رسالة إلى محمود درويش

رسالة إلى محمود درويش

 

د. محمد وليد

           

أخي محمود درويش..

هذه رسالة حب.. وعتاب.. ورجاء..

إني معجب بحبك للترابْ.. وعشقكَ للوطن..

لقد عشتُ مع "أوراق الزيتون" أحلى اللحظات..

وذرفت على العصافير التي تموت في الجليل أغلى الدمعات..

ورددت مع "عاشق من فلسطين" أجمل الأغنيات..

لقد أثملتني صهباء الأعراس..*

وأذهلني "حصار مدائن البحر"..*

فرحت أردّد معك هي أغنية.. هي أغنية..*

لقد قالوا إن لديكَ تجربة إنسانية كبيرة.. فأنت تغني غناء الحكماء.. وأصبح شعركَ عالمياً يحكي للدنيا قصة الظلم الذي وقع بشعبك..

وقالوا إن ثقافتك واسعة.. ورؤيتك شمولية.. وهمومك كونية..

سمعت ما قالوا فتساءلتُ..

كيف ضاقت رؤيتك الشمولية.. عن رؤية الله..؟

وكيف ضاقت ثقافتك الواسعة عن ركن صغير تجلس فيه خاطرة إيمان؟

لماذا هذا العزوف الواعي عن البعد الإيماني؟

والانقلاع الاختياري عن الجذور؟

لقد مشى على تراب فلسطين الذي تحبّه الأنبياء

وبين حقوله أزهرت رسالات السماء..

ألم يدفعكَ حبُّ التراب لحب الأنبياء الذين ساروا عليه..

وحبّ الرسالات التي أزهرت بين زيتونه ونخيله.

أخي محمود..

هل تحسب حقاً أن اليسار سيعيد بيارات البرتقال إلى أهل يافا..

وهل تؤمن حقاً أن "راكاح" سيوزع حبات الزيتون على أطفال العرب واليهود..

وهل خطر ببالك أن الماركسية تستطيع أن تحول اليهودي عن يهوديته.. والمسيحي عن مسيحيته والمسلم عن إسلامه؟..

إذا خطر ذلك على بالك فاستمع يا صديقي إلى أجراس الكنائس تُقرع في فضاء روسيا وأرمنياً..

واستمع إلى تكبيرات المآذن تملأ السماء في أذربيجان وطشقند..

وإذا لم تقتنع بما تسمعك أذناك..

فانظر إلى جموع اليهود السوفييت الذين تربوا في ظل ماركس ولينين وهم يتمرغون بالتراب حالما تطأ قدمهم –أرضك- أرض فلسطين..

وإذا لم تقتنع فانظر إلى أطفال الانتفاضة..

إن الحجر الذي يحملونه هو ترابك الذي تقدسه في أكثر حالاته صحة وعافية..

وإن التوحيد في فمهم هو أجمل نداء تردده جبال فلسطين وسهولها وغاباتها، وهو النداء الذي نما بشكل طبيعي..

مثلما ينمو الزيتون في الجليل..

وكما تنمو شعيرات البرتقال في بيارات يافا..

وهو السنديان الضارب في أعماق الأرض.. والذي أزهر بصدق وحرارة دون أسمدة شرقية أو مياه غربيّة.. فلا خوف عليه من الموت إذا انقطع السماد والماء..

لقد ملأ أطفال الانتفاضة سمع العالم وبصره..

فوقف القمعُ الإسرائيلي أمامهم حائراً.. فبعد ما حسب أنه انتهى من قراءة كتاب فلسطين اكتشف أنه ما زال في الصفحة الأولى..

ووقف القمع العربي خائراً خائفاً.. فهو يخشى عودة الذاكرة للشعوب التي ما زال يعتقد أن أفضل وسيلة للتعامل معها هو الكرباج..

أخي محمود..

لقد قلت إن القمع الصهيوني جعل منك عربياً..

ثم جعل القمع العربيّ منك فلسطينياً..

فمتى يجعل القمع منك مسلماً يسعى لتحرير كل بني الإنسان؟..

ولماذا هذا الاختيار الرافض لأكبر عمق استراتيجي للتراب والوطن؟

لماذا هذا الرفض الواعي للإسلام؟

حين طرح أحد أصدقائك* سؤاله الشهير: أين هم المفكرون الشهداء في العالم العربي" لم أكد أصدق أذنيَّ..

وحينما استرسل في أسئلته الشاعرية "من منا استشهد على بياض ورقة.. على طريقة الحلاج أو سقراط أو لوركا* أحسست أنه طعنني في الصميم..

أوَ لا يعتبر شهيداً إلا من مات في سبيل الماركسية..

ولا يعتبر مثقفاً إلا من طفا على مياه الاشتراكية..

ألم يسمع صديقك بشخص اسمه سيد قطب؟

وإذا لم يكن سيد قطب شهيداً فمن يكون الشهيد؟

أليس من أوقدت ظلاله كل شمس كاتباً..

أليس من دخلت معالمه كلّ بيت مفكراً..

أليس من هزت كتاباته أعمدة الرأسمالية والشيوعية مثقفاً..

أم أن جمعية الثقافة الاشتراكية الديمقراطية قد حجزت جواز سفره ومنعته من الدخول إلى عالم المثقفين؟

أيُّ وهم يعيشه المثقفون الثوريون في الوطن العربي..

على من يثورون؟ ومع من يثورون؟

أي وعي غائب هذا؟ وأي جحود للتراب والأرض والوطن.

إن ثورة المثقفين الثوريين على دينهم هي أكبر عملية انتحار جماعي أبله.. عرفها التاريخ الحديث.

أخي محمود..

لقد قالوا عنك إنك مجنون التراب.. تحبه وتعشقه إلى حد الجنون..

وأنا افهم هذا العشق عندما أعلم –كما قلت في مذكراتك- أنك في إحدى ليالي الصيف وعمركَ ما زال سبع سنوات أيقظتك أمك من النوم فجأة لتجد نفسك مع مئات من سكان قريتك الحبيبة "البروة" تعدو في الغابة والرصاص يتطاير من فوق رؤوسكم.. وبعد ليلة من التشرد والهروب وصلتَ مع أحد أقاربك الضائعين إلى قرية غريبة ذات أطفال آخرين.. وسمعتَ للمرة الأولى كلمة "لبنان"..

لقد سرقَ اليهود طفولتك..

وشردوا أيامك..

ونهبوا ترابك..

فإذا كنت تحب هذا التراب.. فأحبَّ من يحبون هذا التراب ويفدونه بحبات قلوبهم..

وإذا أحببتهم فلا تسفّه أحلامهم وتغرس في قلوبهم الأشواك..

لا تشمتهم في دينهم وإلههم..

لا تقل لهم إن عين ربك نائمة عنك.. وأنكَ وحبيبتك قد خُلِقْتُما غلطة في هذا الزمان..

ولا تطلب من أمك حين عودتك إليها أن تأخذك وشاحاً لهدبها، وأن تشد وثاقك بخصلة من شعرها عساك أن تصبح إلهاً..

ولا تخاطب شخصاً فتقول له "ذلك الظل الذي يسقط في عينيك شيطان إله"

ولا تقرأ باسم الفدائي الذي خلقا.. من جزمةٍ أُفقا..

إذا كنتَ يا محمود تحب التراب..

فأحب من يحبون هذا التراب..

وهل من الوفاء للتراب أن تستهين بمن خلقه..

وأن تهين أهلك الذين يمشون عليه.. ويفدونه بمحاجر عيونهم..

وهل من الوفاء للذين شاركوك العدو في ليلة الشتات المظلمة أن تزيد شتاتهم وتهين ربهم في أرضهم وديارهم..

إن الإيمان بالله ليس حلية روحية نتزين بها..

وليس مذهباً فكرياً نخلعه ونلبسه

ولكنه حاجة بشرية مثل حاجتنا للماء والهواء..

وفطرة إنسانية تجري مع الدم في العروق..

وانتماء ضارب الجذور في أعماق هذه الأرض..

إن عين الله ليست نائمة.. فهي ترعى كل شيء.. وترعاكَ أيضاً يا محمود..

فأنت لم تخلق عاطفة في هذا الزمان، فلديك مهمة جليلة هي تحرير هذا التراب المغتصب

ولا يغربْ عن بالك أبداً.. أن الشيطان والإله لا يجتمعان..

إلا في تصورات تمقت هذه الأرض..

وأناسٍ يكرهون هذا التراب..

أخي محمود..

أريد أن أهمس في أذنيك بكلمة أخيرة..

أنت تعرف أن اليهود على باطلهم.. قد غلبوا العرب على حقهم.. فلماذا؟..

الجواب بسيط يا صديقي..

إن اليهود سيحاربون بعقيدة صهيونية سامرية..

والعرب هجروا عقيدتهم الإسلامية..

وها هم يدفعون الثمن غالياً من أرضهم وكرامتهم..

إن القوم الذين يحاربون بعقيدة –ولو باطلة- يهزمون من لا عقيدة لهم..

لكن ثق يا محمود..

أنه عندما تأخذ العقيدة الحقة دورها.. فإن العقيدة الباطلة زائلة لا محالة..

وإن غداً لناظره قريب.؟. ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

فمتى يبدأ التغيير؟؟؟

           

الهوامش

* أسماء دواوين شعرية لمحمود درويش.

* الشاعر نزار قباني.

* مؤلفات لسيد قطب.