رسائل من أحمد الجدع ( 9 )

رسائل من أحمد الجدع ( 9 )

إلى الشاعر العربي التونسي

أبي القاسم الشابي - تونس

الشاعر أبو القاسم الشابي

أحمد الجدع

أتذكرك اليوم والشعب التونسي ينتفض في وجه طاغيته ويردد ، وهو يملأ الشوارع ،بيتك المشهور :

إذا الشعب يوماً أراد الحياة

 

فلا بدّ أن يستجيب القدر

وقد عزم الشعب التونسي أن يحيا كريماً حراً أبياً ، فاستجاب الله له ، ففر الطاغية كما يفرّ الفأر المذعور .

الشعر ، ما الشعر ؟ هل الشعر إلا نفثة مصدور وثورة حرّ مقهور ؟

أراني أيها الشاعر الكبير أقرأ مجلدات من الشعر فلا أجد فيها بيتاً واحداً جديراً بأن يقال له شعر ، وأقرأ بيتاً واحداً أجد فيه من المعاني والعواطف والعواصف ما لا أجده في ديوان .. بل ولا في دواوين ، وهذا ما أجده ويجده هؤلاء الملايين في بيت واحد من شعرك الذي صدحت فيه بملءِ الأفواه ورددته معك كل الشعوب العربية :

إذا الشعب يوماً أراد الحياة

 

فلا بدّ أن يستجيب القدر

بيت واحد يجعل منك شاعراً ملء السمع والبصر .

لقد ولدتَ عام 1909 م وتوفاك الله عام 1934 ولك من العمر ستة وعشرون عاماً، مت شاباً غضاً نضراً بعد أن خلدت نفسك بالشعر ، وما كان لشعرك أن يكون خالداً لولا أنه عبر عن نبض هذه الأمة وأنت تحثها على أن تطلب حقها في الحياة الكريمة وتضمن لها أن يستجاب مطلبها ، ومن طلب حقه استجاب الله له ، ألم يقل سبحانه : ) ادعوني أستجب لكم (؟

وأنت أيها الشاعر الصغير عمراً الكبير شعراً لك في الشعر العربي أشباه في العمر وفي الخلود، فقد مات طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي وله من السنون مثل سنك وخلده شعره، أليس هو الذي قال قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام بيته الذي لا زلنا نستشهد به ونردده بمناسبته :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

 

على النفس من وقع الحسام المهند

لقد مرّ على مولدك مئة عام ولا زلت حياً في نفوس قومك من التونسيين ومن العرب ، يذكرونك ويجلونك ويفخرون بك، ويحلونك في الصفوف الأولى من شعراء العربية الخالدين .

وأنت يا شاعرنا الكبير تونسي ، وكثير من العرب لا يعرفون تونس وتاريخها العريق، وجهادها العظيم .

هم يذكرون اليوم تونس المغلوبة على أمرها ، يذكرون تونس التابعة لفرنسا والتي كاد أهلها أن ينسوا عربيتهم ويرطنوا بالفرنسية .

هؤلاء القوم قد نسوا أمجادهم حين غزا أجدادهم من الأغالبة جنوب إيطاليا ووصلوا في غزواتهم أسوار روما التي وعد رسولنا الكريم أن نفتحها ونُدخلها في دين الله الحق ، وهم حين غزوها وحاصروها كانوا يأملون أن يكونوا فاتحيها .

غزا التونسيون المسلمون روما مرتين ، الأولى عام 236 هـ ( 850 م ) وفيها استطاعوا الاستيلاء على كنيستي القديس بطرس والقديس بولص ، وحاصروا المدينة ، وكان ذلك في عهد البابا يرجيوس الثاني ، ويبدو أن استعدادات المسلمين العسكرية لم تكن كافية لاحتلال المدينة ، فارتدوا عنها بعد معارك ضارية مع الأساطيل النصرانية التي هبت لنجدتها .

وأما الغزوة الثانية فكانت عام 256 هـ ( 870 م ) حاصر فيها المسلمون التونسيون روما وهزموا أسطولاً نصرانياً هبّ للدفاع عنها، ولم يرفع المسلمون حصارهم عن المدينة إلا بعد أن تعهد البابا يوحنا الثامن بدفع جزية سنوية قدرها خمسة وعشرون ألف مثقال من الفضة .

وقد أقام المسلمون التونسيون مملكة إسلامية في جنوب إيطاليا عاصمتها مدينة بالي، وعمرت هذه المملكة ثلاثمائة عام .

أيها التونسيون اقرأوا تاريخكم ، فمن العار أن يكون لكم هذا التاريخ العظيم وأن تستكينوا للطواغيت .

يا أيها الشاعر الكبير : لقد أطلقت صيحتك عام 1933 م قبل أن تموت بعام واحد ، واليوم يستجيب التونسيون لهذه الصيحة، إنها إرادة الحياة :

إذا الشعب يوماً أراد الحياة
ولا بد لليل أن ينجلي

 

فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بد للقيد أن ينكسر

ها هو الشعب التونسي قد أراد الحياة ، فاستجاب القدر وانجلى الليل وانكسر القيد .

شكراً لك مني وأنت ترقد في قبرك مطمئناً، مغفوراً لك بإذن الله .

يا شاعر العرب الطالع من خضراء تونس، والمغرد في دنيا العرب أجمعين .

ومن لا يحبُّ صعود الجبال

 

يعش أبد الدهر بين الحفر

يا شاعرنا الكبير : يأبى الله أن يكون المسلم ذليلاً خانعاً، ويأبى الله إلا أن يكون المسلم عزيزاً .

يا أبا القاسم ... سلام عليك ،  سلام عليك .