ظلال الأيام لأنور العطار
مقدمة ديوان ظلال الأيام
لأنور العطار
للأستاذ: علي الطنطاوي
لقد وعدت الأستاذ أنور العطار بهذه المقدمة منذ خمس وعشرين سنة، من يوم أسمعني أول مقطوعة له. قلت له: ستصير يا أنور شاعراً كبيراً، وسأصير أنا كاتباً وأكتب مقدمة ديوانك.
ولقد صار أنور شاعراً كبيراً فهل صرت أنا كاتباً؟ إنني كتبت إلى اليوم أكثر من خمسة آلاف صفحة، أنشأتها إنشاء ولم أجمعها جمعاً، ونقلتها عن قلبي ولم أنقلها عن الكتب، ولكني لم أصر كاتباً، لأنني أعجز الليلة عن إنشاء أحب الفصول إليّ، وأوجبها عليّ: هذه المقدمة التي وعدت بها أنور من خمس وعشرين سنة.
لقد قعدت لأكتبها، فأحسست أنها قد عادت لي أيامي المواضي التي افتقدتها وأيقنت أنها لن تعود، ورفع لي الستار عن عالم كله حب وطهر وجمال، عالم عشت فيه أنا وأنور أمداً، ثم أضعناه وضللنا طريقه. عالم كان حقيقة فصار (مع الأسف) ذكرى، وكان واقعاً فغدا خيالاً، وكنا فيه فصرنا غرباء عنه، لا نراه إلا بقلوبنا من خلال ضباب الماضي.
فُتحت عليّ أبواب الذكريات، وكرَّ عليّ هذا الماضي، كأنما هو (فلم) حافل بكل جميل ونبيل، فلم طويل عرض في لحظات وقد تصرمت في تأليفه وإخراجه ثلاثون سنة، فلم كنا نحن أبطاله وكنا نحن ممثليه، فصرنا نرى فصوله تعرض علينا من بعيد:
رأيت الفصل الأول من هذا الفلم وكان في المدرسة الثانوية الوحيدة في دمشق (مكتب عنبر) في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما أبصرت أنور العطار أول مرة، أبصرت تلميذاً رقيق العود، دقيق الملامح، أنيق المظهر، من غير أن يبدو عليه أثر الغنى، شارد النظرات، يمر في ظلال الجدران، خفيف الوطء، حالم الخطى، كأنه طيف يمر على خيال نائم، يعتزل التلاميذ لا يكاد يثب وثبهم، ولا يلعب لعبهم، فسألت عنه من يعرفه، فقال: هذا تلميذ شاعر اسمه أنور العطار، وما كنت يومئذ أؤمن بغير شعراء الجاهلية والشعراء الإسلاميين، ولا أرضى لنفسي أن أقرأ شعر المتنبي ولا يرضى ذلك لي مشايخي، لئلا تفسد (قالوا) ملكتي، ولم أسمع بعد باسم شوقي ولا باسم المنفلوطي، فما أبهت لهذا الشاعر الذي اسمه أنور العطار، ولا طلبت صحبته، ولا ظننت أنه سيكون بيني وبينه اتصال، حتى كانت تلك المصادفة المسعدة التي كان لها في حياتي وفي حياته أبلغ الأثر.
كانت هذه المصادفة على باب (المدرسة البادرائية) في ليلة من ليالي رمضان، أيام كان رمضان يزور دمشق حقاً، وكانت تدري دمشق بزيارته وتحتفل بلقياه، وكنت خارجاً منها فواجهت أنور داخلاً إليها، فوقف يحييني ووقفت أحييه، وكلمني وكلمته، واتصل الحديث ونحن قيام تحت مصباح الشارع، حتى جاء ذكر شوقي، فأنشدني قصيدة له، قرأها بصوت عذب حالم حنون، فأحسست أنه كان يمس بكل كلمة من القصيدة حبة القلب مني، فأحببته، وأنت تلقى المرء أول مرة فتحسّ بأنك تحبه أو أنك تكرهه، لا تدري لحبك ولا لكرهك سبباً، سر ركبه الله في نفس الإنسان.
وفهمت منه أنه يسكن في (السمّانة)، وكنت أقيم في (الديمجية)، فاصطحبنا، وذكرت له موت والدي في تلك الأيام، فطفق يحدثني عن موت والده وهو صغير، واجتزنا سوق العمارة، والعمارة في دمشق كحي الحسين والأزهر في مصر، إن ضاع منك رمضان ببهائه وجماله وجدته في الحسين أو في العمارة، وإن خفيت عنك معالم حسنه في كل مكان وجدتها في العمارة أو في الحسين، ولكني ما أدركت تلك الليلة شيئاً من هذا البهاء، لقد كان ما أسمع من أنور أبهى عندي مما أرى، وجعلنا طريقنا على (الدحداح) وهنالك، على قبر أبيه وعلى قبر أبي، ولدت هذه الصداقة التي أثمرت شعراً ونثراً وحباً وإخلاصاً، وكانت من أسعد الصداقات، وهنالك في مدينة الأموات، عاشت هذه المودة التي لا يستطيع أن يعدو عليها الموت، لأن الأدب أكسبها الخلود.
وكرّت فصول الفلم تتتالى، فرأيتني غدوت صديقه وغدا صديقي، يبثني شكاته وأبثه شكاتي، ويجد في حياتي مشابهاً من حياته وأجد في حياته مشابهاً من حياتي، قد ألف بيننا الأدب وألّف بيننا اليتم، وأننا كنا مستورين، على حالة هي فوق الفقر ودون الغنى.. حتى كأنني هو وكأنه أنا.
وصار يسمعني شعره، فأجد بواكير شاعر متمكن، لا محاولات طالب مبتدئ، وأجد في هذه (البواكير) قوة في التعبير، وجدة في التفكير، وأبياتاً سائرة، وصوراً رائعة، فهو يقول في الدموع:
عجبي من لغة غامضة تطرب الناس على شتى لغاها
وهو بيت نبيل في مبناه وفي معناه:
ويقول في وصف العمر (عمر البائس):
والعمر يحكي مستغيثاً علا أنينه ثم تولّى صداه
وطفق أنور يرسل قطع الشعر، شعر القلب، تترا، يستقيه من معين صاف لا ينضب، فتتناقله الألسنة، وتمشي به الصحف، وتستقبل فيه العربية شاعراً جديداً ملهماً، ويفتح له أستاذنا الأكبر محمد كرد علي أبواب المجمع، فيقيم له ولإخوانه الثلاثة(1) حفلة تكريمية ينشد فيها أنور قصيدة من الشعر الجيد، عنوانها (الشاعر)، يحسن اختيار موضوعها وألفاظها ومعانيها، وتشق له هذه القصيدة الطريق إلى مجلة (الزهراء) التي كان يصدرها في مصر خالي محب الدين الخطيب، والتي كانت أرقى مجلة أدبية في تلك الأيام، وكنت أودّ أن ينشرها الشاعر في هذا الديوان (الذي لم يضم إلا الأقل من شعره) ليعرف منها القراء كيف كان أنور ينظم الشعر قبل عشرين سنة، وكنت أود إذ لم تكن في الديوان أن أرويها كلها، ولكنها طويلة تملأ صفحات من هذه المقدمة.
وشعر أنور في تلك الفترة آهات أبدعها الفن صوراً، ودموع صاغها البيان شعراً، ومقطعات حلوة، ما أدري ما الذي زَهَّدَ الشاعر فيها فلم يثبت منها في هذا الديوان إلا مقطوعة (الحمامة).
ورأيت فصول (الفلم) تتتالى.. فرأيت فيها كل دقيق وجليل من حياة أخي في الصغر وفي الكبر، ورفيقي في السفر وفي الحضر، وأنيسي في المسرة وفي الكدر: أنور.
رأيت أيامنا في المدرسة، ونحن تلاميذ نعيش من الأدب في دنيا الخيال، إذ أعجزتنا دنيا الواقع أن نجد فيها ما نصبو إليه ونتمناه، لا نصدق متى ينقضي النهار، وننجو من هذيان جماعة الرياضيات، وطلاسم أصحاب الكيمياء، حتى نفر إلى كتب الأدب، نقرأ كل بارع من القول، ونتدارس كل رائع من البيان.
ورأيت أنور وقد بذ الأدباء جميعاً في (العلم..) بالرياضيات، حتى لقد عرف قطر الدائرة، وأضلاع المثلث، ولم يبق عليه ليبلغ نهاية العلم إلا أن يعرف القاسم المشترك الأعظم الذي لم يسمع به امرؤ القيس.. رأيته دائباً يكد ذهنه، ويمسح عرقه، يحاول أن يفهم سر المعضلة الكبرى التي لا يفهم لها سر، ويحل المشكلة التي لا يعرف لها حل: الجذر التكعيبي. وأشهد أني جزت الأربعين من عمري، ورأيت أياماً سوداً، ولقيت شدائد ثقالاً، وسلكت البوادي المقفرة، وركبت البحار الهائجة، وعلوت متون السحب، فما رأيت في البر، ولا في البحر، ولا في الجو، شيئاً أشد ولا أصعب، من هذا الجذر التكعيبي.
ورأيتنا وقد فرقت بيننا الأيام أمداً، فاشتغلت أنا بالصحافة، وغامرت في السياسة، وآثر أنور التعليم، فكان مدير المدرسة الأولية في (منين)(2)، في هذه القرية النائمة في حجر (القلمون) الأدنى، ترى مواكب الأحلام بأجمل (عين) وأشدها سحراً، وأكثرها فتوناً: عين منين، من لم ير عين منين، ما عرف سحر العيون، ولا رأى جمال الينابيع، ولا رشف خمر الجمال على مائدة الطبيعة.. فكنت أزوره فأقضي ليلة أو ليلتين في جنة قد جمعت فيها النغم، أسكر فيها سكرين: سكر الجمال وسكر البيان، وأخضع فيها لسحرين: سحر الطبيعة وسحر الشعر، وأجمع فيها الماضي البهي ذكرى حلوة، والآتي الشهي أملاً مرتجى، في حاضر ضاع في نشوة اللذة حتى لم يبق لنا منه حاضر نحسه وندركه، نقضي الأصباح نستمع إلى أشعار السواقي المنحدرة من الينبوع وأشعار أنور، ونقطع الأماسي عند الصخور التي أفضنا عليها من قلوبنا الحياة فصارت تحنو علينا، وتولينا الحب، وأرقنا عليها البيان فأمست تحدثنا، تتلو علينا أحاديث الغابرين، وتقص قصص الأسلاف من غسان(3)، أصحاب المجد المؤثل، فتنحس كأنه قد عاد الماضي، ورجعت (القصور البلق) عامرة، وبعث المجد وعاش الحب، حتى لكأننا نسمع همس العشاق، وآهات نشواتهم، ووسوسة قبلاتهم، ونرى خيالات العناق من وراء الأستار.
أيام سعدنا بها، وما سعدنا بالصخر ولا بالماء، ولكن بأحلام الشباب، رحمة الله على شبابنا، وعلى تلك الأيام..
ورأيتنا وقد صرت أنا معلماً في الجبل من دمشق (في المهاجرين) وصار هو معلماً في السفح (في الصالحية)، فكنا نرتقب المساء ارتقاباً، فإذا حل انحدرت أنا من هنا، وانحدر هو من هناك حتى نلتقي عند (العفيف)(4)، نفرح بهذا اللقاء فرح حبيبين التقيا بعد طول الفراق.
ورأت أيام العراق، زهرة أيامنا أنا وأنور وزينتها، أيام بغداد، سلام المحبة والوفاء منا على بغداد، وسلام على أهليها، وسلام على الأثري والجوادي وروح الراوي وعلى إخواننا وعلى تلاميذنا فيها.
ويا ما كان أحلى أيام بغداد، ويا ما أبهى لياليها، ويا ما أطيب ما حملنا منها من ذكريات. على دجلتها سلام بردى، وعلى نخيلها سلام الحور، وعلى أبوذيتها سلام العتابا، وعلى أعظميتها وكرادتها ورستميتها سلام الربوة والمزة والشاذروان.
لقد كنا فيها معاً أبداً، يدرّس أنور في صف وأنا في صف، وربما دخلت فدرست مكانه وقعد فاستمع، وربما دخل فدرّس مكاني فاستمعت، ونمشي على الجسر معاً، وما في الأرض مكان أحفل بذكريات المجد والشعر والغرام من جسر بغداد، ونتبع الشط، ونرتاد الرياض، نزور قصور الخلفاء، ومواطن الشعراء، وخلوات المحبين، نؤم الديارات والأطلال والمقابر، نتنسم عرف الأجداد، ونستروح رائحة الماضي، ونستنطق دجلة، ونستخبر الآثار، ونسأل النخيل، ونسمع من الأرض ومن الناس أخبار الماضي الفخم، وأحاديث الجدود العبقريين، وقصص المجد الذي لم تر عين الزمان ولم يحمل متن الأرض مجداً أجل منه ولا أعظم، ولا أرسخ أساساً ولا أعلى ذرى.. ولم يكن يرانا الناس إلا معاً، ولا يقولون إلا أنور وعلي وعلي وأنور، وربما خلطوا فقالوا علي العطار وأنور الطنطاوي.
لقد كانت أيام بغداد أجدى الأيام على أنور ففيها اختزن في نفسه أجمل الصور، وفيها نظم أروع القصائد، وفيها ابتدأ في حياة الشاعر عهد جديد هو عهد الشعر القومي: شعر الحماسة الوطنية، فازدادت بذلك هذه القيثارة السحرية وتراً جديداً، خرجت منه أطيب النغمات.
رأيت هذا كله فأحسست أن الدنيا تدور بي، واختلطت عليّ الصور وتداخلت المشاهد، فلم أعد أستطيع أن أتبين شيئاً، ولم أستطع أن أكتب شيئاً..
ورأيت فصول (الفلم) تتتالى، ثم تكر راجعة، فإذا نحن في سنة 1930، وقد بقيت بلا عمل (عقب عودتي من سفرتي الثانية إلى مصر)، فأخذني أنور إلى إدارة فتى العرب، فقدمني إلى معروف الأرناؤوط لأعمل معه في الجريدة، وقد عملت معه شهوراً، وصارت الجريدة ملتقانا أنا وأنور، وصارت مدرستنا الثانية نأخذ فيها من نفس معروف، ومن أدب معروف، وما رأينا في الأدباء، من هو أحلى حديثاً، وأظهر صفاء، وأملأ بالأدب الحق من فرعه إلى قدمه من معروف، إذ كنت تشعر وأنت معه أنه يعلو بك عن المادة، ويسمو عن المطامع، ويوصلك بحديثه وابتسامته وطفولته، إلى عالم كله حب وعاطفة وتجرد.. وشيء آخر كنت أحسه ولا أملك التعبير عنه، شيء مثل الذي تحسه وأنت تقرأ في رواية معروف (عمر بن الخطاب) ومثل الذي تحسه وأنت تسمع حديث أنور، عندما يكون أنور في سبحاته الشعرية..
ورأيتنا، ونحن في مطلع سنة 1933، وقد لقيت أنور، فقال لي: لك عندي مفاجأة تسرك، قلت: وما هي؟ قال: لا، إلا أن تتغدى معي في الدار، فذهبت معه فإذا هي مفاجأة تسر حقاً: العدد الأول من مجلة الرسالة.
ومن ذلك اليوم دخل بيننا (نحن الاثنين) صديق ثالث، أحببناه وأحبنا، هو الزيات ورسالته، وصارت الرسالة مدار أحاديثنا، وصارت مستقر أدبنا، وصار الزيات أخاً لنا كبيراً، وصديقاً عزيزاً، وإن كنت لم أره إلا بعد ذلك بثلاث عشرة سنة، ولم يره أنور إلى الآن.
ورأيت أيام المعجزة التي ظهرت على يد الصديق منير العجلاني وكانت تظن من باب المستحيلات، أيام المجمع الأدبي، حين ألف بين رجال ما كنا نتخيل أنها تؤلف بينهم الأيام، لاختلاف مذاهبهم في الأدب وتباعد مسالكهم في التفكير، وتباين طرقهم في الحياة، وكانت أيام ألفة ونشاط وأمل، فأعقبها أيام افتراق وكسل ويأس.. فيا ليت منيراً الوزير يكمل ما بدأه منير المحامي.
رأيت هذا كله، فحرت ماذا أصف وعم أتكلم. وكيف أستطيع أن أجمع في كلمات دنيا العواطف، وعالماً من الذكريات وآلافاً مؤلفة من المشاعر كانت أثبت من الزمان لأنها بقيت وقد ذهب الزمان، وكانت أجمل من العمر لأنها هي جمال العمر؟
رأيت (هذا) كله، وما (هذا) إلا تلخيص لحياة أنور، الشاعر الذي عاش حياته كلها كما يعيش الشعراء الخلص الملهمون، شعراء القلب والروح واللسان، لا شعراء الألفاظ وحدها والبيان، الشاعر في قلبه المتفتح أبداً للجمال المترع بالخير الممتلئ بالحب، وفي لسانه الذي يفيض أبداً بالبيان، وينفث السحر الحلال.
وفي هذا التلخيص تحليل شاعرية أنور، فإذا أخذتم عليه أنه كان حليف الحزن صديق الأسى، قد وقف شعره على تقديس الألم العبقري، فبكى الأحلام الضائعة كما بكى الأوراق المتناثرة في (الخريف)، وخلد مظاهر الأسى في النفس وفي الطبيعة، فاعلموا أنه لم يكن يستطيع غير ذلك، وأن الشاعر لا يطبع نفسه كما يشتهي ولكن يطبعه الله بطابع البيئة والزمان، ويكوّن مشاعره في طفولته، قبل أن يشعر هو ليكوّن مشاعره كما يريد، ولو استطاع أن يصغر فمه أو يجمل أنفه، لاستطاع أن يبدل قلبه ويحول عواطفه.
وقد نشأ أنور مثلما نشأت أنا(5)، وفتح عينه على الدنيا والحرب العالمية قائمة، ودمشق في أشد أيامها، ومظاهر البؤس والألم في كل مكان، فكان يرى الازدحام كل صباح على الفرن، ولم يكن يفتح منه إلا كوة صغيرة يبرز منها رأس الخباز ليعطي السعيد من الناس كتلة سوداء لا يعرف ما هي على التحقيق، وإن كان يعرف أن اسمها (الرغيف)، والجياع ينبشون المزابل ويأكلون قشور البطيخ، والنساء يعملن من دون الرجال لأن رجال دمشق قد أكلتهم الحرب، والاسم المرعب اسم جمال باشا يملأ القلوب فزعاً. ثم رأى المشانق وشهد المآتم، فامتلأت نفسه بهذه الصور القاتمة حتى لم يبق فيها مكان لغيرها. وإذا هو رأى الأعراس والأفراح أيام فيصل، فإن هذه الأيام لم تكد تبدأ حتى انتهت، ولم نكد نستمتع بفرحة الاستقلال في حلقة التتويج، حتى ذقنا غصة الانتداب في مأساة (ميسلون).
فلا تلوموا أنور إن كان الحزن طابع شعره، وأن الفرح فيه مثل الفجر الأول لا يكاد يبدو بياضه في الأفق حتى تبتلعه بقايا الليل فهذا هو السبب...
ولا تلوموه إن تغزل، فتكلم عن الرؤى والأحلام وترك الحقائق، وعلا إلى سماء الخيال ولم ينزل إلى أرض الواقع، وأنه عمم وجمجم، فلم يخصص ولم يصرح، فإن البيئة التقية التي نشأ فيها أنور لم تكن ترى في الحب إلا (ذنباً) على صاحبه أن يستغفر الله منه، وأنا أؤكد أن أنور كـ(نصيب) الشاعر الذي سمَّى قوسه ليلى ليتغزل بها. إن أنور لم يتصل في حياته بفتاة على نحو ما يفعل شباب اليوم، وإنه كان أعف وأشرف من أن يفكر في هذا أو يحاوله، فمن هنا جاء الذي تلومونه عليه.
ولا تأخذوا على أنور أنه حبس نفسه في هذه الدائرة الضيقة، وقصر عليها شعره، ولم يخرج إلى الفضاء الأرحب، ولم يعش في الدنيا الواسعة التي يعيش فيها أكثر الشعراء والناس، فإن أنور أمضى صباه كما أمضيت صباي في عالم ضيق، كانت حدوده تلك المسالك الملتوية الموصلة إلى (مكتب عنبر)، وتلك الساقية الصغيرة المطيفة بمقبرة الدحداح، وذلك الطريق الموحش الذي كان ينتهي عند العمران، ويبدأ منه عالم الظلام والفزع واللصوص، والذي كان اسمه (قفا الدور)، فصار يسمى اليوم (شارع بغداد) أفخم شوارع دمشق الجديدة...
إن أنور يخشى اليوم أن يفارق عالمه الشعري الذي أحبه، أو يتجاوز حدوده، كما كان يخشى من قبل أن يتجاوز (قفا الدور)، أو يتخطى (مكتب عنبر)، ولكن عالم أنور الشعري، عالم واسع على ضيقه لأنه عالم القلب، ولأنه متصل بالله، وقد تضيق على المرء الأرض كلها إن اقتصر عليها، ولا يضيق عليه شبر واحد سما حتى اتصل بالسماء.
وعاش أنور في عهد جد ويقظة، وإقبال على العلم والعمل، وحفظ أنور أكثر من عشرة آلاف بيت من جياد أشعار العرب، فجاء أسلوبه كالماء الصافي فيه عذوبة ولين، وفيه إن تدفق قوة ومضاء، وكان في شعره أثر الجد ومؤهلات الخلود، لا كأشعار أصحاب المناسبات وطالبي إعجاب العوام، وكان نسجه كالحرير المتين المفوف المنقوش النقش البارع، لا كالنسيج الرخيص الذي يتمزق من اللمس، وتذهب ألوانه من رؤية الشمس.
ما مشى أنور على الطريق الذي فتحه له من قبله، بل على طريق شقه هو لمن بعده، وكان أنور إمام جماعة الشباب ولم يكن مؤتماً تابعاً، ولولا نفس من شعر شوقي في مثل (ليل الحزين) من بواكيره وروح من الأدب الفرنسي في بعضها، لقلت بأن أنور لم يقلد في أسلوبه أحداً أبداً، وهل لشاعر مثلُ الذي لأنور في وصف الطبيعة وفي وصف البلدان وفي وصف الرؤى والأحلام، حتى يقلد أنور؟
وبعد فهذا ديوان الوفاء للعربية: نخل مفرداتها فاختار أطيبها، وعرض أساليبها فاصطفى أحلاها. وديوان الوفاء لأقطارها: جرى بردى منذ الأزل، وقام لبنان، فهل قال شاعر في بردى مثل الذي قال أنور؟ هل نُظم في لبنان مثلُ ما نظم؟ وهل يعرف القارئ في الشعر العربي كله قصيدة في وصف الطبيعة أعظم من (لبنان) التي اشتمل عليها هذا الديوان؟
أنا لا أبالغ ولا أغالي، وهذا الشعر العربي بين أيدي الناس، فمن عرف أعظم منها فليقل... ولكن المعاصرة حرمان، وأزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، وستمحص السنون هذا الشعر وهذا النثر، وتميز الزجاج من الجوهر، والنحاس من الذهب، وهنالك بعد أن يذهب الرجال، وتنقطع الصداقات والعداوات، ولا يبقى إلا الأدب الذي يستحق الخلود، تُعرف قيمة (لبنان) وقيمة (بردى)، وهنالك بعد أن يعفي النسيان على أسماء كثيرة تملأ اليوم الأسماع، وتشغل الناس، يحتل اسم أنور العطار مكانه مع أسماء الشعراء الخالدين.
دمشق: 25 أيلول 1948
الهوامش
(1) وهم: جميل سلطان، وزكي المحاسني، وأبو سلمى عبد الكريم الكرمي، وكلهم من رفاق الشيخ في المدرسة، وكانت هذه الحفلة سنة 1346هـ، ونشرت قصيدته في "الحديقة" أيضاً التي كان يصدرها الأستاذ محب الدين الخطيب في تلك السنة (مجد).
(2) منين: إحدى القرى القريبة من دمشق.
(3) غسان الذي ينسب إليه الغسانيون والغساسنة ليس رجلاً، ولكنه نبع ماء نزلوا عليه، وموضعه في جبل الدروز عند قرية سلطان باشا الأطرش.
(4) العفيف: حيّ من أحياء دمشق يقع في أدنى سفح جبل قاسيون.
(5) ولد الأستاذ أنور في السنة التي ولد فيها أستاذنا الطنطاوي سنة 1327، وتوفي سنة 1392-1972 رحمه الله تعالى (مَجْد).