محمد عيد البُغَا رحمه الله
"محمد عيد" البُغَا رحمه الله
عصام العطار
رحم الله أخانا الجليل محمد عيد البغا (أبو سليم) وعَوّضَه الجنة، وعوّضَ إخوانَه ومحبيه، وعوّضَ المسلمين منه أحسَن العِوَض.
لقد كانت حياتُه كلُّها من نشأته إلى شيخوخته ووفاته، لِدينِهِ وأمتِه وبلادِه، حسبما بَلَغَتْهُ طاقتُه، ووصلَ بهِ إليهِ اجتهادُه، فكان له وجودُه الملحوظُ في ميادين الدعوة والحركة والسياسة والعمل الاجتماعيّ والخيريّ؛ ولكنَّ الخطَّ الأصيلَ المستمرَّ الأبرزَ في حياته إنّما هو خطُّ التربيةِ والتعليم، والصفةَ الحميدةَ المتقدّمةَ في صفاتِه إنّما هي صفةُ الأبِ أو الأخِ المعلِّم المربِّي.
مارسَ التعليمَ والتربية شاباً في بعض المدارس، ومارسَ التربيةَ والتعليمَ حيثما وُجِدَ من بَعْدُ في مدرسة الحياةِ التي لا تعرفُ الحدودَ والجدران.
وكانت صلتُه بالشبابِ حيثما حَلَّ من البلادِ صلةَ الأبِ والأخِ والمربّي، يحبُّهم كما يحبُّ أبناءَه، ويرعاهم كما يرعى أبناءه، ويحرص على دينهم وخُلُقهم وتقدّمهم كما يحرصُ على ذلك عندَ أبنائه، وهذه مَزِيّةٌ يعرفُها له مَنْ عرفوه عن قُرْب، ويذكرُها له مَنْ رعاهم من التلاميذ والطلاب، وأصبحوا من بَعْدُ أساتذةً كباراً، وعناصرَ بارزةً مِعْطاءَةً في مجالاتهم المختلفة.
أما مكتبته التي أنشأها في دمشق قبل أن يغترب عن دمشق: «دار الفتح»، فلم تكن مجرد مكتبة كبيرة تجمع عدداً كبيراً من الكتب فحسب؛ ولكنها كانت قبل ذلك مدرسة ثقافية حرّةً أمينة راقية، يدخلها الطلبة والتلاميذ وشداةُ المعرفة والثقافة فلا يجدون في صاحبها (أبي سليم) التاجرَ بائعَ الكتب الذي يهمه تصريف بضاعته بأيّ شكل؛ بل يجدون فيه قبل ذلك الأستاذَ المعلّمَ المثقّف الناصح: هذا الكتابُ يفيدُك في دراستك أو بحثك، هذا الكتابُ لا يفيدك كثيراً، هذا الكتابُ يوجدُ في موضوعه ما هو أفضل منه. ويسألُه سائلون في مشكلاتٍ دراسية، ويسأله سائلون في مشكلاتٍ شخصية، فيجدون عنده الصدر الرحب، والمشاركة الوجدانية، والرأيَ السديد، والعون العمليّ حيثما أمكنَ العون.. لقد كانت مكتبة دار الفتح مدرسةً فَذَّة، مدرسةً ثقافيةً واجتماعيةً وخلُقية، روحُها وفكرُها وأداتُها التنفيذية بالدرجة الأولى أبو سليم.
وتتقدّم بأبي سليم، أو بالجدِّ أو بالعمِّ أبي سليم -كما يحبُّ أن يدعوَه بعضُ الشبابِ والكهولِ والشيوخ - فيضعفُ منه الجسم، ويُلِحُّ عليه المرض، فيُلزمُه الفراشَ أو يُصَعِّبُ عليه المسير، ولكنْ لا يحول بينه وبين ما يستطيعُه من عطاء. ونراه بيننا في ألمانيا، في بعض قَدَماتهِ الاضطراريةِ إلى ألمانيا، فنفرح ونحزنُ في وقت واحد، نفرح للقاء أخ حبيب قد لا نلقاه من بَعْد، ونحزن لروحٍ عظيم، وطموحٍ عظيم، وعزمٍ عظيم في جسم سقيم سقيم لا يكاد يقوى على المسير، وعلى تحقيق اليسيرِ اليسيرِ من آمالهِ الكبار الكبار:
الروحُ في الأفقِ آمالٌ مُجَنَّحَةٌ والجسمُ في القيد لم يُسْعِدْ جناحاهُ
ويرحلُ عنّا أبو سليم إلى ما نرجوه له، وندعو له به من رحمة الله ومغفرته وثوابه وفضله.
ولا أقول وداعاً يا أبا سليم، ولكنْ أقولُ إلى اللقاء، فالضعفُ كما تعلم، والجسمُ كما تعلم، ومقابرُنا تهتفُ بنا في مُغْتَرَباتِنا حيثُ ترقُدُ في مقبرةِ (هُلْس) في آخن زوجتي ورفيقتي (أم أيمن) وحفيدتي النابغةُ المتألِّقةُ هدى، وأحبابٌ من أحبابي كانوا هم الأهلَ في غربتي عنِ الأَهل، وكانَ منهمُ الإخوةُ والأصدقاءُ والأبناءُ.
كم كانتْ أمُّ أيمن رحمها الله تحلُم بان نعودَ إلى دمشق، وأن نموتَ في دمشق، وأن نُدْفَنَ في دِمَشْقَ بجوارِ من سبقنا من أهلِنا في تُرْبَةِ (باب الصغير) أو (الدَّحْداح)..
كانت تقول:
- أمِنَ الكثيرِ علينا أن نطلبَ في دمشقَ قَبْراً؟!!
ولكنَّ بلادَنا الحبيبة التي امتدّتْ منها اليدُ الغادرةُ الجانيةُ لتقتلَ أمّ أيمن في ألمانيا، وتقتلَ زوجَها وأسرتَها معها لو كان أمكن، قد ضَنَّتْ على ضَحِيَّتِها الشهيدةِ بقبرٍ متواضعٍ بسيطٍ في مدينتها الحبيبة دمشق!!
وبعدُ؛ فليسَ المهمُّ متى نموت، وأينَ نموت، وأين نُدْفَن؛ بل المهمُّ المهمُّ على مَ نموت.
ليس المهمُّ متى نُسْتَشْهَدُ، وأين نُسْتَشْهَد؛ بل المهمُّ لماذا نستشهد، وفي سبيل ماذا أو في سبيل مَنْ نُسْتَشْهد.
ولَسْتُ أُبالي حيـنَ أُقْتَلُ مُسْلِمـاً علَى أَيِّ جَنْبٍ كـانَ فـي اللهِ مَصْرَعِي
إذَا قَضَى اللهُ أَنْ أحيا حَيِيتُ لَـهُ وَإِنْ قَضَى الموتَ لم أَخْسَرْ وَلَمْ أَخِبِ
اللهم من أحييتَه منّا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان.
رحم الله أخانا أبا سليم وسائرَ أمواتِنا وأمواتِ المسلمين.
اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم.
وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.