من مجالس أديب العربية
من مجالس أديب العربية
عبد الله الطنطاوي
صالح أحمد البوريني/عمان |
عبد الله الطنطاوي |
على إحدى روابي عمان العالية في منطقة المدينة الرياضية، وعلى مدخل إحدى عماراتها الشامخة، ضغطنا جرس الشقة التي يقيم فيها الأديب الكبير الأستاذ عبد الله الطنطاوي، إذ كنا على موعد للقاء في بيته، وبوجهه المشرق، وثغره البسام، وكلماته التي تسيل رقة وعذوبة، وتفيض بالبشر والسرور، تلقانا واحدًا واحدًا ؛ يصافحنا ويرحب بنا في بيته المشرع الأبواب لكل الأحباب.
أدب الحديث :
كان مساء من مساءات شباط الباردة، وبعد أن أخذنا مواقعنا من المجلس دار بالقهوة علينا، ثم أخذ موقعه، لتبدأ بعد ذلك نزهة العقل في رياض الفكر، ونجعة الذوق في جنان الشعر، ومتعة التجوال في دروب الأدب، فيركب كل منا فيها مركبه ويدلى بدلوه، ومضيفنا أبو أسامة الطنطاوي يحسن الاستماع، وينصت لكل متحدث، ويتابع كل موضوع، ولا ينازع على الحديث أحدا، إذا آنس رغبة في الاستماع سال كالنهر الزاخر، ليملأ دلاء الأسماع، ويشبع نهمة المشتاق بما يسرده من طريف المواقف وجديد المشاهد والأحداث، وحين تستزيده ينفتح بك على آفاق وآفاق، ويستشهد في حديثه بوقائع وشواهد يرويها رواية المعاين اللماح، ويجمع لك في وصفها تفاصيل الأحداث، حتى ترتسم أمام ناظريك كأنها صورة في لوحة مطرزة بالألوان؛ قد أحسن رسمها وأتقن جمع خيوطها ومزج ألوانها، ولا يفوته ذكر التواريخ والأيام وأسماء الأماكن والأشخاص ووصف الأجواء ونقل صورة المكان بدقائقها ورسم معالم الشخصيات وتصوير أحوالها.
وحين يختطف الأسماع صوت جرس من داخل المنزل، يقطع الروائي المتمرس حبل كلامه ويستأذن ويغادر المجلس ثم يعود بالشاي ومرفقاته، ولا ينسيه ما يتخلل ذلك كله، من حوار وكلمات وتعليقات، أين انتهى به الحديث، فيفاجئنا باستئناف سرده من حيث انتهى، ويكون بعضنا قد نسي جملة الموضوع من لحظة دخول الشاي.
في خندق الكلمة:
كما آمن الطنطاوي بكلمات الوحي، آمن بوحي الكلمات، وانتمى إلى جيش الجهاد بالكلمة، كما انتمى إلى جيش الجهاد بالنفس والمال وبكل ما يملك المسلم الغيور على دينه، الحريص على تبليغ رسالته، ناصعة كما الشمس، واضحة كما النهار. طلب العلم الأكاديمي بقدر ما أتاحت له ظروفه الجهادية، ووقف فيه على قيد خطوات من أرفع الدرجات، التي حصلها، ثم تجاوز مداها إلى قمم سامقة في ميادين البحث والدراسة والإبداع، قصرت دون بلوغها همم الكثيرين.
فكتب في معظم فنون الأدب وضروب الدراسة ومجالات الإبداع، في القصة القصيرة والرواية والمسرحية والتمثيلية الإذاعية والدراسة الأدبية والبحوث النقدية ودراسة الشخصيات وعرض سير الأعلام وأدب الرحلات وفي المقالة والخاطرة والدروس التعليمية والبرامج الإذاعية، وحاضر في محافل ومنتديات وروابط الأدب والفكر الإسلامي وشارك في ندوات ومؤتمرات كثيرة في العالم العربي والإسلامي.
ومارس الكتابة الصحفية والإعلامية المقروءة والمسموعة وأسس وشارك في تأسيس عدد من الصحف والمجلات الأدبية والروابط الأدبية والإبداعية والمواقع الإلكترونية الإسلامية، وهو رئيس رابطة أدباء الشام التي أسسها مع عدد من إخوانه ورفقاء دربه ـ ومنهم المرحوم محمد الحسناوي ـ، ورئيس تحرير مجلة الفاتح التي تشكل إسهاما مرموقا في ميدان أدب الأطفال على الشبكة الإلكترونية.
وما من لقاء ولا ندوة ولا مؤتمر ولا نشاط ثقافي يشارك فيه الطنطاوي، إلا كان منافحا عن الأدب العربي، ومدافعا عن اللغة العربية، وداعيا إلى بذل كل ما في الوسع والطاقة؛ من جهد ووقت ومال وجاه في سبيل نصرة قضايا العروبة والإسلام، وحمل المسؤولية تجاه الأمة، ولا سيما أجيالها الصاعدة الواعدة وشبابها الناهض، واستثمار كل ما يقع تحت اليد من الإمكانات والطاقات للتقدم في كل الميادين، وبخاصة ميدان الأدب الإسلامي الذي يعبر عن ضمير الأمة، ويوثق صلتها بمبادئ دينها، وقيم رسالتها العظيمة، ويرتقي بوعي الجماهير وأذواقهم من خلال ما يقدم لهم من أعمال أدبية متـنوعة.
علو الهمة:
ومما يلفت النظر في شخصية الأستاذ الطنطاوي علو همته، وهي من صفات العباقرة والعظماء، فهو متطلع أبدا إلى الأمام متدفق بالعطاء منطلق نحو العمل والإنجاز، لا تعيقه المثبطات ولا حواجزالعبور، فهو مهيأ لتخطيها والقفز إلى غايته من فوقها، أو الالتفاف حولها والانطلاق إلى ما ورائها، إنه متعلق أبدا بغاية، مشغول بتحقيق هدف، يعكف على القراءة والمراجعة عكوف الصياد على متابعة قنصه، وملاحقة صيده، كأنما ليس في حياته محطة استراحة، يحرر يوميا عشرات الصفحات، ويقرأ في يومه ويراجع ويدقق عشرات الأبحاث والمقالات والخواطر والقصائد ويتابع مئات الرسائل البريدية الواردة إلى موقع رابطة أدباء الشام على الشبكة الإلكترونية والذي يرأس تحريره منذ نشأته، فحبل الوصال بينه وبين الكتب والمراجع والأبحاث والمجلات لا ينقطع، وذلك هو دأب أهل البحث، وشغل أهل العلم، يجدون راحتهم وسعادتهم في رحاب الكتب والمجلدات، وأكناف الصحف والمكتبات، ويستخرجون من أعماقها شهي الثمار، ومن بحارها نفيس الآلئ من أجواف المحار، ويقدمون ذلك كله سائغا مريئا إلى أمتهم، لتجد فيه عدة الصبر في المحن والشدائد، ومضاء العزيمة في الكروب والملمات، ووقود الدفع إلى التقدم، وطاقة الصعود إلى المعالي. همة تنطح السحاب، وعزم يفل الحديد، وثقة تقد الصخر وتهزأ بالصعاب وتتخطى السدود.
خرجتُ من ذلك المجلس كما كنت أخرج عادة من مجالس الطنطاوي، مشحونـا بهمة تـبـعـثـني من قرار اليـأس إلـى بريق نجوم الثريا.
كرم الضيافة:
بعد أن تلذذ الضيوف بأنواع المأكولات الشامية والحلبية وأصناف الفاكهة وألوان المشروبات الساخنة الشهية، وظفروا من مأدبة الأدب بما لذ وطاب من الحكم والنوادر والفوائد الجليلة، دخل على ضيوفه متأبطا مجموعة من الكتب القيمة، وراح يوزعها عليهم بالتساوي، حتى اجتمع لكل واحد من الضيوف الذين زاد عددهم على الثمانية ثمانية أسفار قيمة، أصغرها ديوان شعر وأكبرها كتاب ضخم من مجلدين، وبينها خمسة كتب جديدة من تأليف الطنطاوي اثنان من إصدارات عام 2007 وثلاثة من إصدارات عام 2008. ثم غاب داخل المنزل دقيقة ورجع يحمل في يده مجموعة من الكرات البلاستيكية الملونة وأعطى كل واحد واحدة، وعرفـْنا بعدها أن هذه الكرات إنما هي أكياس لنحمل فيها مجموعة الكتب القيمة التي ( تنوء بأكفنا )، وهو التعبير الصحيح أخذا من قوله تعالى : ((وإن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة)).
في بيت الطنطاوي وجدنا زاد العلم والأدب والشعر والنثر بصنوفه المختلفة، ووجدنا دماثة الخلق والتواضع الجم والابتسامة المشرقة، ووجدنا كرم الضيافة وسخاء النفس، وهبات أهل العلم والحكمة، وأصحاب الكتب القيمة، حيث التجارة مع الله تعالى لا مع الدرهم ولا مع الدينار، والمودة الخالصة في إطار أخوة الإسلام، وفي ظلال رحمى أهل العلم والأدب والحكمة، (( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)).
أذكر أن ذلك المجلس كان حافلا بالعطاء، نديا بالمحبة والإخاء، جديرا بالتسجيل، ولكنه لم يسجل، فهل تفي هذه السطور بحقهّ!؟ ما أظنها تقدر على ذلك.