أستاذي عبد الكريم الخميسي
وداعاً أيها الأب الطيب!
المكلوم/ توفيق الحرازي
أحتاج لفترة طويلة حتى أستوعب خبر الرحيل الفاجع.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
كنت في مفتتح الحياة الجامعية ومقتبل الكتابة عندما فوجئنا بتغييرات في صحيفة (الوحدة) بداية التسعينيات.. ثمة مدير تحرير قادم، حل بخِبرة (ملحق عريق) في سفارتنا بالسعودية، يجمع خبرة الإعلامي، والديبلوماسي والأديب معاً، كان مشرفاً إعلامياً على صفحة اليمن الوحيدة (بصحيفة عكاظ) الأثيرة لدى جاليتنا، كان له شرف المشاركة في تأسيسها!! بجانب أنه قلم جريء في (الثورة)- الصحيفة التي ظل يحرج مسئوليها بجرأة طرحه!! شهادة أتذكرها من فم القدير احمد إسماعيل الأكوع- نائب رئيس تحريرها آنذاك!
قد يبدو غريباً أن يتم تعيين "ديبلوماسي" عريق لإدارة أشهر صحيفة أسبوعية في بواكير التسعينيات.. غير أن من يعرف طبيعة الاحتقانات التي مرت بها الوحدة يتذكر كيف كان اللهيب السياسي حينها يلقي بظلاله على صحيفةٍ تقاسمها الشريكان نصفاً بنصف.. وربما بدت مسألة ضبط الأعصاب وتليين العلاقة المتوترة- بحاجة ماسة لشخصية "ديبلوماسية" تصلح ما أفسدته السياسة- على الأقل داخل الصحيفة!
بدا الرجل هادئاً في التعاطي مع التعقيدات القائمة في الصحيفة، وناعماً في التعامل الإداري مع الجميع.. وبعد عاصفة صراع مرير بين قيادات الصحيفة، وصخب علاقة محتقنة اكتوى الجميع بنارها، ثمة شعور راودنا بأن الصحيفة- مع هذه الشخصية الوقورة- مقدمة على فترة هدوء وراحة بال!.. وليتها طالت!!
كانت فترة تعارفنا استثنائية، مشبعة بحنان الأبوة وحكمة الكهولة القادمة من رحم الديبلوماسية.. كنت أول المتعاطفين معه في مهمته المستحيلة وأكثر المقربين إليه.. لكنه كان يقدّر وضعنا جميعا في الصحيفة، ووضعي خصوصاً كصحفي في مقتبل الحياة، وحساسية وقوعنا بين نارين (رئيس تحرير- ومدير تحرير) كلاهما في ذروة العداء للآخر- كنا نحاول أن نقف على الحياد بين المنصبين، حتى لا نكتوي بنار أحدهما!!
جاء يومها في مرحلة مثلت فترة استرخاء واستراحة من غربة التنقل الهادئ بين الملحقيات، لكنه لم يكن يظن أنها ستقوده إلى (الوحدة)- الصحيفة العاصفة!
عبثاً حاول مسايرة الأمور ليوائم بين التزامه السياسي والتزامه المهني.. غير أن وجود رئيس تحرير يمثل حينها قبضة (الاشتراكي) بوضوح- سرعان ما فرض على الراحل أن يُسفر عن وجهه (المؤتمري) دون مواربة- وإن بنبرةٍ أكثر هدوءاً من سابقيه!!
هدوء ربما لم يكن يروق للبعض، خاصةً إثر انفجار أزمة اعتكاف شهيرة كانت تتطلب صِدامية التعامل في الصراع بين شريكي الوحدة، وما انعكس عنه من تصدع داخل الصحيفة!!.. حينها كان الراحل قد وصل لقناعة بأن الروح الديبلوماسية المسالمة لم تعد تحتمل الجحيم المتصاعد!!
كان يهمس لي من وقت لآخر بأن الصحيفة بالنسبة له محطة مؤقتة ليس إلا..!! أيقنتُ أن الديبلوماسي الشفاف لايطيل مكوثه في البؤر الملتهبة.. لذا سرعان ما تطلبت المرحلة بديلاً أكثر صدامية لمواكبة صراع سياسي يتجه نحو التشظي!! لينتقل الخميسي حينها قائماً بأعمال رئيس الهيئة العامة للكتاب- خلفاً للراحل القدير الأستاذ الرُقيحي!
ربما أعاده عالم الكتب إلى حالة التوازن النفسي الذي كاد يفقده في الصحيفة!.. لكن بحسابات تلك الحقبة كان الاهتمام بأزمة الكِتاب أبعد ما يكون عن الأجندة السياسية، لذا ظلت هيئة الكتاب في أسفل قائمة الاهتمام الحكومي!.. وعبثاً حاول أن يحرك مياهها الراكدة.. فقد أسَرَّ إليّ- ذات مرة- بأنه يفكر جديا في مشروع (مكتبة لكل حارة)، وأنه يتمنى تعميمه على كل المحافظات.. غير أن الحديث عن طموحات (ثقافية) كان ضرباً من الأماني المستحيلة- إبّانها!!.. حقيقة لم أكن لأصدّقها إلا بعد أن قمت قبل استقالته بأول تحقيق صحفي في بلادنا (عن وضع الكتاب والمكتبات- صنعاء وعدن نموذجاً).. التحقيق الذي أثلج صدره ولخص مصيبة الكتاب وخدمه كثيراً، لولا أن الأسماع حينها لم تكن قد فرغت بعد من صخب السياسة!!
كنت أثق بأن بقاءه لن يطول هناك.. لم أعد أتذكر ماهي الظروف التي دفعته للاستقالة.. غير أن صدمته في أوضاع الكتاب المتردية ربما قلصت طموحه في البقاء حبيسَ جدرانِ خالية من أي دعم، وأسير هيئة تنعدم فيها أبسط إمكانيات النهوض، وضحية مرحلةٍ تهاوى فيها مجد الكتاب إلى الحضيض!
بعدها كنا نعاود التواصل معه انا وثلة من الزملاء- بيننا الراحل الحبيب عارف الشوافي، وكذلك رائد الكاريكاتير المبدع الكبير محمد الشيباني أمد الله بعمره والذي صادقه في الغربة.. عملنا معه في أكثر من محطة.. ومازلت أتذكر ديوان منزله في الطابق الثالث، ظل ملتقى شبابياً مفتوحاً للجميع- أدباء وصحفيين وسياسيين- مثلما ظل قلبه كتاباً مفتوحا يغمرك بالدفء منذ الوهلة الأولى!.. اتصالاته لم تكن تنقطع من وقت لآخر، للسؤال عن تلميذ صغير عرفه في مقتبل الكتابة، وافتقده كثيراً في محطات الأمس، وخسر اليوم لرحيله أباً روحياً- لا طاقة لنا على احتمال فراقه!! عظم الله أجري، وأجر أهله وذويه ومحبيه.. وأسكنك فسيح الجنان.