وقال صاحبه في السجن(9)و(10)

فاطمة محمد أديب الصالح

وقال صاحبه في السجن

( من ذكريات رجل غُيِّّب في سجن تدمر عشرين سنة)

(9)

يوسف برغلي

فاطمة محمد أديب الصالح

[email protected]

كان ليوسف عليه السلام في السجن صاحبان يدعوهما إلى الله ويؤوّل لهما أحلامهما.

أكثر من يوسف في سجن تدمر أكلت الطير من رأسه، قبل أن يجد فسحة لتأويل أحلامه.

 صاحب هذه الذكريات لم يلتق بيوسف برغلي في السجن .. لكنه سمع أخباره ووعاها فقال*:

 كان موظفاً في نقابة المهندسين، يحمل إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، كان مخلصاً في عمله ويمتاز بالهدوء والرزانة، والابتسامة لا تفارق وجهه في تعامله مع المراجعين( زرته مرة في النقابة) اعتقل على الأغلب أواخر سنة80، أعدم في نيسان82.

شخصيته تنظيمية قيادية، لم أجتمع به في السجن لأني جئت مهجعه بعد إعدامه، وما رأيت أحداً في ذلك المهجع إلا أثنى على أخلاقه العالية وشخصيته القيادية.

روى لي فيصل.غ أن يوسف كان في انتظار دوره لقضاء حاجته في المهجع، فقرئ اسمه لتنفيذ الإعدام، فاستأذن الواقف أمامه ليدخل قبله، قبل ذهابه للإعدام.

حزن عليه رفاق المهجع كثيراً. رحمه الله.

لم يكن متزوجاً. 

(10)

نبيل طالب

هل يعيب سجينا في تدمر أن يضعف أحياناً فيؤثر نفسه على غيره، راحماً جسده المنهك من المزيد من الركل أو الجلد، أو راحماً روحه الحزينة من سماع المزيد من الإهانات البذيئة القبيحة؟

 كان ذلك يحصل أحياناً وتتعاتب رفقة الألم والمرارة، إذ لا فسحة أبداً أن تهرب من أوجاع جسدك إلا بمزيد من الوجع لجسد غيرك.. فأي راحة وأي نجاء للروح في هذا؟

مرض نبيل ولم يُرحم.. ولم يحاول تدليل نفسه( إن كان في تدمر ما يصح تسميته دلالاً)، يقول صاحبه في السجن:*

 التقيته في المهجع( 25) حموي من مواليد(58) غالباً، يبدو أنهم استغلّوا طيبته، كان طويلاً سميناً فبدا أكبر من عمره، لو مال على حائط لهده، مرة كان الشباب يريدون تنظيف الجدران فأركب واحداً على كتفيه وفوقه واحد وسار بهما بمحاذاة الجدران ليصبوا الماء وينظفوا.

عمل ميكانيكي ديزل قبل اعتقاله سنة 82 أو83، غير متزوج، كان بسيطاً درويشاً، كما يقولون في الشام( اللاوي/ نسبة إلى الله تبارك وتعالى) يخرج للخدمات العامة( شطف الباحات، غسيل صحون، أحياناً للضرب، يتبرع كأن يكون واحد مريض أو ضعيف قد عُلّم(لتعذيبه في وقت لاحق) فيخرج بدلاً عنه.

أوائل عام تسعين بدا عليه شيء من الهزال، ثم تبين أنه السل، ضعف جسده وبدا عليه الإعياء، عزله الشباب في طرف المهجع، وحاولوا مساعدته بما يستطيعون، أثر عليه البرد وسوء التغذية، خبروا عنه مرة أو مرتين فلم يستجب أحد، أهملوه رغم أن غيره كان قد نقل إلى مهجع السل.

اشتد عليه المرض، أمرونا مرة بالخروج جميعاً مع المرضى للتنفس، فتحامل على نفسه وخرج ولم يجرؤ أحد على القول أنه لا يستطيع الخروج، كنت أنا أيضاً مريضاً، خرج كل المرضى لكن لم يضربوهم. وعندما جاء الأمر بالعودة إلى المهجع، والعودة تكون تحت السياط والركل والصفع، فيتدافع الناس نحو الباب بسرعة وقسوة أحياناً، لأن التباطؤ يعني المزيد من الضرب والإهانة، ولا مكان للضعيف أو البطيء إلا تحت الأرجل. وكنا حوالي مائة وخمسين، اختلط المريض بالسليم، وكان نبيل ضعيفاً جداً فقلت لنفسي بضع ضربات زيادة لا بأس، وأمسكت بذراعه لأساعده على الدخول بسرعته هو، كنت أمسك بيده حتى يستطيع السير، فصرنا آخر الداخلين، لطف الله بنا فلم نتلق إلا عدداً قليلاً من الضربات.

الحقيقة أنه لم يطلب مني المساعدة، لم يكن أحد يفكر في أحد، رأيته لا يستطيع المشي فأمسكت بيده، كأنه كان في حالة نزع، كاد يسقط.

دخلنا المهجع قال: الله يجزيك الخير والله موقفك الحقيقة يسجّل..

كادوا يجهزون عليه، ووصلنا على آخر نفس.الحمد لله.

كان شباب من أهل الخير يدعمونه، يعني لو أصاب أحدهم نصف تفاحة يمكن أن يقدموها له(1)

بعد يوم أو يومين( ويبدو أن سمنته أثرت على قلبه، فلم يعد يتحمل وحدث عنده احتشاء من أثر المرض) خبر عنه مسؤولان صحيان: تمام عبد وآخر من دير الزور( لؤي.خ) ، خبرا عنه مرتين ثلاثاً أربعاً لا فائدة، كل مرة يقولون طيب ..

رحمه الله.. نبيل، صحونا على صلاة الصبح، كان الوقت شتاء، تشرق الشمس حوالي السابعة إلا ربعاً، الاستيقاظ في السادسة، عندما ننهض يتسابق الشباب إلى الدورة ليتوضؤوا، ومن كان في حاجة إلى الحمام دخل.

كنا مصطفين في دور، قام نبيل يتسند يريد الوضوء، المسؤول عن الباب( موفق.ي/حماة) رآه قادماً قال له: يا نبيل أناديك عندما يخف الزحام.

 قعد إلى جانب باب الدورة وأسند ظهره، ولما جاء دوره ناداه المسؤول فلم يرد ظنوه نام، لكنا سمعنا شخيره.. ماذا حصل قالوا: مات نبيل، كان ذلك عام تسعين.

لم يصدق أحد أن الأمر صار بهذه السرعة، سبحان الله قام يتوضأ.. بلمح البصر كان قضى..

غسلوه بسرعة ثم خبروا عنه، قالوا: شلون هيك(كيف هكذا) مات، ولك(ويلك) أنت تخنقهم؟ عمري ما سمعت أحداً يموت بالسل!

هذا كلام أبو حشيشة(2) رغم أنه ممرض وقام بدورات تدريبية في الجيش، يقول أنه عمره ما سمع..المسؤول لم يجرؤ على الرد، هل يستطيع أن يقول له أني خبرتكم أكثر من ثلاث مرات ولم تستجيبوا؟

         

الهوامش:

* بلغة صاحب التجربة وأسلوبه ما أمكن.

(1) إضافة عن أحوال المرضى ومعاملتهم:

أحياناً يأتي الدعم من مهاجع أخرى، نجد على باب المهجع كيساً فيه برتقال أو تفاح، طبعاً يسرقون منه..

10- 15 تفاحة أو برتقالة، كم يصيب الواحد، لكن يمكن هناك أخ أحق مني، الله يعافينا، ناس كثيرة كانت تتصدق على المريض، هناك مرضى باستمرار، مجموعة مجموعتان من المرضى، ممكن ثلاثة، يعزلونهم لا يخرجونهم للتنفس، لايشتغلون بالسخرة العامة، المسؤول الصحي ورئيس المهجع يقرران، لايمكن أن يكثر المرضى.. يقول الرقيب: (ولك ليش مكتّر مرضى، مشان( من أجل) ما ينضربوا..) أحياناً يدخلون المهجع فيضربون الجميع، حدث هذا عدة مرات.

مرة أخرجونا على أصوات الضرب، ثم دخلوا المهجع هل هناك مرضى أدخلونا وضربوا حتى المرضى،

الواحد لابد أن يستسلم لقدر الله، بَرّا أو جُوّا، لكن ممكن أن الإنسان يضعف.

طبعاً كنا نتعاتب، هذه دروس.. المفروض ألا تتكرر الأخطاء، واحد مريض في حالة نزع تخرجه تعرضه للموت! ناس تتربى ولا تكررها، والله في ناس مرضى يخرجون ويقولون خلّ غيري، يمكن بحاجة.

والله أحياناً أكون مريضاً متعباً فأخرج لا أريد منّة من أحد، لا مسؤول صحي ولا أحد.

مرة خرجت للتنفس يمكن أنازع، جريب(انفلونزا) شديد أحس برأسي يدور، أوقفونا إلى الجدار، جاء الرقيب ليخرج  مهاجع أخرى.. واقف إلى الجدار حوالي ربع ساعة والشمس تطرق رؤوسنا ربما نصف ساعة، لم أشعر إلا وأنا أسقط إلى الأرض، ركضوا إلي وأمسكوا بي قال أدخلوه المهجع، دخّلوني وأنا لا أحس ولا أدري بما يحصل،) دخّلوني رفعوا رجليّ، صحوت قليلاً، أعطاني المسؤول الصحي بضع حبات.

رغم ذلك الله يلطف بنا، ما يقدره الله لابد أن تتحمله، يعني الواحد لابد أن يكون إيمانه قوياً، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، الواحد يجب أن يقرأ ويدعو أن يصرف الله عنه السوء، وما كتبه رب العالمين سيكون..

نعم استبقَوني مرة للمرض، المسؤول الصحي أحياناً هو يقول لي: أنت تبقى، مرات قليلة الحمد لله، اللهم اصرف عنا السوء.

 (3) مدير السجن آنذاك، وانظر سبب هذا  اللقب في الحلقة/5( محمد حسن عجعوج)