رسائل من أحمد الجدع ( 68 )
أحمد الجدع
إلى الخليفة العباسي : المهتدي بالله (محمد بن هارون الواثق) .
في التواريخ التي اطلعت عليها : تاريخ الطبري ، مروج الذهب ، الكامل في التاريخ ، إجماع أنك توليت الخلافة سنة 255هـ وأمر العامة والخاصة في فساد ، وقد ذكروا أمثلة لذلك تطول هذه الرسالة إذا بدأنا بسردها .
وقد أجمل أحد الشعراء حالة الناس والجند والقادة والساسة والسادة في بيتين أبان فيهما صعود التحوت وانحدار الأشراف ، فقال :
لعمرو أبيك ما نُسب المعلى
|
|
إلى كرمٍ وفي الدنيا كريم
|
وقبل توليك الحكم كان القائدان العسكريان التركيان وصيف ونقا قد تحكما بالبلاد ، ولم يعد للخليفة من أمر ، بل كان قادة العسكر يُغَيّرون الخلفاء كما يُغَيّرون ثيابهم ، بل كانوا يقتلونهم ويمثلون بهم لمجرد إظهار قوتهم وتحكمهم بالخلافة ، وأن الأمر أمرهم والحكم حكمهم ، وقد قال أحد شعراء ذلك الزمان بيتين مشهورين أصبحا يضربان مثلاً لكل حاكم لا يملك من أمره شيئاً ، بل وأصبحا يجريان على كل لسان كأنهما يصلحان لكل زمان فيه فوضى ، ولكل مكان عمه الخراب والفساد :
خليفة في قفص
|
|
بين وصيف وبُغا
|
كنت رجلاً صالحاً مصلياً ، وكنت معجباً بعمر بن عبد العزيز ، الخليفة الأموي الذي تشبّه في عدله بعمر بن الخطاب ، فأحببت أن تسير سيرته ، وتعدل عدله ، فقربت العلماء ، ورفعت من منازل الفقهاء ، وعممتهم ببرك ، وكنت تقول لبني هاشم من العباسيين : يا بني هاشم ، يا بني العباس ؛ دعوني حتى أسلك مسلك عمر بن عبد العزيز فأكون فيكم مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية" .
فما أعجبهم ذلك ، فثقلت عليهم ، وتمنوا أن تقصر مدتك كما قصرت مدته ، وذلك أن عمر بن عبد العزيز ثقل على بني أمية ، فاحتالوا عليه حتى تخلصوا منه !!!
يقول المسعودي في مروج الذهب أنك بنيت قبة لها أربعة أبواب ، وسميتها قبة المظالم ، وجلست فيها للعام والخاص ، فأبطلت المظالم ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ، وحرمت المسكرات ، ونهيت عن اتخاذ القيان (المغنيات) ، وأظهرت العدل ، وكنت تحضر كل جمعة إلى المسجد الجامع ، وتخطب الناس ، وتؤمهم .
يضيف المسعودي : فثقلت وطأتك على العامة والخاصة لأنك حملتهم على الطريق الواضحة !! ، فاستطالوا خلافتك ، وسئموا أيامك ، وعملوا الحيلة حتى قتلوك !
أقول : رعية فاسدة لا ينفعها حاكم صالح .
انظر كيف استطالوا خلافتك وسئموا أيامك ، وأنت لم تحكم فيهم سوى أحد عشر شهراً !!
وأقول أيضاً : لقد ساء الرعية الفاسدة مقامك فيهم لأنك أخذتهم بالعدل والإنصاف ، وأردت لهم الأمن والأمان ، وحرمت عليهم ما حرم الله ، ودعوتهم إلى الحلال ... ولكنهم أبوا ، لأنهم ولغوا في الحرام واستطابوا كل منكر ، وقتل بعضهم بعضاً في الأسواق .
وعندما خالف موسى بن بُغا أحد قادة الجيوش التركية (الموالي) أوامرك ، وجاء بجنوده إلى سامرا مقر إقامتك ، صاح الناس فرحين : يا فرعون قد جاء موسى !!
يطلقون عليك لقب فرعون وأنت المؤمن العادل ، ويضفون على المتمرد معجزات موسى ، يشاكلون بين اسمه واسم نبي الله موسى عليه السلام .
كان المعتز بالله ، خليفة قبلك ، وكان مسرفاً ، وكانت أمه تجمع الأموال الطائلة ، فسكت عنها ، وكان اسمها قبيحة لجمالها ، كانوا يقولون لها ذلك خوفاً من العين ، وقد فقدت بعد موت ابنها المعتز كل ما جمعت ، أخذه صالح بن وصيف أحد القادة الذين اشتركوا في خلع ابنها .
وعندما توليت الحكم بعده ، أشرت إلى ذلك بقولك : أما أنا فليس لي أم أحتاج لها غلة عشرة آلاف دينار في كل سنة لجواريها وخدمها ، والمتصلين بها ، وما أريد إلا القوت لنفسي وولدي ، وما أريد فضلاً إلا لإخوتي ، فإن الضائقة قد مسّتهم .
وفي "الكامل في التاريخ" : وكان الذين قدموا مع محمد بن أوس من خراسان قد أساؤوا مجاورة أهل بغداد : فجاهروا بالفاحشة ، وتعرضوا للحُرم والغلمان بالقهر !
وفيه أيضاً أنك أمرت بإخراج القيان والمغنين من سامراء ، ونفيتهم عنها وأمرت أيضاً بقتل السباع التي كانت بدار السلطان ، وطردت الكلاب ، ورددت المظالم ، وجلست للعامة ... وعندما وليت الخلافة كانت الدنيا كلها قد امتلأت بالفتن !
أقول : كأن هذه السباع والكلاب أعدت لتعذيب الناس وإرهابهم !
يقول المسعودي : أنك قللت من اللباس والفرش والمطعم والمشرب ، وأمرت بإخراج آنية الذهب والفضة من الخزائن ، فكُسرت وضربت دنانير ودراهم ، وأمرت بالصور التي كانت في المجالس فمحيت ، وأمرت بذبح الكباش التي كان يناطح بها بين يدي الخلفاء ، ورفعت بسط الديباج ، وكل فرش لم ترد الشريعة بإباحته ، وكانت الخلفاء قبلك تنفق على موائدها في كل يوم عشرة آلاف درهم ، فأزلت ذلك ، وجعلت لمائدتك وسائر مؤونتك في كل يوم نحو مئة درهم ... وكنت تواصل الصيام .
وذكر صالح بن علي الهاشمي أنه حضر يوماً من الأيام جلوسك للمظالم ، فرأى من سهولة الوصول إليك ، ونفوذ الكتب عنك إلى النواحي فيما يُتظلم به إليك ما استحسنه .
وفي الكامل في التاريخ أنك جلست للمظالم فاستعداك رجل على ابن لك ، فأمرت بإحضاره ، فأُحضر ، فأقمته إلى جانب خصمه لتحكم بينهما ، فقال لك الرجل : والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قيل :
حكمتموه ، فقضى بينكم
|
|
أبلجُ مثل القمر الزاهر
|
فقلت له : أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك ، وأما أنا فما جلست حتى قرأت : "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة" .
قال أبو العباس بن هاشم : كنت عند المهتدي في يوم من أيام رمضان ، فقمت لأنصرف ، فأمرني بالجلوس ، فجلست حتى صلى بنا المغرب ، وأمر بالطعام فأُحضر ، وأحضر طبق عليه رغيفان ، وفي إناءٍ ملح ، وفي آخر زيت ، وفي آخر خلّ ، فدعاني إلى الأكل ، فأكلت مقتصراً ، ظناً مني أنه سوف يحضر طعاماً آخر جيداً ، فلما رأى أكلي قال : أما كنت صائماً ؟ قلت : بلى ، قال : أولست تريد الصوم غداً ؟ قلت : وكيف وهو شهر رمضان ؟ قال : كل ، واستوف عشاءَك ، فليس ههنا غير ما ترى ، فعجبت من قوله وقلت : ولم يا أمير المؤمنين وقد أسبغ الله عليك النعمة ووسّع رزقه ؟ فقال : إن الأمر على ما وصفت والحمد لله ، ولكني فكرت في أنه كان من بني أمية عمر بن عبد العزيز ، فغرت لبني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله ، فأخذت نفسي فيما رأيت .
وفي مقتلك روى صاحب الكامل : أنك خضت معركة مع أعدائك الخارجين عليك ، فقتل من أصحابك خلق كثير ، فوليت منهزماً ، وبيدك السيف ، وأخذت تنادي : يا معشر المسلمين ، أنا أمير المؤمنين ! قاتلوا عن خليفتكم ، فلم ينجدك أحد من العامة ... لقد كان العامة قبل الخاصة قد استثقلوا عدلك واستقامتك !
وتروى أكثر من رواية في الطريقة التي قتلوك بها .
ولكن أبشع ما روي في قتلك ما رواه المسعودي في مروج الذهب ، قال : لحق بك من قادة الممالك ابن عم لقائدك بابكيال ، فجرحك بخنجر في أوداجك وانكب عليك فالتقم الجرح والدم يفور منه ، وأقبل يمص الدم حتى روي منه ، فلما روي من دمك كنت قد أسلمت روحك إلى بارئها ، فقام عنك وقال : يا أصحابنا قد رويت من دم المهتدي كما رويت في هذا اليوم من الخمر .
أقول : لقد فرط الناس بك لأنهم أحبوا الفساد والظلم وفضلوه على الأمانة والعدل وكم من شعب قد فعل هذا وكان مصيره كما كان مصير الدولة العباسية بين يدي التتار !
رحمك الله رحمة واسعة ، وغفر لك ما قدمت ، وجعلك مع عمر بن عبد العزيز في جنته وأنا معكما ... آمين .