رسائل من أحمد الجدع ( 53 )

رسائل من أحمد الجدع ( 53 )

أحمد الجدع

-- ----------------

إليك يا إمام المحبين : جميل بثينة (جميل بن عبد الله بن معمر العذري) .

هكذا قال عنك الشاعر نصيب : إمام المحبين ، وأنت إمام حقاً في الشعر ، ثم إنك إمام في الحب العذري (المنسوب إلى الفتاة العذراء) .

أنت معدود في سلسلة الشعراء الرواة ، فأنت رواية هدبة بن خشرم ، وكان هدبة شاعراً راوية للحطيئة ، وكان الحطيئة شاعراً راوية لزهير بن أبي سلمى وابنه كعب بن زهير ، وكان كعب شاعراً وراوية لأبيه زهير ، وكان زهير شاعراً وراوية بشامة بن الغدير الشاعر (وبشامة خال زهير) وكان زهير أيضاً راوية أوس بن حجر الشاعر (كان أوس بن حجر زوج أم زهير) .

يروي الرواة في سبب حبك لبثينة رواية لم أوافق عليها ، فهم يوردون قصة وادي بغيض المأخوذة من قولك :

وأول ما قاد المودة بيننا

 

 

بوادي بغيض يا بثين سباب

 

وأنا أرى أن هذا وصف للوادي وليس اسماً له ، فأنت قد أردت أن تقول بوادٍ بغيضٍ ، وإنما بغض إليك هذا الوادي ما جرى من سباب بينك وبينها ، كما كان ولا يزال السباب يجري بين الأطفال ، ذلك لأن الحب بينك وبين بثينة بدأ منذ الصغر ، وقد قلت في ذلك :

علقت الهوى منها وليداً ، فلم يزل

 

 

إلى اليوم ينمي حبها ويزيد

 

وكنت من الشعراء المبدعين ، وقد لاحظت أنك استعملت أسلوب العرض والرّدّ بكثرة في شعرك ، وكان هذا الأسلوب قد ورد في شعر الشعراء الجاهليين ولكن بقلة ، فأخذته أنت وتوسعت في استعماله .

ويتلخص هذا الأسلوب بعرض صورة من صور الحب أو الشجاعة أو الكرم أو ما شابه من هذه الصفات الحميدة ، ثم يعطف الشاعر بتفضيل محبوبته أو ممدوحه على ما عرض .

وأحب هنا أن أورد عرضاً لما ورد من هذا الأسلوب في شعرك :

قلت ترد على من لامك في حب بثينة :

فما ظبية أدماء لاحقة الحشا
تراعي قليلاً ثم تحنو إلى طلاً
بأحسن منها مقلة ومقلداً

 

 

بصحراء قوٍّ أفردتها ظباؤها
إذا ما دعته والبغام دعاؤها
إذا جليت لا يستطاع اجتلاؤها

 

وقلت أيضاً تصف تمكن حب بثينة من نفسك :

وما صائب من نابل قذفت به
له من خوافي النسر حمٌّ نظائر ،
على نبغة زوراء ، أما خطامها
بأوشك قتلاً منك يوم رميتني

 

 

يدٌ ، وممرُّ العقدتين وثيق
ونصلٌ ، كنصل الزاعبيّ ، فتيق
فمتن ، وأما عودها فعتيق
نوافذ ، لم تظهر لهنّ خروق

 

وقلت في الاستمتاع بحديثها :

وما ماء مزنٍ من جبال منيعة
بأشهى من القول الذي قلت ، بعدما

 

 

ولا ما أكنت ، في معادنها ، النحل
تمكن من حيزوم ناقتي الرَّحل

 

وقلت تمتدح رائحتها :

فما روضة بالحزن صادٍ قرارها
بأطيب من أردان بثنة موهناً

 

 

نحاه من الوسمي ، أو دِيَمٌ هطل
ألا بل لرياها ، على الروضة ، الفضل

 

وقلت في شدة اشتياقك لبثينة :

وما صاديات حمن ، يوماً وليلة ،
لواغب ، لا يصدرن عنه لوجهةٍ ،
يرين حباب الماء ، والموت دونه ،
بأكثر مني غلّة وصبابة

 

 

على الماء ، يغشين العصي ، حواني
ولا هن من برد الحياض دواني
فهن لأصوات السقاة رواني
إليك ، ولكن العدوّ عداني

 

وبعد لقد شاع حبك وشعرك في بثينة حتى ضاق بك أهلها ، فشكوك إلى الوالي الذي أهدر دمك لأهل بثينة ، فضقت بذلك ذرعاً ، وظننت أنك لو غادرت ديارها إلى غيرها سلوتها، فشددت الرحال إلى مصر .

ومصر لا يسلو فيها محب ، ذلك لأنها : أرض الحب ، ألم تجر في أرض مصر أعظم قصص الحب في التاريخ ؟

أذكرك يا جميل بحب أنطونيو وكليوبترا وبحب يوسف وزليخة .

أردت أن تهرب من بلاد أحببت فيها بثينة لعلك تسلو ... فوقعت في بلاد الحب الأصيل ... وفيها مت ، مت بمصر أرض المحبة والعشق :

ولا أنس من الأشياء لا أنس قولها

 

 

وقد قربت نضوي : أمصر تريد ؟

 

ويشعرنا هذا البيت بالمرارة التي كانت تتجرعها بثينة ، وما عبر عن هذه المرارة منها إلا المرارة منك .