رحمة الله عليك يا أبا الحسن

منير محمد الغضبان

في رثاء الأستاذ محمد حسن بريغش رحمه الله

بقلم الدكتور: منير محمد الغضبان

ما أصعب الكلام حين تطبق العاطفة على الإنسان, فيصبح كمن يتقاذفه الموج من كل مكان.

رحمة الله عليك يا أخي أبا الحسن، أكتب عنك وأنت شطر ذاتي، قد تقاسمنا الحياة حلوها ومرها، حتى وافاك الأجل، وأخرني الله إلى أجل. فقد كنت رفيق الدرب منذ وعينا على الدنيا، على خط الدعوة إلى الله.

وقبل العشرين كانت معالم شخصيتك قد تكاملت، في خطوطها العريضة، بينما راحت تكتنز كل يوم بخلايا حية جديدة ترسمها بيديك وكتاباتك واهتماماتك.

لقد كان شاعر الشباب أبو القاسم الشابي من أول من استحوذ على اهتمامك، وكأنما ترى ذاتك من خلاله في حساسيته ورقة شعوره، وكتابته لأمته، وكأنما يقول لك وتقول له:

        والشقي الشقي من كان مثلي    في حساسيتي ورقة نفسي

ثم طفا بك الشعور إلى شاعر الشباب الإسلامي هاشم الرفاعي الذي ملأ الدنيا، حيث كنت قد وضعت رجلك في أول السلم الجامعي، فجسدت الحديث عنه في محاضرة قيمة قدمتها للشباب بعد محاضرتك عن الشابي. وكان الرفاعي _رحمه الله_ قد اختير شاعر الشباب في الجمهورية العربية المتحدة، وأبرزت الدولة الجانب القومي عنده على حساب طمس التوجه الإسلامي، فساهمت في كشف هذا الزيف وأبرزت البؤرة الإسلامية التي كانت يشع من خلالها، إلى أن قضى شهيداً في سبيل الله على يد الشيوعيين.

وصار الرفاعي رحمه الله المثل الأعلى لشباب الدعوة المسلم وبقيت أبياته على كل لسان:

أبتـاه ماذا قـد يخـط بنانـي   والحبل والجـلاد ينتظرانـي

أهوى الحيـاة كريمـة لا ذل لا استغلال لا استئثار بالإنسـان

فإذا سقطت سقطت أحمل عزتي   يغلي دم الأحرار في شرياني

وملأ عليك كيانك، حتى انتهيت من محاضرة ببضع عشرة صفحة إلى تقديم شعره كله في كتاب من بضع مائة صفحة، وتعاونا معاً في تجليته شاعراً للدعوة لا شاعراً للدولة، من خلال التعرف على أخيه الشاعر أحمد الرفاعي الذي قدم لنا في ظل نظام عبد الناصر القمعي ديوانه: جراح مصر، الذي جسد مأساة الإخوان في ظل هذا النظام.

لقد كنت في العشرينات يا أخي الحبيب يوم طلعت على الدنيا بكتابك العظيم: مصعب بن عمير، الذي صهرت فيه أدبك بفكرك، وصنعت لكل شاب إسلامي مثله الحي من خلال الحديث عن هذا الشاب الصحابي العظيم رضوان الله عليه، فإذا الحركة الإسلامية في كل مكان تعيش كتابك، وتجسد نفسها في شبابها الذين يعانون من الطغاة ما يعانون، كيف تكون الصلابة واستصغار  الدنيا في سبيل المبدأ بشهادة رسول رب العالمين له، وأطللت على الدنيا من خلال مصعب شاباً تقتحم الصعاب وتدعو إلى الله، وترسم المثل لذلك واقعاً في الدنيا، فتعفى من وظيفتك، وتُسرّح منها، ولا تتنازل عن مبدئك وعقيدتك، ولم تغادر العشرينيات إلا وقد قدمت لنا الكتيب الصغير في حجمه، الكبير في أثره: أبو بصير قمة في العزة الإسلامية.

وكانت الثلاثينيات من عمرك والسبعينيات من عمر الأمة، تحدو بك إلى أن تعرّف أبناء الأمة على أدبائها أدباء الدعوة الإسلامية، ومضيت في طريق النقد الأدبي فإذا هو خطك الأصيل، وإذا هو الرسالة التي أعدك الله لها، فتحولت من الأدب إلى النقد، ورحت تقدم الشعراء الشباب: محمد منلا غزيل ، محمد الحسناوي، عبد الله عيسى السلامة، وأمثالهم في دراسة لدواوينهم وعطائهم الشعري الفذ، فبقيت شاباً تعيش للشباب وتبرز همومهم، وتسلط الأضواء على عطائهم الجليل لأمتهم دون كلل أو ملل، وتتابع كل جديد من إنتاجهم الثر، وتضع عليه مبضعك لتزيد تألقهم وتوهجهم، حيث جمعت ذلك كله في كتابك في الأدب الإسلامي المعاصر.

لم تغب الدعوة لحظة عن ناظريك، وكنت من أشعر من تحدث عن رسالة الأدب لأمته، وتحدثت عن الأدب الملتزم. ورفضت أن تعيش لذاتك، ولم تنس وأنت تعمل في رئاسة تعليم البنات بالسعودية أن تتجه إلى الفتاة المسلمة إضافة إلى اتجاهك للأديب المسلم، فقدمت لنا كتابك الرائد: المرأة المسلمة الداعية. وقدمت كذلك: أسماء ذات النطاقين، ونسيبة بنت كعب.

وبرز اهتمامك بالأدب الإسلامي جلياً في الأربعينيات من عمرك، حين قدمت كتابك: الأدب الإسلامي: أصوله وسماته، لتسهم في وضع المعالم الأولى للأدب الإسلامي. ولم ينأ بك المسار حتى أسهمت مع إخوانك في تكوين رابطة الأدب الإسلامي، التي أخذت من دمك وعصبك وجهدك ووقتك، وتفرغت لها حتى استوت على ساقيها، تسقيها مع إخوانك الكبار، وعلى رأس هؤلاء الإمام الراحل أبو الحسن الندوي رحمه الله، الذي أحبك وأحببته، ومع أخيك الدكتور أبي اليمان عبد القدوس أبي صالح، إلى أن فتحت أشرعتها فطالت العالم العربي والإسلامي من الهند إلى المغرب، مروراً بمصر وتركية والأردن.

وبمقدار ما كان قلبك يخفق كان قلمك يخفق معه، لا يني لحظة عن العطاء، وكان يتغذى من مشاعرك، ويسقى من دمك. وقد أخذ الأديب الإسلامي الراحل نجيب الكيلاني شطراً واسعاً من دراستك ونقدك، وأحس بك كأنك امتداده، فقام بينكما ودّ وصحبة روح، جعلتك أول أحبابه وأعز أهله عليه. وتوجت هذا الحب في كتابك: دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة (دراسة لعدد من قصص الدكتور نجيب الكيلاني).

وبينما كنت في الخمسينيات من عمرك كنت تؤوب إلى الخلف من جديد، في مسارين كبيرين:

المسار الأول: انتقلت من عالم الشباب إلى عالم الطفولة، وأيقنت أن تصحيح نقطة البدء هي التي تحدد المسار، فرحت تعكف على أدب الطفولة ودراسته، وتنتقل بين حدائقه ذات البهجة، حتى انتهى بك الأمر أن رفدت لأمتك بكتابك: أدب الأطفال أهدافه وسماته.

أما المسار الثاني: فقد عكفت من خلال عملك في رئاسة تعليم البنات في الديار السعودية، على أن تخصص جهدك لتربية المرأة، ومنذ أن نشأت في هذه الديار إلى آخر هذا المسار، تحيا بين الكتل والتلال  من التقارير عن نشأة تعليم المرأة منذ مائة عام إلى اليوم، وكنت الجندي المجهول الذي ينظم ويبوب ويقوم ويبرز، حتى قدمت إلى السعودية هديتك الكبرى: تعليم الفتاة السعودية خلال مائة عام، في ما ينوف عن ألف صفحة، والذي استهلك ما بقي لديك من طاقة، وما تبقى لديك من عزم، ولم ينته حتى أخذ مداد قلبك، ما جعل المداد عاجزاً عن الوصول إلى هذا القلب، محتسباً ذلك عند الله.

فابتدأت أزمتك القلبية منتصف الخمسينيات من عمرك، حيث قدمت هذا المداد لكتابتك، ودعوتك، ومهنتك، وأمتك، وعجزت أعصابك وشرايينك عن متابعة مسارك الجاد الدؤوب المستمر المعطاء، عجزت عن دفع دمك إلى قلبك، فلم تأبه لذلك، ومضيت إلى الأطباء ليعينوك على متابعة المسيرة، فما ينبغي للداعية وصاحب الرسالة أن يقف أو يهن، وما ينبغي لصاحب الطموحات أن ينثني عن طموحاته.

ووهن الشريان قبل أن يهن العظم، وزاد العجز رويداً رويداً، ولم تتراجع عن مسيرتك، وقد صرت تحيا بالآلة داخل قلبك، ووضعت معالم حياتك الأخيرة، قبل أن يكف القلب عن الوجيب في كتابك الأخير: الشيخ والزعيم، تفتح باباً جديداً عليك، باب القصة، وكأنما أردت أن ترثي نفسك، وتكتب قصة حياتك بهذا المداد الأخير، يوم قال لك طبيبك: نريد يا همام أن نحصر الحديث في مشكلة قلبك الحاضرة، في الألم الذي تعانيه والمرض الذي تشكو منه، وأعدك مقدماً أن لا أكون وسيلةً بيد الآلة. فقلت له: الحقيقة يا دكتور لا أستطيع تحديد وقت معين لابتداء مرضي هذا. كنت نشيطاً لا أشكو شيئاً، أواصل العمل لساعات طويلة دون كلل، وكان إحساسي بالزمن يفوق ما يعترضني من صعوبات، واهتمامي بأداء الواجب يهون علي مرور الوقت وأثر التعب.

رحمك الله يا أخي الحبيب. أكتب هذه الكلمات ولما يُهَل التراب على قبرك، ولما تصل بعد إلى مثواك الأخير، فقد أسميت نفسك هماماً في قصتك هذه، وكنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أصدق الأسماء حارث وهمام))، فهمتك وأملك أكبر من جسدك وأجلك. ولخصت فلسفتك في الحياة وأنت تصف الزعيم الذي انصهر في الشيخ، فقلت على لسانه: نهض وفي عينيه دموع، أحسّ بأن مهمته أضحت شيئاً آخر، السياسة؟ ما أصغر السياسة! في كل الشوارع والحارات وقارعة الطريق يبتاع الناس سياسة. لكن الدعوة، فتلك تجارة الأنبياء والصحابة والمجاهدين والدعاة المصلحين، وتلك لا ينالها إلا من يصدق في طلبها، ويبذل من أجلها. انكب الزعيم على يدي الشيخ يقبلهما، وفي عينيه دموع، ويقول: أرجو أن تدعو لي يا سيدي لكي أحتمل عناء الطريق، ولكي يهديني ربي سواء السبيل. ومضى.

وكان آخر مداد كتبته عن دور الأديب المسلم، في دراسة عن الأديب عبد الله الطنطاوي، حيث قلت: "هو بناء الأجيال المسلمة التي باتت وسط أمواج عاتية من الأفكار والمواقف والمغريات والأخطار، تتلقى الزلازل المدمرة من جميع الجهات، وتعاني مرارة الواقع، هذه الأجيال تنتظر من يعطيها شيئاً من الأمل، ويمدها ببعض الصبر والصمود والتفاؤل، أو يضيء لها في هذه الظلمات سبيل النجاة، ويفضح أمامها صور المكر والشر والخديعة، حتى تعود إلى عزتها وكرامتها الضائعة".

أخي الحبيب الفقيد، لقد بقيت على إبائك وشممك طيلة حياتك، وقد غلبك حبك لوطنك وهيامك بلدك، وأدى بك إلى أن ألقيت سلاحك الأدبي في وجه الطغاة. وكنت تأمل أن تقر عينيك بثرى أرضك وأنت تحس دنو أجلك، وأن يضمك هذا الثرى بعد غربة ربع قرن عنه، وحرمانك منه. لكن حقد الطغاة حال بينك وبين أمنيتك، وأرادوك على أن تحني رأسك ليعيدوك إلى وطنك، فعدت إلى إبائك، وكان ما أعد الله لك عنده من ذخر _إن شاء الله_ أكرم مما حرموك منه، وكان ما قدمه المجاهدون من الصحابة الذين كان في كل ذرة من ثرى الأرض من دمهم رواء ومن رفاتهم غطاء، كان لك فيه أسوة حسنة. فمت غريباً عن أرضك وديارك، حبيباً في قلوب إخوانك وتلاميذك، ضيفاً في أرض الإسلام، مع المجاهدين من روادك: الطنطاوي والزرقاء والأميري وأبي غدة، ليحرم منكم ثرى الشام الطهور.

أجزل الله لك مثوبتك، وغفر لك ذنبك، وآجرنا في مصيبتك، وأكرمك الله بما أكرم به الدعاة المخلصين في سبيله. ولا نقول إلا ما علمنا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_:

((تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب. وإنا على فراقك يا أبا حسن لمحزونون)).

أما أنتم يا أهل أبي الحسن، ويا إخوان أبي الحسن، فصبراً على المصاب، فكلنا لكم أهل، وأجزل الله لفقيدنا الثواب.

فما المعزَّى بباقٍ بعد صاحبه             ولا المعزِّي ولو عاشا إلى حينِ