رسائل من أحمد الجدع 64-69

رسائل من أحمد الجدع ( 64 )

أحمد الجدع

إلى السلطان المسلم لابو لابو – جزر المهراج (الفلبين) .

أريد أن أقدمك لإخوانك المسلمين من خلال الحديث عن جزر المهراج ، فقد كنت أنت أحد سلاطين هذه الجزر .

جزر المهراج عددها سبعة آلاف جزيرة ، كان على كل جزيرة مأهولة منها سلطان وكنت أنت سلطاناً على جزيرة "ماكتان" .

انتشر الإسلام في جزر المهراج بواسطة التجار المسلمين الذين وصلوها ، انتشر بالقدوة الصالحة ، وبالمعاملة النزيهة ، وبالصدق الذي لا عوج فيه .

ومن الجزر التي وصلها الإسلام جزيرتك "ماكتان" فقد أصبح أهلها ينعمون في ظلال هذا الدين العظيم ، وزحف الإسلام على هذه الجزر حتى وصل إلى نهر الباسيج ، وكان شريف من شرفاء مكة يقود حملة الدعوة إلى الإسلام ، فأسس هذا الشريف مدينة على الضفة الجنوبية لهذا النهر دعاها "أمان الله" ، وغدت فيما بعد عاصمة الجزر التي كونت ما عرف بالفلبين نسبة إلى الملك فيليب ملك الإسبان .

بدأت إسبانيا تبحث لنفسها عن مكانة خارج حدودها ، وكان همها الأكبر حملات تنصير الوثنيين والمسلمين فيما تسطو إليه من البلاد ، وكان أشهر رجالها في القرن السادس عشر مغامر بحري من أصل برتغالي اسمه "ماجلان" حصل على الجنسية الإسبانية وعمل تحت العلم الإسباني .

كان هذا الرجل متوحشاً ، غليظ القلب ، متعطشاً للدماء ، وعندما وصل إلى جزر المهراج كان يخير أهلها بين التنصير والإبادة ، كان أول من أذعن لماجلان سلطان جزيرة سيبو ، فقد تنصر ودخل في خدمة التاج الإسباني ! ونشط هذا السلطان في مساعدة ماجلان في نشر النصرانية في جزر المهراج .

بدأت حملة التنصير بجزيرة ماكتان التي كنت تحكمها .

أخذ ماجلان وجنوده يغيرون على الجزيرة فيقتلون النساء ويذبحون الأطفال ويحرقون البيوت ، يساعدهم في ذلك ما يملكون من سلاح جديد ، سلاح البارود والبنادق ، ولم يكن أهل ماكتان يملكون سوى السهام التي تصنع من نبات البامبو الذي كان يكثر في جزيرتهم .

رغم هذه الوحشية الإسبانية أبيت أن تستسلم ، وأخذت في جمع الرجال استعداداً للمقاومة ، فاجتمع حولك الرجال الذين آمنوا وباعوا أنفسهم لله .

أرسل إليك ماجلان يقول : "إنني باسم المسيح أطلب إليك التسليم ، ونحن العرق الأبيض أصحاب الحضارة أوْلى منكم بحكم هذه البلاد" !!

نعم هذه حضارة الرجل الأبيض ، حضارة القتل والنهب ، حضارة الفتك بالنساء والأطفال ، حضارة هدم البيوت على رؤوس سكانها من النساء والأطفال ، حضارة لا تعرف الرحمة إلى قلوب رجالها ... حضارة التوحش !

وصلت رسالة ماجلان إليك يا سلطان ماكتان ، وصلت إليك وقد ملأ الإسلام جوانحك كلها ، فرددت عليه رد المسلم الأبيّ : "إنَّ الدين لله ، وإن الإله الذي نعبده هو إله جميع البشر على اختلاف ألوانهم" .

أخذتْ ماجلان العزة بالإثم ، كيف ترد عليه وأنت لا تملك القوة لصده ، فأقبل بسفنه وباروده ليغزوك ويحتل جزيرتك ، ثم يتبعها بما تبقى من جزر المهراج وخاصة ما كان منها مسلماً .

وكنت قد أعددت ما استطعت ، وتوكلت على الله .

ودارت المعركة التي عرفت في تاريخ المسلمين ، وتاريخ جزر المهراج بمعركة "ماكتان" فقد انقض ماجلان برجاله وغروره ، وتصديت له بالصدور العارية التي لا تحمل إلا سهام البامبو ، وكان ذلك عام 1522م .

وكانت معركة دامية ، وحرصت أن تتصدى لماجلان بنفسك ، ودارت بينكما صولات فانقض عليك بسيفه ، ولكن براعتك الحربية فوتت عليه مأربه ، فرميته بسهمك فأصاب رقبته ، وتدفق الدم غزيراً فأضعف عزمه ، ثم انقض عليك فأفلت منه ، ثم انقضضت عليه بسيفك القصير فشققت رأسه نصفين .

عندما رأى جنود ماجلان مصيره فروا هاربين إلى سفنهم .

مات ماجلان ... ولم يُعرف له قبر حتى يومنا هذا .

في عام 1730م أسس بعض المبشرين النصارى في جزيرة ماكتان مدينة دعوها باسم أوبون ، وفي عام 1961م صدر قرار جمهوري بالفلبين بتغيير اسم المدينة وسموها باسمك : لابو لابو .

ويعتبرك جميع سكان الفلبين بجزره كلها بطلاً قومياً ، صنت لهم كرامتهم وسطرت لهم صفحات المجد عندما وقفت في وجه ماجلان ، وقتلته بيدك .

في مقررات الدول العربية في مدارسها يدرسون ماجلان ويمجدونه ويتغنون به زاعمين أنه مستكشف عظيم ، ولست أدري ما الذي استكشفه ، وهل كانت جزر المهراج خارج التاريخ حتى يكتشفها هذا الأفاق ... السفاح الأثيم ؟

لا تأس أيها البطل المسلم على مناهج الدراسة في الدول العربية والإسلامية فإن هذه المناهج توجه وتسطر بأيدي غير المسلمين ، وقد وصل الأمر بالدول الاستعمارية أن تفرض على بلادنا شطب بعض آيات القرآن الكريم من مناهجها ... وأذعنت .

أما كتب التاريخ العربية فلا تعرف عنك شيئاً ، وفي الوقت نفسه تمتلئ صفحاتها بتمجيد ماجلان التي تقطر يداه بدماء المسلمين .

لِسَمَك الهامور في البلاد العربية أهمية خاصة ، ففي حجمه الكبير وفمه الواسع تضرب الأمثال ، فالرجال الذين يلتهمون أموال الناس بغير حق يقولون لهم هوامير !

أما في جزر المهراج (الفلبين) فإنهم يطلقون على سمك الهامور الكبير اسمك أيها السلطان العظيم ، يقولون له : لابو لابو ، فإذا سألتهم عن السبب قالوا لك : ألا ترى فمه الكبير ... إنه يفتحه ليلتهم ماجلان !

بين الهامور الجشع الذي يلتهم أموال الناس بالباطل والهامور الذي يفتح فمه واسعاً لالتهام المعتدي ، فرق كبير .

لابو لابو ، أنت بطل من أبطال المسلمين ، وغداً يعتدل الميزان ، ويعرفك أبناؤك من المسلمين ويتغنون ببطولاتك .

رحمك الله رحمة واسعة ، وأسكنك جناته ، وأنا معك .

                

رسائل من أحمد الجدع ( 68 )

------------------

إلى الخليفة العباسي : المهتدي بالله (محمد بن هارون الواثق) .

في التواريخ التي اطلعت عليها : تاريخ الطبري ، مروج الذهب ، الكامل في التاريخ ، إجماع أنك توليت الخلافة سنة 255هـ وأمر العامة والخاصة في فساد ، وقد ذكروا أمثلة لذلك تطول هذه الرسالة إذا بدأنا بسردها .

وقد أجمل أحد الشعراء حالة الناس والجند والقادة والساسة والسادة في بيتين أبان فيهما صعود التحوت وانحدار الأشراف ، فقال :

لعمرو أبيك ما نُسب المعلى

ولكن البلاد إذا اقشعرت

 

 

إلى كرمٍ وفي الدنيا كريم

وصَوَّح نبتُها ، رُعي الهشيم !!

 

وقبل توليك الحكم كان القائدان العسكريان التركيان وصيف وبُغا قد تحكما بالبلاد ، ولم يعد للخليفة من أمر ، بل كان قادة العسكر يُغَيّرون الخلفاء كما يُغَيّرون ثيابهم ، بل كانوا يقتلونهم ويمثلون بهم لمجرد إظهار قوتهم وتحكمهم بالخلافة ، وأن الأمر أمرهم والحكم حكمهم ، وقد قال أحد شعراء ذلك الزمان بيتين مشهورين أصبحا يضربان مثلاً لكل حاكم لا يملك من أمره شيئاً ، بل وأصبحا يجريان على كل لسان كأنهما يصلحان لكل زمان فيه فوضى ، ولكل مكان عمه الخراب والفساد :

خليفة في قفص

يقول ما قالا له

 

 

بين وصيف وبُغا

كما يقول الببغا

 

كنت رجلاً صالحاً مصلياً ، وكنت معجباً بعمر بن عبد العزيز ، الخليفة الأموي الذي تشبّه في عدله بعمر بن الخطاب ، فأحببت أن تسير سيرته ، وتعدل عدله ، فقربت العلماء ، ورفعت من منازل الفقهاء ، وعممتهم ببرك ، وكنت تقول لبني هاشم من العباسيين : يا بني هاشم ، يا بني العباس ؛ دعوني حتى أسلك مسلك عمر بن عبد العزيز فأكون فيكم مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية" .

فما أعجبهم ذلك ، فثقلت عليهم ، وتمنوا أن تقصر مدتك كما قصرت مدته ، وذلك أن عمر بن عبد العزيز ثقل على بني أمية ، فاحتالوا عليه حتى تخلصوا منه !!!

يقول المسعودي في مروج الذهب أنك بنيت قبة لها أربعة أبواب ، وسميتها قبة المظالم ، وجلست فيها للعام والخاص ، فأبطلت المظالم ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ، وحرمت المسكرات ، ونهيت عن اتخاذ القيان (المغنيات) ، وأظهرت العدل ، وكنت تحضر كل جمعة إلى المسجد الجامع ، وتخطب الناس ، وتؤمهم .

يضيف المسعودي : فثقلت وطأتك على العامة والخاصة لأنك حملتهم على الطريق الواضحة !! ، فاستطالوا خلافتك ، وسئموا أيامك ، وعملوا الحيلة حتى قتلوك !

أقول : رعية فاسدة لا ينفعها حاكم صالح .

انظر كيف استطالوا خلافتك وسئموا أيامك ، وأنت لم تحكم فيهم سوى أحد عشر شهراً !!

وأقول أيضاً : لقد ساء الرعية الفاسدة مقامك فيهم لأنك أخذتهم بالعدل والإنصاف ، وأردت لهم الأمن والأمان ، وحرمت عليهم ما حرم الله ، ودعوتهم إلى الحلال ... ولكنهم أبوا ، لأنهم ولغوا في الحرام واستطابوا كل منكر ، وقتل بعضهم بعضاً في الأسواق .

وعندما خالف موسى بن بُغا أحد قادة الجيوش التركية (الموالي) أوامرك ، وجاء بجنوده إلى سامرا مقر إقامتك ، صاح الناس فرحين : يا فرعون قد جاء موسى !!

يطلقون عليك لقب فرعون وأنت المؤمن العادل ، ويضفون على المتمرد معجزات موسى ، يشاكلون بين اسمه واسم نبي الله موسى عليه السلام .

كان المعتز بالله ، خليفة قبلك ، وكان مسرفاً ، وكانت أمه تجمع الأموال الطائلة ، فسكت عنها ، وكان اسمها قبيحة لجمالها ، كانوا يقولون لها ذلك خوفاً من العين ، وقد فقدت بعد موت ابنها المعتز كل ما جمعت ، أخذه صالح بن وصيف أحد القادة الذين اشتركوا في خلع ابنها .

وعندما توليت الحكم بعده ، أشرت إلى ذلك بقولك : أما أنا فليس لي أم أحتاج لها غلة عشرة آلاف دينار في كل سنة لجواريها وخدمها ، والمتصلين بها ، وما أريد إلا القوت لنفسي وولدي ، وما أريد فضلاً إلا لإخوتي ، فإن الضائقة قد مسّتهم .

وفي "الكامل في التاريخ" : وكان الذين قدموا مع محمد بن أوس من خراسان قد أساؤوا مجاورة أهل بغداد : فجاهروا بالفاحشة ، وتعرضوا للحُرم والغلمان بالقهر !

وفيه أيضاً أنك أمرت بإخراج القيان والمغنين من سامراء ، ونفيتهم عنها وأمرت أيضاً بقتل السباع التي كانت بدار السلطان ، وطردت الكلاب ، ورددت المظالم ، وجلست للعامة ... وعندما وليت الخلافة كانت الدنيا كلها قد امتلأت بالفتن !

أقول : كأن هذه السباع والكلاب أعدت لتعذيب الناس وإرهابهم !

يقول المسعودي : أنك قللت من اللباس والفرش والمطعم والمشرب ، وأمرت بإخراج آنية الذهب والفضة من الخزائن ، فكُسرت وضربت دنانير ودراهم ، وأمرت بالصور التي كانت في المجالس فمحيت ، وأمرت بذبح الكباش التي كان يناطح بها بين يدي الخلفاء ، ورفعت بسط الديباج ، وكل فرش لم ترد الشريعة بإباحته ، وكانت الخلفاء قبلك تنفق على موائدها في كل يوم عشرة آلاف درهم ، فأزلت ذلك ، وجعلت لمائدتك وسائر مؤونتك في كل يوم نحو مئة درهم ... وكنت تواصل الصيام .

وذكر صالح بن علي الهاشمي أنه حضر يوماً من الأيام جلوسك للمظالم ، فرأى من سهولة الوصول إليك ، ونفوذ الكتب عنك إلى النواحي فيما يُتظلم به إليك ما استحسنه .

وفي الكامل في التاريخ أنك جلست للمظالم فاستعداك رجل على ابن لك ، فأمرت بإحضاره ، فأُحضر ، فأقمته إلى جانب خصمه لتحكم بينهما ، فقال لك الرجل : والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قيل :

حكمتموه ، فقضى بينكم

لا يقبل الرشوة في حكمه

 

 

أبلجُ مثل القمر الزاهر

ولا يبالي غبن الخاسر

 

فقلت له : أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك ، وأما أنا فما جلست حتى قرأت : "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة" .

قال أبو العباس بن هاشم : كنت عند المهتدي في يوم من أيام رمضان ، فقمت لأنصرف ، فأمرني بالجلوس ، فجلست حتى صلى بنا المغرب ، وأمر بالطعام فأُحضر ، وأحضر طبق عليه رغيفان ، وفي إناءٍ ملح ، وفي آخر زيت ، وفي آخر خلّ ، فدعاني إلى الأكل ، فأكلت مقتصراً ، ظناً مني أنه سوف يحضر طعاماً آخر جيداً ، فلما رأى أكلي قال : أما كنت صائماً ؟ قلت : بلى ، قال : أولست تريد الصوم غداً ؟ قلت : وكيف وهو شهر رمضان ؟ قال : كل ، واستوف عشاءَك ، فليس ههنا غير ما ترى ، فعجبت من قوله وقلت : ولم يا أمير المؤمنين وقد أسبغ الله عليك النعمة ووسّع رزقه ؟ فقال : إن الأمر على ما وصفت والحمد لله ، ولكني فكرت في أنه كان من بني أمية عمر بن عبد العزيز ، فغرت لبني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله ، فأخذت نفسي فيما رأيت .

وفي مقتلك روى صاحب الكامل : أنك خضت معركة مع أعدائك الخارجين عليك ، فقتل من أصحابك خلق كثير ، فوليت منهزماً ، وبيدك السيف ، وأخذت تنادي : يا معشر المسلمين ، أنا أمير المؤمنين ! قاتلوا عن خليفتكم ، فلم ينجدك أحد من العامة ... لقد كان العامة قبل الخاصة قد استثقلوا عدلك واستقامتك !

وتروى أكثر من رواية في الطريقة التي قتلوك بها .

ولكن أبشع ما روي في قتلك ما رواه المسعودي في مروج الذهب ، قال : لحق بك من قادة المماليك ابن عم لقائدك بابكيال ، فجرحك بخنجر في أوداجك وانكب عليك فالتقم الجرح والدم يفور منه ، وأقبل يمص الدم حتى روي منه ، فلما روي من دمك كنت قد أسلمت روحك إلى بارئها ، فقام عنك وقال : يا أصحابنا قد رويت من دم المهتدي كما رويت في هذا اليوم من الخمر .

أقول : لقد فرط الناس بك لأنهم أحبوا الفساد والظلم وفضلوه على الأمانة والعدل وكم من شعب قد فعل هذا وكان مصيره كما كان مصير الدولة العباسية بين يدي التتار !

رحمك الله رحمة واسعة ، وغفر لك ما قدمت ، وجعلك مع عمر بن عبد العزيز في جنته وأنا معكما ... آمين .

                

رسائل من أحمد الجدع ( 69 )

------------------

إلى سلطان المسلمين في الهند أورنك زيب عالمكير .

يا سلطان المسلمين : قالوا إن خلفاء المسلمين أربعة ، ثم أضافوا إليهم عمر بن عبد العزيز فقالوا خمسة ، ثم أضافوا إليهم المهتدي العباسي فقالوا ستة ، وأنا أضيفك إليهم فأقول أصبح الخلفاء الراشدون بك سبعة .

ثم أقول : لو أننا قلبنا صحائف التاريخ الإسلامي لوجدنا أن خلفاء المسلمين الذين اقتفوا سيرة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي يعدون بالمئات ، ولكننا في عصرنا محرومون من التنقيب في صحائف تاريخنا !!

وأقول أيضاً : إن الأجيال التي ستأتي بعدنا سوف تعجب مما نحن فيه ، كيف تركنا إسلامنا فأصبحنا من الجاهلين ، كيف ألقينا بأيدينا وعقولنا إلى الذين لا يرقبون في مسلم إلاً ولا ذمة وقد نهانا الله أن نفعل ذلك فأصبحنا من الخاسرين ... فعمنا البلاء وسقطنا سقوطاً مريعاً ...

أنت كما تقول كتب التاريخ : السلطان أبو المظفر محي الدين محمد أورنك زيب عالمكير بن السلطان شاه جيهان بن السلطان جهانكير بن السلطان جلال الدين أكبر .

هذه السلسلة من السلاطين المغول في الهند كانوا من كبار السلاطين فيها ، ولكنهم لم يكونوا على علم بالدين الحنيف وإن كانوا مسلمين ، فانحرفوا انحرافاً خطيراً مما أدى إلى ضعف الإسلام في نفوس الرعية .

أبوك السلطان شاه جهان وأمك ممتاز محل ، كان أبوك محباً لأمك حباً ملك عليه نفسه ، فبعد أن كان سلطاناً فاتحاً فجع بموت أمك ، فانصرف عن الفتح وعن إدارة الدولة ، وقصر السنوات العشرين الأخيرة من عمره على بناء قبر لأمك الذي عرف في التاريخ بتاج محل وأصبح من عجائب الدنيا في البناء ، ولكنه أضعف الدولة بما صرف عليه من أموال وبما فتن به فانصرف عن بناء الدولة إلى بناء قبر .

دعني يا سلطاننا الكبير أنتقل من هذا النموذج من السلاطين إلى نموذج آخر يشبه ما فعله أبوك ، ولعله اقتداه ، وذلك ما فعله فراعنة مصر في بناء الأهرامات ، فهي قبور أعدت للفراعنة ليقبروا بها ، فكلف ذلك الشعب المصري مئات الآلاف من العمال الذين قضوا في البناء ، وكلف الدولة مالاً جزيلاً مما أضعفها ، وذهب الفراعنة وبقيت الأهرامات ، وذهب أبوك شاه جهان وبقي قبر أمك تاج محل ، وهذه الأبنية الباقية تدل على تسخير الشعوب لبناء القبور وتبذير الأموال في سبيل نزوات الحاكمين !

أما أنت فاسمك محمد بن شاه جهان ، أما ما سبق اسمك وما جاء بعده فكلها ألقاب ، أما أبو المظفر فلعل ذلك يدل على توفيق الله لك في انتصاراتك الحربية المظفرة ، وأما محي الدين فإنه يدل على التزامك بالدين بعد أن فرط به أجدادك ، أما أورنك زيب وهو اللقب الذي شهرت به فمعناه زينة الملك ، فإنك قد غدوت فعلاً زينة ملوك المغول الذين حكموا الهند ، وأما عالمكير (عالم بفتح اللام) فإنه يعني جامع زمام العالم أي حاكم العالم كله !

كان مما أنعم الله به عليك أنك نشأت وتربيت في أحضان علماء الهند ، فقد تولى تربيتك الشيخ محمد معصوم السرهندي ، وهو سليل أسرة من العلماء المخلصين ، فحبب إليك الشريعة الإسلامية ، فنشأت محباً للعلم والعلماء ، وكان شيخك محمد معصوم من علماء أهل السنة ، يسير على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان ، فسرت على ما سار عليه هذا العالم الجليل .

ولأنك واحد من أبناء السلاطين فقد نشأت فارساً شجاعاً ، وأعدك أبوك لتكون محارباً ، فأجدت خوض المعارك ومعاركة الفرسان .

ولا بأس أن نسرد هنا بعض ما برعت به من فنون العلم ، فقد قرأت القرآن وجوّدته ، والفقه الحنفي فبرعت فيه ، والخط فأتقنته ، وأحببت الشعر فنظمته وكنت من السلاطين الشعراء .

أجدت العربية والفارسية والتركية ، كما تعلمت فن الإدارة فأجدته ، وقد ولاك أبوك ولاية الدّكن ، وهي إحدى ولايات وسط الهند ، فأحسنت الولاية عليها ، وأحسنت إلى أهلها فأحبوك ، ونظمت من أهلها جيوشك ، وقدتهم لقمع الثورات ، وإخماد الفتن ، وتطهير البلاد من الفاسدين ، ثم أظهرت العدل بين الناس ، فأقبل على الإسلام أناس كثير .

ولأن أباك أهمل الملك وانصرف إلى بناء قبر أمك عشرين سنة ، وكان ذلك مما أضعف الدولة ونشر الفتن ، فقد قام أخوك الأكبر بالانقلاب على أبيك ، وأحب أن يسير بالبلاد على سنة جد أبيك السلطان جلال الدين أكبر ، وكان هذا السلطان قد قرب المجوس وأبعد المسلمين وأحب أن يبتدع ديناً جديداً يكون خليطاً ما بين الإسلام والمجوسية ، فرفضت ذلك ، وحاربت أخاك حتى استتب لك الأمر ، فمضيت في الفتوحات حتى دانت لك القارة الهندية بأكملها ، وحتى أقبل الناس على الإسلام فأسلموا أفواجاً أفواجا .

خاضت جيوشك في عهدك ثلاثين معركة كبرى ، قدت فيها بنفسك إحدى عشرة معركة ، وكانت معاركك كلها مظفرة حتى لقبوك بأبي المظفر ، وأظهرت شعائر الدين فلقبوك بمحي الدين .

إن تلقيبك بمحي الدين يشير إلى أن أجدادك من السلاطين قد أضاعوا الدين وأبطلوا الشريعة ، فجئت أنت فأحيا بك الله الدين وأظهر الشريعة .

أما إصلاحاتك الداخلية فهي كثيرة ونافعة .

أحببت شعبك فألغيت من الضرائب ما رأيت أنه مجحف بهم ، فكان عدد الضرائب التي ألغيتها ثمانين ضريبة ، نعوذ بالله من الضرائب !

وكان أجدادك قد ألغوا الجزية التي فرضها الدين على غير المسلمين فأعدتها .

واهتممت بالبناء الذي يخدم الناس ، فبنيت المساجد والحمامات ، والخانقات ، والمدارس ، والمستشفيات ، وأصلحت الطرق وأنشأت المتنزهات حتى أصبحت دهلي في زمانك حاضرت الدنيا وزينتها .

ثم إنك ألغيت الاحتفالات بالأعياد الوثنية ، وألغيت عادة تقبيل الأرض بين يديك والانحناء لك ، وأمرت بإلغاء مقدمات الخطب التي تطول في مدحك والإشادة بك .

أما الخمور فقد قمت في محاربتها ، فمنعت دخولها إلى الهند كلها ، وشددت العقوبات على كل من له صلة بها .

ثم إنك حاربت التبذل والتهتك ، وما تبعه من موسيقى هابطة وغناء مبتذل ، وصرفت المغنين عن بلاطك .

ويروى في ذلك أنك خرجت ذات يوم تتفقد رعيتك ، فرأيت جنازة يلبس أهلها السواد ، ويلفون تابوتهم بالسواد ، فسألت عنها فقالوا لك : هذا الغناء يذهب به إلى المقبرة لدفنه ، فقلت معلقاً على ذلك : إذن أحسنوا دفنه لئلا يقوم مرة أخرى .

لم يتيسر لك حفظ القرآن كاملاً في صغرك ، فحفظته بعد أن توليت السلطنة ، وهذا يدل على تقواك وورعك ، وحرصك على دينك ، وحبك لكتاب الله .

حرصت على أن يكون زادك من كسب يدك ، فكنت تكتب المصاحف بيدك ، وكنت خطاطاً ماهراً ، تبيع ما تخطه منها ، وبهذا الثمن كنت تشتري زادك !

وبسبب انشغالك بالفتوحات وتنظيم الدولة لم تستطع أن تحج ، فكتبت مصحفين بخطك وأهديت أحدهما للمسجد الحرام والآخر للمسجد النبوي .

عينت لكل مدينة قاضياً ، ولكل ولاية قاضياً أكبر ، ثم أمرت بتأليف كتاب في فقه المذهب الحنفي ، وأشرفت بنفسك على تأليف هذا الكتاب ، فقد كنت أنت أيضاً من علماء الأحناف ، وطلبت من هؤلاء القضاة أن يقضوا حسب ما جاء في هذا الكتاب ، وقد نسب هذا الكتاب إليك فقالوا : الفتاوى العالمكيرية ، ثم اشتهر بالفتاوى الهندية ، ولا زال هذا الكتاب معروفاً حتى الآن .

بنيت في مدينة لاهور مسجدك الكبير الذي عرف باسم بادشاهي ، ولا زال هذا المسجد قائماً يذكر الناس بك ، وبإيمانك وبمجدك ومجد المسلمين في أيامك .

وبدأت غزوات البرتغاليين في البحار في زمانك ، فتصديت لها وقهرتها ، فتراجعت وضعفت ، ولكنها عادت مستغلة ضعف السلاطين الذين جاؤوا بعدك .

يا سلطاننا الكبير : ولدت في بلدة دوحد في ولاية كجرات في الهند عام 1028هـ 1619م وتوفاك الله عام 1118هـ 1707م عن تسعين عاماً من أعوام الهجرة النبوية ، حكمت الهند منها حكماً استمر اثنين وخمسين عاماً ، وكان حكمك بركة على الهند عامة وعلى المسلمين خاصة .

ثم جاء من بعدك سلاطين أضاعوا الصّلوات واتبعوا الشهوات ، فضعفت الدولة ، وعندما جاء السلطان بهادر شاه الثاني كانت الدولة في حالة مزرية من الضعف ، فانهزمت جيوشها أمام الإنجليز عام 1857م وبهذه الهزيمة انتهى حكم المسلمين للهند ... إنا لله وإنا إليه راجعون .

رحمك الله يا سلطاننا محيي الدين محمد أورنك زيب رحمة واسعة ورحمنا معك .