نفثات في الذكرى

 سحبان فاروق مشوح

نفثات في الذكرى

 سحبان فاروق مشوح

الشهيد القائد الدكتور

عبد العزيز الرّنتيسي

 ذكرى استشهاد القائد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله تعالى ...

   كأن الله جلت حكمتُه ، وتباركت إرادتُه ، كتب على مداد هذا اليراع ألا يجريَ من أسَلَته علىالقرطاس إلا كما تجري دموع العين من شؤونها على الوجنتين ؛ عبراتٌ ساخنات ، وقطراتٌ لاذعات ، فتخط أحرَّ أسطر الرثاء ، وتكتب أمرَّ كلمات العزاء ، وتنسج أحلك لوحة لتسلية الفؤاد في أحلك ليلة من طريق هذا الحزن الطويل ، ومن تضحيات هذا الدهر المستطيل ...

     بالأمس كنا نسير في موكب الذكرى الدامعة ، ومركب الماضي الأليم  ..  واليوم .. نحمِّل النفوس ما لا يستطاع فتحملُ ..

     بالأمس كنا نكفكف دمع العين في مسيرة كقطع الليل المظلم ؛ لا يعرف أولُه من آخره ، ولا سحَرُه من عتَمته .. واليوم .. جفن العين بالدمع مترعُ ...

     بالأمس كنا نداوي القلبَ العليل في طريق ما رأت فيه العينُ ضوءَ الشمس ، ولا انبلاجَ الفجر ، ولا سمعت فيه الأذنُ صوتَ العدل ، ولا صيحةَ الحق .. واليوم .. يُنكأ القَرح فيه .. وإن نكء القرح بالقرح أوجعُ ...

     بالأمس كنا نجمِّع أشلاء النفس الذاهبة .. في زمان يزيل الهامَ عن مقيله ، ويذهل الخليلَ عن خليله .. واليوم .. تمزَّق أشلاؤها بسيف القتل والغدر و التغييب ...

     بالأمس كنا نزيل عن الكواهل والظهور بعضا من أثقالها .. في يوم عابسٍ نهارُه ، مكفهرٍ ليلُه .. واليوم تنقض أوزارُ الهموم ، فقار الظهور ، وتكسر أعباءُ الكروب ، أضالع الصدور .. ولكن ما على الدهر معتِبُ ...

    بالأمس كنا نسير في ذكرى وداع أحمد ياسين .. واليوم .. نسير في ذكرى وداع عبد العزيز الرنتيسي ...

    سلام عليك يا أبا محمد .. أيها القائدُ المجاهد ، والداعيةُ المعلم ؛ وأنت تشير إلينا من شرفات عليين بأن أتموا الصفوف ، وارفعو الكفوف ؛ مؤذنين بفرج قريب ، وفتح رغيب ، يعز فيه وينصر ؛ أولياء الله المؤمنون ، وأنصار الحق الصادقون ، وجند الإسلام المخلصون ، ويذل فيه ويخزى ؛ أتباع الشيطان الخاسئون ، وأذناب الباطل الخاسرون ، ومسوخ الإلحاد المبطلون ..

    سلام عليك وأنت تقتحم منابر الحجج والآراء بسديد رأيك ، وقوة منطقك ، سلام عليك وانت تخوض أعتى معارك النضال والسجال ؛ بحصافة تصورك ، وصفاء منطلقك ، سلام عليك وأنت تخرق أغلف القلوب ، وأغلظ العقول ؛ بسجيح خلقك ، ورجيح عقلك ...

    سلامٌ عليك شاديا بذكر الله ، مرتلا لآيه ، سلامٌ عليك مرسلا أجمل الأشعار ، صادحا بأصدق الكلمات ، سلام عليك منافحا عن أعدل القضايا وأحقٌّها ، ذادّا عن عرض أمتك بأشرف الوسائل وأكرمِها ...

    ومهما كان للذكرى من ألم يُشيب الوليد ، ويذيب الحديد ، أو وقع يقبضُ الألسنَ عن الحديث ويخرسُها ، ويقصرُ الأيدي عن الإشارة وييبسُها .. فإنه لا بد من الاعتصامِ بحبل الصبر ، والتمسكِ بصريمة الجلد ، وعدمِ التخلي عن الثوابت ، أو التزحزحِ عن الحقائق .. فإن الماضي لا يردُّه نارٌ يلهبها الإنسانُ من الهم على كبده ، ولا يرجعه حزنٌ يسلطه من الغم على جسده .. فيطير قلبه ، ويطيش عقله ، وتطيح نفسه ... 

    وهذا الفقد خطبٌ قد عَظُمَ حتى هان ، ورزءٌ قد خشن حتى لان ، ولعل سبب الذكرى قد صار آخرَ ما في كنانة الأيام من بلايا ، ونهايةَ ما في خِزانتها من رزايا ...

    ولا بد بعد ذلك من أن تستجيبَ بإذن الله الأقدار .. ولا بد بعدها من فلق للأسحار .. ولا بد من أن يجيءَ الحقُ ويتمكنَ ، ويزهقَ الباطلُ ويضمحلَّ .. دون عودة إن شاء الله ...

    نم يا أبا محمد قريرَ العين ، ساكنَ الفؤاد ، طلقَ المحيا ، باسمَ الثغر ، وضَّاح الجبين ، بعد أن نلتَ المنى ، وحققتَ الرجا ، وصدقتَ العهد ، وبررتَ القسم ، فكنت من الذين أنعم الله عليهم حين قال جلَّ ثناؤه : "رجالٌ صدَقُوا ما عاهدُوا اللهَ عليه ، فمنهمْ من قضى نحبَه ومنهمْ من ينتظرُ ، وما بدلوا تبديلا " ... 

    وليسعد قبرُك بضم جسدِك ، فما بقيت روضةٌ إلا اشتهت أنها قبرُ ... وليهنأْ ضميرُك ، فما زلتَ في حنايا الصدور مُوارى .. وما زال دربُكم سبيلا للسراة مُنارا .. وحبُّكم في الفؤاد قد صار على الأفواه سرا وجهارا ...

    سيدي .. غفر الله لك ، ووسعك في رحمتِه ، وأجزل لك من مثوبتِه ، وجعلك من أهله وخاصتِه ، وأسكنك _ برفقة سيد الأبرار _ في جنتِه ...  

                 

 المستنير بعزيمتك الطامع بشفاعتك

17  /  نيسان  / 2005  مـ.

8 /ربيع الأول / 1426 هـ.