في رثاء من أربى على الأكفاء نيرى السر
الطيب عبد الرازق النقر
الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
غومباك-كوالالمبور
رحم الله ((نيرى)) فقد كان سيل لا يحجزه سد وبحر لا يحصره ساحل،رحم الله الأرْيحىّ الذى عاجله سهم القضاء ومضى سابقاً أجله، الفتى صاحب الطبع المرح، والثغر الضحوك، واللسان المداعب،الشاب الطرير الذى يؤنس جُلاسه بوجهه المتهلل، ونظراته الوديعة، وبسماتة الرقيقة،السخى الذى يرتاح للندى، ويخف للمعروف، حتى أضحى قبلة لطرائد البؤس، وأنضاء الفقر المدقع،الكريم الذى ينبئُ كرمه عن عقائد مغروسة،وتقاليد موروثة استشفاها من أباء صدق وإخوة عظام،الجواد الذى اذا دعاك الى مائدته العامرة ودائماً ما يفعل تراه مقبلاً عليها منسقاً لأنيتها ومنضداً لأكوابها ومتحفاً لجالسها بكرم يضاهى الطائى ومعن بن زائدة،هذه الخصال النبيلة جعلت نيرى من ذوى الشهرة والنباهة فى كوالالمبور البارعة الشكل،لقد عظمت مكانته فى الأفئدة،وفاض ذكره على الألسنة لسلاسة طبعه،ولين عريكتة خاصة فى الأخذ والعطاء،كما لم يعُرف عنه أنه لجّ فى شر،أو بغى فى خصومة،أو انداح فى منكر.
لقد كان بردّ الله بالرحمة ثراه مضرب المثل،وموضع القدوة،للشباب قاطبة فى بعد الهمة والإعتماد على الذات،همته تلك هى التى قادته الى سِنىّ المراتب وحفزته الى بعيد المدارك،مستفيداً مما حباه الله به من جلاء فى الذهن،ويقِظة فى الفؤاد،وسعة فى الحيلة،وإستطاع فى غضون سنوات قليلة أن يكوّن مع رفقاء له أشهر المكاتب التى تعج بالسياح فى كوالالمبور،نعم لقد صار مكتبهُ قِبلة يعرفها القاصى والدانى،وجهة تقصدها جموع السياح على حرد،تلك الجموع التى تراها فى كل صقع وواد فى ماليزيا،فى اقاريز الشوارع،وحواف الطرق،فى الأبراج السامقة وفى المبانى المترفة بالجمال والحُسن،فى كل مكان تجوبه قدماك ترى قدود مهفهفة،ووجوه تسربلت بالملاحة،وأعينُ حوراء تصيب ناظرها بالعشق والجنون،وشريحة أخرى من السياح لها جلالة تملأ العيون،وقداسة تملأ الصدور،وحشمة تدروءا عنها النظر الشهوان،كان ((نيرى))- سدد الله خلّته وأخلف الله على أهلهِ بخير- يتعامل مع هذه وتلك بأدبٍ جم وسلوك عالى رفيع الأمر الذى جعلهم يتوافدون الى مكتبه زرافات ووحدانا،كما لم يكن من ديدنه أن يلاحق العاجز،أو يتوعد المماطل بالويل والثبور،بل كان يصفح فى أريحية ويعفو فى وداعة،لقد حكى لى أحد المقربين منى ومنه الكثير من المواقف النبيلة التى نالها النسيان وأحاطت بها الغفلة ولكن لن أنسى لو أنسى تلك الواقعة التى بانت فيها عظمة ((نيرى السر)) وسمو أخلاقة ونبله الذى تعجز عن وصفه الألفاظ المصقولة،والعبارات اللطيفة التكوين.
خمسة سنوات خلت من تلك الواقعة ولكنها حاضرة فى ذهنى بكل دقائقها وحواشيها...ذهبت فى تلك الليلة الى منزل أخى الحبيب بغية التمتع بالدفء العائلى ولتشحيذ همتى القاصرة التى ألفت الركون والعيش على هامش الحياة،فعهدى بنفسى أننى إنسان لا تطمح نفسه الى مأثرة،ولا يدفعه طبعه الى مكرمة،لذا كانت رؤية أخى وصحبه الكرام تأطرنى لنيل العلا،وتدفعنى لرقى يفاع المجد،وبعد أن لقحت عقلى بالعلوم،وملأت معدتى حتى لم أجد متسعاً يشكر الحى القيوم،ذهبت الى موقع الحافلة التى تقلنى للجامعة الإسلامية وبينما أنا أسير فى كلل وفتور بلغ مسامعى ضحكة مجلجلة ما كان لى أن ينتابنى شك فيها ولو أنا ذاهلُ غائب عن الوعى،كانت تلك الضحكة لصديقى المهندس اللوذعى واصل الصادق أبوحجل وأيقنت أن ((نيرى السر)) جالس بجواره فهو الوحيد القادر على خلق تلك الهالة الضخمة من الدعابة،وطفقت متدحرجاً على الطريق حتى وصلت اليهم فى ذلك المطعم الذى يؤمه طلاب الجامعة قصد الترويح وتغيير الأطعمة التى كلّت منها النفوس،وعافاتها الأيادى فى المعتقل الإختيارى،وعندما وصلت وجدت وجدت واصل الصادق ومن بصحبتهم قد ذهب بهم الضحك كل مذهب،فجلست متلهفاً مرهفاً سمعى ((لنيرى السر)) متحسراً لذهاب ما مضى من قفشات تضحك الحزين،وتحرّك الرصين،وبعد أن قضينا تلك اللحظات العذبة والتى مرت كلمح البصر،وكان فيها((نيرى السر)) حاضر النكتة والبديهة،أخّاذ البيان،تقوقعنا فى سيارته التى كانت ثمرة جهده الدائب،وعنائه المرهق،كان حينها- أنزل الله على قبره شآبيب رحمته- يسعى وراء مظان القوت بعزم يهد الرواسى ويسعى فى مدارج التجارة ومصاف الاسواق للحصول على الرزق الحلال من أوسع أبوابه،ونحن ننصحه أن يضعط على مكابح أمانيه حتى لا ترديه ونذكره بأنه طالب فى كلية الهندسة وينبغى عليه أن يكمل دراسته الجامعية أولاً ويتفرغ بعضها للتجارة،ولكن يبدو أننا كنا ننظم نصائحنا على معانى سقيمة عنده وقوالب مشوشة،فلم يكن لها أدنى أثر فى نفسه التواقة للمساومة والجدال،لقد كان يدرك أيها السادة أنه بعيد الغور واسع الأفق فى التجارة التى تشرب فنونها منذ طفولته الغضة فى مدينة الكرمك الحدودية،فقيد الهندسة بحبال متينة وطواها فى غيابة الجب،ثم رماها بعد ذلك فى سجون الإهمال،ثم أقبل الى محبوبته يحلق معها فى الأفاق العالية،ويغوص معها فى الأغوار العميقة،ونحن ننصحه اذا تسنت لنا رؤيته أن يعاود الدراسة التى تجرعنا غصصها،وكابدنا ألامها،ونستحلفه أن يجدد ما رثّ من حبلها،ولكن دون طائل.
أخذنا نمعن فى الجدال كل على حدة فى شأن المغنى الذى يصاحبنا عبر جهاز تسجيل السيارة فبعضهم يلح على ((أشانتى ورفيقها المخبول))وأخرى تغالى فى ((جو))وكنت أنا من شيعتهم،واستقر الأمر فى نهاية المطاف على صوت نشاز،ومغنى مخبول، وموسيقى صاخبة تصيب مستمعها بالوقر والصمم،لم أكف عن أبداء تبرمى وإستيائى من هذا الإختيار الغير موفق طيلة مكوثى فى السيارة قبل أن يتملكنى الضيق والجزع من الكيفية التى كان يقود بها ذلك الفتى الذى يخطر فى مطارف الشباب،ويميس فى ردائه،لقد كان يقود السيارة بسرعة جنونية ويتخطى سرب السيارات المترعة براحة يده اليمنى والأخرى تفصح فى جلاء عن طربه ونشوته لسماع تلك الجوقة من الفن المبتذل،وأذكر أننى وغيرى ناشدناه فى أدب جم أن يقلل من سرعة السيارة ولكنكم حتماً تعلمون غلواء الشباب وشِرّته،وفجأة إرتطمت السيارة التى نمتطيها بأخرى وشاهدت مالم يخطر فى بالى قط أن أشاهده،شاهدت قدرة الله تتجلى فى أبهى صورها،تمثلت فى خروجنا نحن وغيرنا جميعاً سالمين من موت محقق وهلاك أكيد،بعد أن تبعثر زجاج السيارة الأخرى وتناثر على طول الطريق،لم نصاب بخدش أو كلْم،ولكن هول المفاجأة جعلنا نمكث جاثمين فى مقاعدنا لا نحرك ساكن،ولا ننبس ببنت شفه،كان المرحوم((نيرى السر)) ثابت الجنان،رابط الجأش،لم يطرأ عليه ما طرأ علينا من جزع وذهول،فبدأ يتفحصنا فرداً فرداً كأنه والد حدب حنون يتأكد من سلامة أولاده،بعد ذلك فطن لشئ كان كفيل بأن يضع القيود والأغلال فى رسغ سائقنا الهمام الذى طوق رقابنا بمعروف لن ننساه له أبد الدهر حينما غامر واعتلى دفة القيادة دون أن يضع فى جيبه الرخصة التى تقيه شر عبث المحققين،وتبعده عن دائرةالمسائلة القانونية...لم يهتم حينها المرحوم ((نيرى السر))جعل الله الجنة متقلبه ومثواه بما آل اليه وضع سيارتة ولا الى الأشياء التى تعقب ذلك،بل كان هاجسة أن لا يضع شرطى كفه على عاتق ذلك الشاب المموق الطرير،وقد كان فلقد هدته بصيرتة النيرة الى الإتصال بشقيق واصل الصادق محمد وأمره أن يأتى الى موقع الحادث وبحوزته رخصة القيادة،وتظاهرنا بالإعياء والفتور وإدعينا رضوض وكسور لا محل لها فى واقع الحال حتى نصرف الأنظار عن الطود الآنف ونجعله يلوذ بالفرار،أذكر أننى مكثت ليلتى تلك فى عبادة وتفكر فى شأن تلك الدنيا التى يمكن أن نغيب عنها فى ومضة عين،وبعدها بأيام أتفقنا على أن نعوض الشهم((نيرى)) ما أصابه فى سيارته ولكنه رفض فى إباء وشموخ قائلاً ما مضمونه أن المال ظل زائل ولكن الأخاء يبقى ويسود...
الان فى كوالا هناك دعاء يصعد من كل قلب،ولحناً ينشد به كل لسان،عند أحشاء الليل البهيم،وأثناء مخاض الفجر الصادق،دعاء يصدر من جباه تسجد فى ضراعة،وأيادى ترتفع فى صغار سائلة من صاغ الأرواح من عدم،أن يتقبل عبده الذى آب اليه وأمتهِ التى وفدت عليه،وأن يعجل نكاحهما التى أخرته يد المنون فى أعالى جنانه ،ووسط خيرة خلقه وعبدانه،وبين سطوة مجده وسلطانه،وأن يلهم كوالا الثكلى التى لم تجف دمعتها ولم تسكن عبرتها منذ أن وافاها اجل ابنها الذى لم يشب فى حجرهاولكنها اشبلت عليه وتعهدته بالرعاية والاهتمام لانه يقرى الضيف ويحمل الكل ويعين على نوائب الدهر،فتاها الذى لم يكن يأكل وحده،ولا يمنع رفده،ولا يوبخ خدمه، فتاها نيرى الذى قضى نحبه منذ أكثر من شهر فى دولة الامارات العربية المتحدة بعد أن أصطدمت بسيارته شاحنة تقل أكداساً من الرمل.
هاهى كوالا تنتحب وتردد دائماً قول محمد بن عبدالله العبدى:
أضحت بخدى للدموع رسوم أسفاً عليك وفى الفؤاد كلوم
والصبر يحمد فى المواطن كلها إلا عليك فإنه مذمـــوم
اللهم صبرها على وقع الخطب،وجلد المحنة،وفداحة النازلة.
أمين يارب العالمين.