرية ومداخلاتهم العميقة ، التي لامست هموم وجوهر مشكلة الانسان العربي ، وسط جهل واسع بين عامة الناس والاجيال الشبابية الفيسبوكية، بمنجزاتهم وافكارهم وجهودهم الفكرية والتاريخية والنظرية والفلسفية .

ففي الاول من ايلول الجاري غيب الموت باحثاً في التاريخ هو اللبناني كمال صليبي ، بعد حياة واسعة وعريضة حافلة بالعطاءات الاكاديمية والتعليمية والبحثية . وبموته تفقد الحياة الفكرية اللبنانية والعربية وتخسر مؤرخاً وباحثاً وانساناً ومثقفاً نهضوياً وتنويرياً، ومفكراً عميق الانتماء للحضارة الانسانية ،واكاديمياً مثابراً على البحث عن المعرفة .

يعتبر كمال الصليبي احد ابرز الباحثين والمؤرخين اللبنانيين والعرب المعاصرين بلا منازع ، ممن بحثوا في تاريخ لبنان والمنطقة العربية وتاريخ الاديان . وهو كاتب سجالي برؤية انسانية حضارية معاصرة ، احتل مركزاً وموقعاً متميزاً مرموقاً في الحياة الثقافية والفكرية والعلمية العربية، وعرف بصلته الراسخة مع الكلمة والثقافة والتاريخ والتنوير والتفكير النقدي العقلاني. تميزت كتاباته ومداخلاته الفكرية وبحوثه التاريخية بالعمق والرصانة والجدية والعلمية ، واثارت مؤلفاته اهتماماً كبيراً وجدلاً واسعاً بين الاوساط والنخب الثقافية والفكرية في العالم العربي ، خصوصاً كتابه الموسوم "التوراة جاءت من جزيرة العرب".

ولد كمال الصليبي بحمدون ودرس فيها ، ثم اكمل دراسته الاكاديمية في جامعة بيروت الامريكية  ، بعد ذلك سافر الى بريطانيا والتحق بجامعة لندن ونال شهادة الدكتوراة على اطروحته "المؤرخين الموارنة وتاريخ لبنان في القرون الوسطى " ، التي اشرف عليها المستشرق الشهير برنارد لويس.

وبعد عودته الى لبنان اشغل رئيس دائرة التاريخ في جامعة بيروت الامريكية ، وفي اواخر حياته كان استاذ شرف في دائرة التاريخ وعلم الآثار في هذه الجامعة ، التي عمل فيها اكثر من اربعة عقود.

عرف عن كمال الصليبي عشقه وهيامه ببيروت ، التي سماها رئة لبنان والعالم العربي. وكان يطرب لسماع صوت "الآذان" من المسجد القريب من منزله . كذلك كان شغوفاً بالآداب والفنون والموسيقى واتقن العزف على آلة البيانو.

بدأ الصليبي رحلته في البحث العلمي التاريخي في الستينات ، عندما اصدر كتابه الاول "تاريخ لبنان الحديث" الذي اثار الاهتمام والاستحسان واغدقت عليه التوصيفات والتقريظات والاطراءات في حينه ، وقيل انه كتاب "يروي التاريخ بسلاسة كأنه قصة، ويجب اعتباره مساهمة كبرى في موضوع الشرق الاوسط " وانه "كتاب مقنع وواضح ورائع الاسلوب " وغير ذلك من الاوصاف والاقوال.

وفي هذا الكتاب يخلص الصليبي الى القول :"ان الشعب اللبناني لم يكن في الماضي امة واعية لكيانها موحدة في اهدافها ، وانما كان مجموعة من الطوائف جمع بينها حلف هو اقرب ما يكون الى العقد الاجتماعي ، وتاريخ لبنان منذ القرن الثامن عشر هو في المقام الاول ، تاريخ تطور هذا "العقد الاجتماعي" واثره في نمو البلاد".

بعد هذا الكتاب توالت اصدارات ومؤلفات كمال الصليبي البحثية التاريخية ، التي نشرت معظمها باللغة الانجليزية ، واثرى بها المكتبة اللبنانية والعربية ، ومن ابرزها :تاريخ الجزيرة العربية ،بلاد الشام في العصور الاسلامية الاولى، بيت بمنازل كثيرة ، البحث عن يسوع: قراءة جديدة في الانجيل، حرب داود، الموارنة صورة تاريخية وغيرها.

اما مفاجأة كتبه فكان كتابه الموسوم "التوراة جاءت من جزيرة العرب " ، ويبين فيه ان "بنية تاريخ التوراة (كتاب بني اسرائيل) ليست فلسطين وانما البحر الاحمر ، ما بين الطائف ومشارف اليمن، وان بني اسرائيل من شعوب الغرب البائدة اي من شعوب الجاهلية الاولى".

ولكمال الصليبي كتاب آخر في السيرة الذاتية ، يحكي ذكرياته، بعنوان "طائر على سنديانة" كتبه بلغة ادبية سلسة وعذبة .

وفي ابحاثه ودراساته يستند كمال الصليبي الى وقائع التاريخ لتفسير الاحداث ، ويرتكز على معطيات لغوية لتفسير التاريخ بالوقائع اللغوية . وقد كتب ابحاثه وكتبه باسلوب ممتع وشائق ولغة شفافة وراقية ، لا تتعب القارئ ولا يمل منها .

وفي النهاية ، كمال صليبي علامة ساطعة وفارقة في الكتابة العلمية التاريخية ، والمؤرخ الابرز والاسطع بين اقرانه ، وممن اضفوا جديداًعلى عملية التورخة والارشفة والتوثيق التاريخي العلمي . وان كان غاب جسداً فانه لم يغب فكراً ، لما تركه  من آثار واعمال خالدة .