وداعا يا أمي.. أيتها الياسمينة
وداعا يا أمي.. أيتها الياسمينة
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
رام الله.. صباحك أجمل وأنا أعود إليك بعد غياب حزينا متألما، أنشدك الشوق على عزف أنين ناي حزين، بعد أن تركت في ثرى عمّان الهوى وترابها بعض من روحي وجسدي، وكأن القدر يصر أن يبقى هواي المشتعل لعمّان أبدا، فيربطني بها إضافة لكل ذاكرة الطفولة والشباب والصبا، لكل ذكريات الحب والألم، لكل ارتباطي بها في كل دروبها وأحيائها القديمة ووسط المدينة وأزقتها المتشعبة وسنوات الدراسة وأصدقاء الطفولة والشباب والكهولة، قبر جدي الذي كان الحنان يستمد منه الحنان، يشد القدر من جديد أواصر ارتباطي بعمّان فيضم في ترابها أوراق أجمل ياسمينة.. أمي.
حين غادرت رام الله إلى عمّان في منتصف الشهر الماضي لافتتاح معرضي صباحكم أجمل- رام الله في رحاب مركز رؤى الجمال العمّاني، لم أكن قد نويت الغياب عن حضن رام الله الدافئ أكثر من أيام المعرض، وحين كنت أزور الوالدة يوميا وهي على سرير المرض الذي رقدت عليه منذ بداية العام، كانت تبادرني بالسؤال بصوتها الموهن من التعب والمرض: كيف معرضك أمي؟ تمنيت أن أحضره فقد اشتقت لرام الله.
يوم افتتاح المعرض أصرت على والدي الشيخ الكبير وكل الأسرة أن لا يبقى أحد عندها، قالت لهم جميعا كونوا مع زياد ورام الله ولا يتغيب أحد منكم عن الافتتاح، كانت أمنيتها أن تكون معنا في رحاب رؤى الذي احتضن رام الله بالحب، وكانت أمنيتنا جميعا، لكن كانت الاستحالة بأن تغادر سرير المشفى ولو للحظات.
كنت أزورها وأحدثها، أقبل جبينها ويدها، أهمس لها في لحظات صحوتها القليلة، عن رام الله والياسمين وذاكرة عمّان والأشرفية والقدس وجيوس، أقرأ لها بعض مما كتبت، فتبتسم وأشعر بالنور يتجدد في عيناها، ومرة بقيت عندها وحدي عدة ساعات، أضع لها بين شفاهها قطرات العصير حين تفتح عيناها، وحين تغفو كنت الجأ لدفتري فأكتب، وحين فتحت عيناها نظرت لي وبصوت موهن سألتني: ماذا كتبت.. اقرأ لي.. فقرأت لها نصا كتبته وأنا عندها لم أنشره بعد بعنوان: " مذكرات حفلة زار مجنونة"، فنظرت لي بعينيها المتعبتين نظرة لم أنساها وأغمضت عيناها من جديد.
في كل يوم نويت فيه العودة لرام الله بعد المعرض، كان يحصل ما يؤجل العودة، وكأن مشيئة الله أن أبقى مع الياسمينة في أيامها الأخيرة، حتى كانت الساعة التي لا بد منها، ساعة الرحيل، فأغمضت الياسمينة عيناها وعلى شفتيها ابتسامتها الأخيرة، رحلت وتركت لنا الألم والحزن والأسى، وذكريات أم لا تنسى أبدا، رحلت في السابعة من صباح الخميس الماضي، فكانت لحظات قاسية على الجميع، حين بادرت بالاتصال بإخوتي جميعا وشقيقتي الوحيدة، فحضروا جميعا، وشد أخي جهاد الرحال من رام الله فورا لنكون جميعا في وداع أغلى الناس، وداع ست الحبايب.
حين وضعناها بالسيارة التي ستقلها إلى مثواها الأخير، ونحن أبنائها الذكور الخمسة نرفعها عاليا فوق هاماتنا، كما كانت في حياتنا فوق كل الهامات، صعدت معها وأحد أشقائي، وقفز في السيارة ابني وابن شقيقتي وابن أخي، فحمدت الله أنها ترحل محاطة بأبنائها وأحفادها جميعا، يرافقونها حتى اللحظة الأخيرة، فتذكرت غيابي القسري عنها أحد عشر عاما بسبب الاحتلال، وحين كنت أهاتفها وتشكو من الفرقة والبعاد، تقول لي: أخشى أن أموت قبل أن أراك، فأرد عليها: إن غادرت الوطن لن أتمكن أن أعود إليه أبدا.. فهل تقبلي ذلك؟ فتجيب: خليك بالأرض يا أمي، والله سيكون معك ويصبرني على فراقك، ولم أراها طوال تلك السنوات إلا منذ شهور وهي تعاني على فراش المرض.
ما أصعب الفقد والفراق، فكيف حين يكون فراق الأم الحنون الغالية، وما أصعب لحظات الوداع الأخيرة، حين أنزلتها وأحد أشقائي إلى مثواها الأخير، وكنت آخر من رأى وجهها حين كشفته ورفعت عنه الغطاء، وخرجت ووضعت أول حفنة تراب بيدي على قبرها، لأقف لدقائق بعد أن بدأت الأقدام بالرحيل القي النظرة الأخيرة، وليمر شريط طويل بلمح البصر منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا، فأتذكرها وهي تحرص على زيارتي في المعتقل لخمس سنوات لم يثنها حر صيف ولا برد شتاء، كما كانت تزور أخي الأكبر في المعتقل قبلي، وأخي الأصغر بعدي، وتتنقل بين المعسكرات والقواعد لتزور ثلاثة من إخوتي، وتتسمر أمام شاشة التلفاز أثناء حصار بيروت، حين حوصر اثنين من إخوتي في الحصار، وتصرخ ألما في حصار طرابلس حين كان أحد أشقائي محاصرا هناك أيضا، فشعرت بها حكاية من حكايات شعبنا، حكاية رسمت بالدمع والدم والدموع، فلم تتمكن أن تجتمع معنا الإخوة جميعا سويا منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، إلا في جنازتها وموكب رحيلها الأخير، فأهمس: وداعا أيتها المناضلة، وداعا أيتها الياسمينة، وداعا يا أمي، أعدك أن أزرع طرفي قبرك زيتونة وياسمينة، ونبتة صبار تعلمت منك الصبر.
بالأمس عدت لرام الله، مودعا أسرة وأب وروحك، بعد أن تلقينا العزاء من الآف الناس في عمّان، لأبدأ بتقبل العزاء وأشقائي وسيم وجهاد، الأكبر والأصغر مني، فتدافعت الألوف إلى قاعة بلدية البيرة توأم رام الله السيامي، والكل يترحم عليك، بعد أن تقبل أشقائي العزاء في مدينة جنين بعد العودة من عمّان، وتقبّل أبناء العمومة والعم الأكبر العزاء في بلدتنا جيوس بالتزامن معنا في عمّان، ونشد الرحال لتقبل العزاء في طولكرم الجمعة، فأشعر بأن الآلاف المؤلفة التي تدافعت وترحمت عليك، تركت لك في مقر وحدتك الأخير ما يؤنس وحشة قبرك، إضافة لمحبتنا ودموعنا التي انسكبت سيولا على فراقك.
هي رام الله التي سكنت روحك كما سكنت روحي، ترحمت عليك وودعتك من بعيد، أعود إليها ويلفح وجهي منذ الصباح نسمات حارة غير معتادة، وكأنها زفرات الفراق، أجلس وحدي أتذكرك، وأتذكر كلمات شاعرنا الكبير محمود درويش وهو ينشد: أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي، وأنا من حرمت من قهوتك وخبزك طوال السنوات الماضية، وكنت دوما أترنم بهذه الكلمات، وأقول لك من أسري القسري عبر الهاتف: لا بد أن أشرب القهوة من تحت يديك الطاهرتين، لكنك رحلتي ولم أشرب قهوتك ولم أتذوق خبزك، فتسيل دمعة حارة على وجنتي، وأشعر بالوحدة من جديد، فلا يخفف وحدتي إلا حروف خمسة فارقتها، وطيف بعيد قريب يجول في صومعتي بيت الياسمين، فأنشد مع قهوتي المرة وشدو فيروز:
" أمي يا أمي الحبيبة نفح الرياحين والورود، أين ابتسامتك الرطيبة تسمو باشراقة الوجود، ولأسم أمي الجميل لحن في القلب أحلى من النسيم، لا وجه قد لاح فيه حسن يرقى إلى وجهها الكريم، هل لي سوى حبك العظيم أحيا به الوعد بالنعيم، روحاُ بأرجائه أهيم طفلا لأحضانه أعود، أمي و هل لي سوى يديك أرجوهما منة السماء، أبوابها طوع راحتيك إن تسألها يسمع الرجاء، يا من حلا باسمها النداء يا من تسامى بها العطاء، إن رمت جوداُ من السماء، من غير نعماك لا تجود، ألقاك في نجمة الصباح، في مبسم الزنبق الرطيب، في زرقة البحر في الاقاح، أمي و في دمعة الغريب، و الشمس تدنو من الغروب، كأنها وجهك الحبيب، يا وجه أمي لا تغيب، أماه أنشودة الخلود"
صباحكم أجمل.