أحبك
في رثاء يمان الطنطاوي
بشرى الأفغاني
أحبك... وأحب فيك أنك كنت الوحيدة التي تذكرتني ببطاقة معايدة عندما كنت طفلة صغيرة، فحفظتها داخل صفحات كتابي، وظللت أقرأ ما سطرتيه يوماً بعد يوم، وسيظل منظر الرضيع المبتسم الملفوف في منشفة زرقاء في خيالي...أثرٌ جميل منك!
أحبك... وأحب فيك التفافك برداء والدتك ولعبك بالحبل في بيتكم في قاسيون -وقد عُقِدَ عقدك- وانت لا تلقين بالاً إلى ما تعارف عليه القوم من ضرورة التحول إلى المسلك الجاد بين يوم وليلة...أثرٌ جميل منك!
أحبك... وأحب فيك مرحك وضحكاتك, وحنينك الى البعيدين من أهلك، وتأثرك إذا سمعت ما يهيج الشوق إليهم، وحماسك إلى لقائهم إذا ما أتيت دمشق، ذكرياتٌ تلوح من ذاكرة الطفولة... أثرٌ جميل منك!
أحبك... وأحب فيك تعاطفك وإغاثتك للملهوف في الفرح والحزن، ومدك ليدٍ تعين بلا حدود، وكشفك عن رقة قلب مخبأة، فعيناك الدامعتان عندما رأيتِ ضعف أمي لا تغيبان عن بالي، ووقوفك إلى جانبي عندما صفعني الموت في والدتي -رحمها الله- سيظل محفوراً في داخلي، فكنت أنت من رافقني لساعات في الجلوس معها، وكنت أنت من قام بتغسيلها، وكنت أنت من تابع المشوار معي، فكنتِ بوسائلك الذكية الصامتة خير مشجع لي على أن أستمر بتحويل الألم إلى طاقة إيجابية منتجة تفيدني وتفيد من حوليَ في الدارين... أثرٌ جميل منك!
أحبك... وأحب فيك حرصك على العلم، والبر، وأبرِّ البر، وتسابقك في الخيرات، وتأكيدك على عمل الواجبات مرورًا بمصفاة الأوليات، ودأبك على بلوغ الكمال في كل صغيرة وكبيرة سواءً فيما يخصك أو يخص من حولك، باذلة ما في وسعك لمجاهدة الأثرة وبلوغ الإيثار، بمثابرة لا تقف أمام العوائق والآلام، وبصبر جميل لا يعرف الشكوى... أثرٌ جميل منك!
أحبك... وأحب فيك زياراتك التي لا تخلو من الموائد: مائدة الكرم، و مائدة العلم، ومائدة التأمل ومراجعة النفس. وأحب فيك ودَّك الذي لم ينقطع بانتقالك إلى حياة البرزخ، فها أنت تزورينني في المنام، وها أنا أحب أن أرسل لك هداياي علَّها تصل إليك بإذن الله، لله ما أَشَفَّ هذا الجسر بيننا الآن! فإن كانت زياراتك في الدنيا يمناً، فقد صارت زياراتك ليَ الآن في الرؤى يُمْناً وأُنْساً وبُشْرى لما أرى فيها من علامات على حسن المآل، وتحفيز على إتقان شد الرحال...أثرٌ جميل منك!
أحبك... وأحب فيك حرصك على أن تتركي ثلاثة الآثار التي تضمن عدم انقطاع العمل على أحسن وجه: العلم الذي ينتفع به، والصدقة الجارية، والولد الصالح الذي يدعو... و أحب فيك أنك ما وُجدتِ أو ذُكرتِ فإنك تستثيرين في النفس أجمل الفضائل، وتصعِّدين الهمة إلى أقصى المعالي، وتعينين على بلوغ التوازن بين أداء حق رب العباد وحق العباد، سواء عندما كنت في حياة عابري السبيل أو عندما انتقلت إلى دار الحيوان...أثرٌ جميل منك!
أحبك... وأحب فيك أن جهدك لجعل الحياة أجمل في عالمك الخارجي بتعليم الآخرين ونُصحهم كان يوازيه جهد أجمل كنت تبذلينه في داخلك للارتقاء بتدريبٍ ومجاهدةٍ متواصلين، وستظل جهودك دائماً وأبداً تؤثر في الآخرين لما كان يقف وراءها من صدق نية وصفاء إخلاص... وأحب فيك نضجك الداخلي المستمر الذي رعيتيه بالتوقف عند المعاني العميقة الجديدة عليك والتأملِ فيها، ولم تكتف باستعراض ما تعرفينه، فكان هذا منك تيقظاً واعياً للقلب واللُّب...أثرٌ جميل منك!
أحبك... وأحب فيك {إني مهاجر إلى ربي سيهدين}، وأحب فيك {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين}، وأحب فيك {وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا}، وأحب فيك {اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك}، وأحب فيك "أما سلكتَ طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى. قال: فما عملتَ؟ قال: شمرتُ واجتهدت؛ قال: فذلك التقوى"، وأحب فيك "أكثروا ذكر هادم اللذات"، وأحب فيك "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها". أولا يكفيك أن منطقك يزيد في العلم، وعملك يُذَكِّر بالآخرة، وأنك ما فتئت إن ذكرت ذكر الله؟!... يا له من أثرٍ حميل منك!
أحبك... وأحب فيك أنك جعلتني أحبك، وأحب عملك، وأحب من أحَبَّك، وأحب صورتك المشعة وأنت في زيارتك لي في مكة، وأحب فيها ابتسامتك وقميصك الزهري الذي كنت ترتدينه، وأجدها الصورة الوحيدة التي تقفز في خيالي عندما أذكرك، فترتسم الابتسامة في روحي، وأحب أن أضم ذاك القميص فيصبغ أيامي بلون زهري لأني عرفتك، ولأني من أهلك، ولأنك تشجعينني على أن أعمل بسننك الحسنة، ولأني آملُ أن تذكريني وأنت في مرتبتك العالية في الجنة -إن شاء الله- فتدعينني إليها، و"المرء مع من أحب يوم القيامة"...و أنت قد عودتنا منك الآثار الجميلة... فهذا أثرٌ جميل سأظل أنتظره منك!
جعلك الله مع الأبرار الذين ينعمون بـ{أولئك الذين نكتب ما قدموا وآثارهم}
وجعلك ممن لو خيروا لما اختاروا أن يعودوا لهذه الدنيا لما يجدونه من النعيم ومجاورة النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقاً.
آمين