العلامة محمَّد بن حامد الحواري
يوسف بعدراني في عناق وداع أخيه
يوسف البعدراني
السلام على مَن سبقنا بالإيمان وعلى مَن عشنا معه نتبع هدي الرحمان وعلى مَن يهتدي بهدي محمَّد عليه الصلاة والسلام إلى يوم السؤال عن العقل فيمَ أجهدتَه، والبدن فيمَ أضنيته، والمال فيمَ أنفقتَه، والعمر فيمَ أفنيته.
قرأت رثاء الأخوة لأخيهم البار محمَّد بن حامد ودعاءهم له، هم عرفوه طويلاً سنين مديدة قضاها معهم، خبروه معاشاً وفكراً وخلقاً، كان يتفرد بباعه في كل أمرٍ أمرنا الله أن نفقه كنهه. لم أعرفه طويلاً حتى أحدِّث عن فقهه وخلقه، وعقله وأفقه، وقلبه وشغفه، وإن كنت أعلم يقيناً أنها تفوق كل عرف عايشه أحدنا مع غيره. عرفت الرجل لأيام قلائل بلقاءات أقل من القلائل في عام 1964 يأتيني نلتقي لساعة أو أكثر لا يرضى خلالها أن يشرب غير الماء إن ظمأ.
في أشد ظروف الشدة كانت الطمأنينة لها خارطة على وجهه عشت وأنا أتخيلها طوال حياتي لم أرها ترتسم على وجهٍ آخر حتى وفاته. في المسجد جلست إلى جثته وقد أخذتني وحشة العيش بدون فضلٍ مِن دعاءٍ كان يدعو لي به بعد أن تجدَّد التواصل بيننا بعد انقطاع تام مطلق زاد عن أربعين عاماً. أفاقني صوت أخٍ يقول: يا عم هل تريد رؤية وجهه؟ هززت رأسي أن نعم إذ غابت عني طاقة النطق. فبدأ بفك الرباط والجمع متلهف ليرى وجه مؤمن عرفوه لا يجرؤون على تزكيته لله، لأنه وحده علام غياهب السريرة علَّهم يستقرؤون خبراً. سبحان الله كم أعطاه من سحر السمرة المحلاة بحدقة الإيمان الثاقبة، منذ حداثته كان مغوار فهم الإيمان المحدِّث الذي خصه الله بعذوبة وضوح الفهم وصفاء السريرة. يندر أن ينتقل إلى البرزخ بالنضارة والرضا التي كان عليها يحيا، والتي طبعها خالِقَه فيه حياً وميتا. دسست أناملي تحت ذقنه في عنقه أتحسسه كما كنت أفعل عندما أقبله، أتحسس ماذا غيَّر الموت في عروقه، مروئة الرجل في عروقه لا تذوي إلا بجفافها، سبحان الذي يحيي ويميت، لكأني أحسست بتبسُّمه لي يردِّد بعضاً من طويلٍ كان يقوله لي مهاتَفَةً في أيامه الأخيرة: "يا أخي أنا قاعد أدعي أن ألتقي وإياك في الجنة شبعنا من ها الدني والأخوة المؤمنين اللي منعرفهم إن شاء الله". والله لم أحدث ببهائه وهو ميت فقد خِفت أن اُتَّهَم لكن غيري حدثني بها ولله الحمد.
رحم الله الأخ محمد حامد، فالذي عايشه وسبر كنهه لا بد أن يحمد الله على صحبة الإيمان في هذه الدنيا، كان لجَّةً في بحر الإيمان وطيات النفس المطمئنة إلى قضاء الله في الكون والذرات ونفسه الإنسانية. كلمة في عناق روح محمد حامد وهي كلمات من مجلَّد يمكن أن يروي حكايات في جدِّه في سبيل الله. كان أخاً نادراً في صدق النصح والوفاء لعهد الأخوة، فهو من القلة التي عرفتُ طهرها العقلي وعفتها اللفظية ورحمتها النفسية وتراحمها الخلقي.
ذكراه بقيت حية في ذهني، لأنه وقد عرفته في ريعانه فتح الله عليَّ بفراسة الإيمان سيرة حياته، أنه يحيا ويموت على الإيمان المطلَق بالله ودينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتسليم المطلَق بأولويات الإيمان وفروضه وحمل دعوته لإقامة حكم الله. أكرمه الله بصحبة زوجة يندر عمق إيمانها وفقهها بين النساء، وقد كانت مع غيرها السبب بالقول الذي ردده الإمام الفقيه الأمير تقي الدين النبهاني حتى وصلني مِن أكثر مِن أخ: إني لأكاد أغير رأيي بالنساء لما يفعلونه" ويقصد بحملة الاتصالات في عام 1964. بيتُ فقهٍ وصلاحٍ في سيرته ملامح نتصورها في بيوت أحباء رسول الله؛ صحابته، أب وأم وبنين وزوجات ذرية كأنها في التقوى ولِدَت مِنَ التقوى، هدي الله فيها مسكوب، وكأنه قوت يومهم على مائدتهم. والله لو أردت الحديث عن علمه لعجزت تعباً ونصباً لسعته، لم يكن حديثه الجذل يتعبني بقدر ما كان يؤرقني وهو شارف على الثمانين في سنين الأرض. الحمد لله على بر الرجال الذين تركهم بيننا عمار ومصعب أحصوا كتاباته وطبعوها لتكون على مر الدهر شاهداً في الأرض على إيمانٍ ندعو الله أن يتقبله بأحسن القبول إن كان فيه صدق القول الذي تعلمناه من خاتم المرسلين، وأن يتقبل عمل صاحبه بما وعَدَ به عباده الأبرار، وأن يحقِّق لنا وعده للمؤمنين باللقاء في ظلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظله. اللهم ارحم أخي محمَّد بن حامد الذي سبقني فيما نرجوه أن نكون فيه؛ سلسلة النفوس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية فتدخلها في عبادك في الآخرة كما أحييتها على عبادتك في دنيا الأرض، وتدخلها جنتك لتحيا بسعادة الأبدية بعد أن أحييتها بسعادة الإيمان بك وحدك إلهاً، وبقرآنك كتاباً، وبمحمَّد رسولاً للبشر أجمعين إنك على كل شيء قدير.