ترفقْ بفؤادي يا ربّ...المرثية ( 5)
ترفقْ بفؤادي يا ربّ...المرثية ( 5)
مصطفى أحمد البيطار
رمـاني الدَّهرُ بالأرزاءِ فـصرتُ إذا أصابَتني سهامٌ فـعـشتُ ولا أُبالي بالرَّزايا | حتىفُـؤادي في غشاءٍ من تكسَّرت النصالُ على النصالِ لأنـي مـا انْتفعتُ بأنْ أُبالي | نبالي
الدهر داءٌ , عزَّ فيه الدواء , وتمطى فيه الشفاء , , وجلُّه بلاءٌ, لاحياءَ له ولا وفاء , قاصمٌ للظهور, بالرحيل إلى القبور, واختيار فلذة الأكباد من الدور والقصور,, وطيهم ليوم النشور.
أواه منك يا دهر.. أما خبرتني ؟,أما عجمت عودي , ونثرت كنانتك, واخترتني, فكيف وجدتني؟... أطرياً ليناً؟,... تعبث بي الرياح الهوج.. والأعاصير العاتية.. أم صلباً قاسيا تتلاشى عند قدمي الرزايا والخطوب ؟, لا أعبأ لعاديات الزمن , ولا لزيادة المحن, وإن عمَّتْ وطمَّتْ الفتن.لقد كشرْتَ عن أنيابك لتخيفني وأنشبت فيَّ أظافرك لتفلَ منْ عزمي وعزيمتي, لكن بإيماني وصبري, وإرادتي, تهشمتْ أنيابُك , وقُلِمتْ أظفارُك .. لقد رحلتُ عنْ الظلمِ والظالمين , والفسادِ والمفسدين, فاراًبديني, تاركاً الأهل, و الأحباب , تنهشُ فيهم الذئاب .لترُدَهم عن دينهم في مجتمع سادتْ فيه شريعةُ الغاب .وأُفلتَ المجرمُ من العقاب.وغُيِّبَ الشُرفاءُ الصالحون في زنازين الطغاة الموصدة الأبواب ـ بلا ذنب اقترفوه ـ,و بلا محاكمة أ و حساب . أهكذا دَيْدَنُكَ يا دهر؟لم تدعْني أُضمد جراحي, وأتناسى آلامي , وأرزاءَ أمتي المعذبة,من أبناء جلدتها, و أعدائها الذين يَقتلون, و يُشردون أصحابَ الفكر من الأحرار,مستعينينَ بالعبيدِ من الأشرار, والفجار المنتمين زوراً وبهتانا إلى تلك الديار. ولم تزلْ تطارِدني في غربتي في وحدتي حتى أصبتَ سويداءَ قلبي بعدَ تمزيقِ شغافه , بسهمٍ
رائش. حرمتني فيه أملي, وحلمي, وضياء بصري, وسندي وعوني عند كبري, ولدي البكر ( أحمد) ... ومضى عام على سفرك ثمَّ استشهادك يا أسد الورى. وأنا أتحرق بلظى الأنتظار, والشوق الذي جثم على صدري ثلاث عشرة سنة, وما بقي إلا الأيام المعدودة, كي تقرَّ عيني بتحقيق حلمي وأملي , ويشتدَّ أزري , ويقوى ظهري, ويبرد لهيب شوقي, وأسعد بما بقي من بقايا عمري . .. وإذْ بالحادثات تهزأ بي وبدموعي, و بحزني الذي مازال يُضعفني, ففي كل يوم أراكَ في صحوي , ونومي , أتصفحُ شريطَ الماضي , مُذْ كنتَ فى مهد الطفولةِ شبلاً ,سريع الخطى في الحفْظِ , والتعلم والفهم , والأدب . وعندما اشتدَّ ساعدكَ , واكتمل علمُك ,وزانَك خُلُقُك َ . طوى الدهرُ صفحتك , وحرمني رؤيتك, وتركني أتجرعُ غصصَ الآلام في نهاري, وفي مسائي, و عند الرقود , أتلمس ذكرياتي في رسائلكَ , وصوركَ , وكتبك , وأشْتَمُّ ثيابَك يا أعزَّ مولود, ويخونني دمعي فهو ــ عندما أرى أصحابك ــ بسخاء يجود, أذكرك في نبضات قلبي, في زفراتي , في صلاتي, عند الركوع والسجود , عند ترتيل كتاب ربي , أراك مع المتقين, في جنات الخلود . لقد أشرقت ظلمات كآبتي, بصورتك التي أراها اليوم في ابنتك ( علا ) ... علا التي ــ لم تبلغ الثالثة من العمر بَعْدْــ أخذتْ عنك كُلَ شيء خَلقاً وخُلقاً, ذكاءً وقاداً ,وأدباً جماً , و سرعةَ حفظ السور القصار من كتاب الله . كم كان أمسي من حاضري قريب. عزائي بك يا مهجتي ابنتك ( علا) هي فرحة البيت الحزين . الذي اصبحت البسمة فيه سراب , إذا ما تلمستها لم تجدْ شيئاً وهل اليوم إلاَّ الماضي لغدٍ قريب.؟ وهل يكون الغدُ إلاَّ ماضياً لبعد غدٍ؟. ولَكَمْ خلَّفَ الماضي لنفسهِ مستقبلاً جميلاً من لهفِ الحرمان وزفراتِ الأسى , وعبراتِ الدموع , وتجمُّد الدماء التي لم تَسِلْ . عرفتك يا دهر . لقد بدلتني عن لذة الحياة بغصَّةٍ دائمة حتى الوفاة. فترفقْ بقلبي المكلوم , الذي برحته الجراح , والهموم , إنَّه بعون الله
راضٍ بقضاءِ ربي , راجياً منه العفو , والغفران, وإن زلَّ قلمي, وانقادت له جوارحي , وكبت به عزيمتي. رحماك يارب , أجرني في مصيبتي , وعوضني خيراً منها في دُنيايَّ و آخرتي ..