أحمد صدقي الدجاني "كان يحكي مثل الكتاب"

أحمد صدقي الدجاني

"كان يحكي مثل الكتاب"

أحمد صدقي الدجاني

 شفيق الحوت  

هو من مواليد يافا سنة 1936. أبصر النور في بيت عتيق فوق ربوة تطل على البحر تدعى "العجمي". وكان والده يعشق الصيد ويهوى البحر ويقتني الفلك دون أن يدري أن هذا البحر سيحمله ذات غفلة من الزمان، ليرسو به ومعه أفراد عائلته إلى شواطئ اللاذقية في سوريا.

إذاً كان أحمد صدقي في الثانية عشرة من عمره عندما تحول من مواطن آمن إلى لاجئ بلا حقوق. وكان بالكاد أنهى دراسته الابتدائية في المدرسة العامرية في يافا، حيث التقيت مع أخويه الأكبر سناً منه وهما محمود والطاهر. وكان الأول زميل صفي لسنوات، وكنا معاً من آخر دفعة لحملة "المتريكيوليشين" في فلسطين.

وشأنه شأن غيره من أبناء جيله المنكوبين، كان على أحمد صدقي أن يشق طريقه بيديه وأن يبني مستقبله بجهده الخاص، مما اضطره للعمل مبكراً كمدرس في "قرداحة" في جبل العلويين. قال لي رحمه الله، إنه وجد نفسه عاجزاً عن التفاهم مع تلاميذه للاختلاف الشاسع بين اللكنات، مما أجبره على اعتماد الفصحى سبيلاً للتفاهم. وهذا هو سر أبي الطيب الذي لا يعرفه كثيرون حول تمسكه بالفصحى حتى لحظة رحيله، رغم ما كان يتعرض إليه أحياناً من ملاحظات الدهشة والاستغراب، وما صرنا نحبكه من فكاهات حول ذلك.

من هذه الفكاهات، وهي حقيقية أن ابنتي وكانت في الخامسة من عمرها آنذاك دخلت عليّ لتخبرني بأن لدي زائراً وأنها أدخلته الصالون. ولما سألتها إن كانت تعرفه قالت إنه من أصدقائي، ثم تلعثمت قائلة: نسيت اسمه يا بابا لكنه هو اللي بيحكي مثل الكتاب؟

فعلاً كان أبو الطيب يحكي مثل الكتاب، ولكن أي كتاب؟

إن الكتاب الذي تضمن السيرة الفلسطينية، أرضاً وتاريخاً وشعباً.

وهو الكتاب الذي ساهم أبو الطيب والعديد من أبناء جيله في تدوينه وفي التأثير على مساراته رغم أنهم كانوا هم مادته ونتاج أحداثه.

التقيت أبا الطيب بعد ست عشرة سنة من عمر النكبة، في إحدى قاعات فندق انتركونتننتال في القدس، حيث كان يعقد المجلس الوطني التأسيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية.

كان شاباً وسيماً آية في التهذيب وحسن الحديث وآداب الحوار. كانت البحة في صوته تضفي على شخصيته هيبة المفكر الجاد والمحلل الرصين. وكان أول ما لفتني به، ذاك التوازن بين إيمانه وانتمائه. فهو مسلم عربي، أو عربي مسلم، ويستحيل عليك أن تعرف أي الصفتين تسبق الأخرى، حتى تقتنع بأنه لا يتذاكى حول المسألة، غير أن ما كان يبدو للكثيرين في تلك المرحلة أنه نقطة تناقض ما بين العروبة والإسلام، فهو قد حوّله إلى نقطة وصل وتكامل. ولذلك لم يكن صدفة على الإطلاق أن يكون أبو الطيب بعد أكثر من ثلاثين سنة أول منسق عام للمؤتمر "القومي الإٍسلامي"، الذي  انطلق في العام 1996 يجمع من بين صفوف النخبة في الأمة أهم تيارين سياسيين في الوطن العربي ما بين المحيط والخليج.

ويوم التقيت به توسمت فيه كل الخير، ونمت بيننا علاقة ود ورفقة وأخوة لم تنقطع على امتداد العمر. وعملنا معاً ومعنا فريق من الشباب "المستقل" في منظمة التحرير الفلسطينية، وخضنا معاً معاركنا السياسية منذ خلافاتنا مع الشقيري في عامي 1967 و 1968، حتى عام 1993 عندما وقفنا نحن الاثنين في المجلس المركزي الذي انعقد في تونس لنعلن عن رفضنا لاتفاقية أوسلو.

كان أبو الطيب يدور في ثلاثة عوالم: فلسطين والعروبة والإسلام. وكان يسبح في بحورها براحة وثقة وتفاؤل دائم بأن النصر قادم وإن طال الزمن. وكان مثابراً لا يكل ولا يمل، في حديث أو حوار أو كتابة.

مزاجه الهادئ وصبره الجميل ولسانه الدافئ أكسبته الكثير من الأصدقاء والمحبين، ولا شك في أن له فضلاً كبيراً على عشرات الشباب الذين درسوا على يديه أو تدربوا حوله في الهيئات والمؤسسات الثقافية والسياسية.

لا ريب في أن أبا الطيب قد رحل قبل أوانه، قبل أوانه بكثير، حيث كان لا يزال لديه الكثير مما يعطيه. ولا ريب أنه برحيله سيخلق فراغاً يصعب ملؤه، وبخاصة في الأوساط الائتلافية أو الجبهوية حيث للقيادة المميزة خاصة تجمع بين حصافة العقل ورهافة العاطفة والحساسية.

لو يقرأني الآن أبو الطيب، لراح يذكرني بقوله تعالى (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً)، ولراح يذكرني أيضاً بأن وراء كل حدث حكمة إلهية كما أثبت الرجل الصالح لبني اليهود. ولكن!! الموت حق. ولا أريد أن أناقش القضاء والقدر في مثل هذا المجال رغم فقداني لعزيزين أثيرين من أصدقائي خلال أسابيع معدودة، هما إدوارد سعيد وأحمد صدقي الدجاني، ورغم انشغالي عاطفياً بأمر من تبقى منا في خندق المرابطة، وسألتزم منطق الإيمان فأتقبل العزاء، طالباً الصبر لي، والرحمة لرفاقي.