محمود درويش: جرح كبير بحجم الوطن
الشاعر محمود درويش
عبد الرحمن يوسف بريك
الشواشنة / الفيوم /مصر
"هو أنت ثانيةً ؟ .....
ألم أقتلك ؟
قلت : قتلتني ......
ونسيت مثلك أن أموت " .
لكنك هذه المرة – يادرويش – لم تنس أن تموت ، صارعت الموت كثيراً ، وانتصرت عليه كثيراً ، ألم تقل في جداريتك الخالدة :
«هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها..
هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين..
مِسَلَّةُ المصري.. مقبرةُ الفراعنةِ..
النقوشُ علي حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ وانتصرتْ..
وأِفْلَتَ من كمائنك الخُلُودُ».
هاأنت تموت اليوم – يادرويش – وأتساءل : ألم تخجل – وأنت تسلم نفسك للموت – من دمع أمك ؟ ألست أنت القائل يوماً :
«أحنُّ إلي خبزِ أمي.... وقهوة ِأمي .... ولمسةِ أمي
وتكبرُ في الطفولةُ يوماً علي صدرِ أمي
وأعشقُ عمري لأني إذا مِتُّ أخجلُ من دمعِ أمي
خذيني أمي إذا عدتُ يوماً وشاحاً لهُدبِك
وغطي عظامي بعشبٍ تعمّدَ من طُهْرِ كعبكِ " .
ياشاعرنا العظيم ، تعال معي نبدأ القصة من أولها :
في عام 1942 وُلد محمود درويش في قرية "البروة" بالقرب من عكا، وهي القرية التي لا يذكر منها الكثير، حيث بترت ذكرياته فجأة وهو في السادسة من عمره.
ففي إحدى الليالي حالكة السواد من عام 1948 استيقظ فجأة على أصوات انفجارات بعيدة تقترب، وعلى هرج في المنزل، وخروج فجائي، وعدوٍ استمر لأكثر من ست وثلاثين ساعة تخلله اختباء في المزارع من أولئك الذين يقتلون ويحرقون ويدمرون كل ما يجدونه أمامهم "عصابات الهاجاناة".
ويستيقظ الطفل محمود درويش ليجد نفسه في مكان جديد اسمه "لبنان"، وهنا يبدأ وعيه بالقضية يتشكل من وعيه ببعض الكلمات، مثل: فلسطين، وكالات الغوث، الصليب الأحمر، المخيم، واللاجئين… وهي الكلمات التي شكّلت مع ذلك إحساسه بهذه الأرض، حين كان لاجئا فلسطينيا، وسُرقت منه طفولته وأرضه.
لكنه عاد إلى فلسطين بشكل متخفي عام 1949 بعد توقيع اتفاقيات السلام المؤقتة مع أسرته، ليجدوا القرية وقد صارت قرية زراعية إسرائيلية محلها تحمل اسم "أحي هود". ويقول درويش عن تلك الرحلة : "قيل لي في مساء ذات يوم.. الليلة نعود إلى فلسطين، وفي الليل وعلى امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان الوعرة كنا نسير أنا وأحد أعمامي ورجل آخر هو الدليل، في الصباح وجدت نفسي أصطدم بجدار فولاذي من خيبة الأمل: أنا الآن في فلسطين الموعودة؟! ولكن أين هي؟ فلم أعد إلى بيتي، فقد أدركت بصعوبة بالغة أن القرية هدمت وحرقت".
وبعد إنهائه تعليمه الثانوي كانت حياته عبارة عن كتابة للشعر والمقالات في صحيفة الاتحاد لسان حال الحزب الشيوعي الإسرائيلي وهو الحزب الذي رفع عندئذ شعار " مع الشعوب العربية ضد الاستعمار" ثم أصبح فيما بعد مشرفا على تحريرها . ولكن السلطات الإسرائيلية ضاقت بمقالاته ولما لم تجد معه الاعتقالات المتكررة أبعد إلى لبنان في مطلع السبعينيات حيث سبقته شهرته كشاعر ولكن روحه ظلت متعلقة بقريته .
وبدأ ت شهرة درويش في الاتساع واتخذ بيروت مقراً لإقامته وأصدر مجلة " الكرمل" التي اعتبرت صوت اتحاد الكتاب الفلسطينيين . ولمواقفه الوطنية تم ضمه لمنظمة التحرير الفلسطينية على الرغم من عدم انتمائه لأية جماعة أو حزب سياسي ، وبدأت دواوينه تنتشر بسرعة : عصافير بلا أجنحة ، أوراق الزيتون ، عاشق من فلسطين ، مطر ناعم في خريف بعيد ، يوميات جرح فلسطيني ، مديح الظل العالي ، العصافير تموت في الجليل ، شيء عن الوطن وغيرها . وغنى لبلاده على البعد :
" بلادي البعيدة عني ... كقلبي !
بلادي القريبة مني ... كسجني !
لماذا أغنّي مكانا ، ووجهي مكان؟
لماذا أغنّي
لطفل ينام على الزعفران ؟
وفي طرف النوم خنجر
وأمّي تناولني صدرها
وتموت أمامي ... بنسمة عنبر ؟ ".
وأثناء قصف إسرائيل لبيروت عام 1983 كتب لبيروت :
" قمر على بعلبك = ودم على بيروت
يا حلو، من صبّك = فرسا من الياقوت!
قل لي، و من كبّك = نهرين في تابوت!
يا ليت لي قلبك = لأموت حين أموت "
وبسبب الحرب استطاع أن يتسلل هاربا من بيروت إلى باريس ليعود مرة أخرى إلى حقيبته وطنا متنقلا ومنفى إجباريا ، وبين القاهرة وتونس وباريس عاش محمود درويش حبيس العالم المفتوح معزولا عن جنته الموعودة( فلسطين).
لقد كان الأمل في العودة هو ما يدفعه دائما للمقاومة، والنضال والدفع إلى النضال ، فقد كان محمود درويش دائما يحلُم بالعودة إلى أرضه يشرب منها تاريخها، وينشر رحيق شعره على العالم بعد أن تختفي رائحة البارود، لكنه حلم لم يتحقق .
وفي عام 1993 وأثناء تواجده في تونس مع المجلس الوطني الفلسطيني، أُتيح لمحمود درويش أن يقرأ اتفاق أوسلو، واختلف مع ياسر عرفات لأول مرة حول هذا الاتفاق، فكان رفضه مدويا، وعندما تم التوقيع عليه بالأحرف الأولى قدم استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني وكتب قصيدته الرائعة :" أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي " والتي يقول فيها :
" للحقيقة وجهان والثلج أسود فوق مدينتنا
لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يأسنا
من سينزل أعلامنا ؟ نحن أم هم ؟
ومن سوف يتلو علينا معاهدة اليأس........ يا ملك الاحتضار؟
لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة ، لكن عرشك نعشك
فاحمل النعش كي تحفظ العرش ....... ياملك الانتظار"
وعاد درويش في يونيو 1994 إلى فلسطين، واختار الإقامة في رام الله، وعانى مذلة الوجود في أرض تنتمي له، ويحكمه فيها شرطي إسرائيلي ، واستمر يقول الشعر تحت حصار الدبابات الإسرائيلية ، ومع ذلك فإن أرضه هذه – رغم الاحتلال – عليها مايستحق الحياة :
" على هذه الأرض ما يستحق الحياةْ:
نهايةُ أيلولَ، سيّدةٌ تترُكُ الأربعين بكامل مشمشها،
ساعة الشمس في السجن،
غيمٌ يُقلّدُ سِرباً من الكائنات،
هتافاتُ شعب لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين،
وخوفُ الطغاة من الأغنياتْ " .
ولم يحتمل قلبه ذلك وهو الذي خضع لعمليتين جراحيتين في القلب عام 1984 ، 1998 وخرج من العملية الثانية والتي انتظر فيها الموت بقصيدته الرائعة " جدارية " :
" مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن …
لي مِتْرٌ و75 سنتمتراً …
والباقي لِزَهْرٍ فَوْضَويّ اللونِ ،
يشربني على مَهَلٍ ، ولي
ما كان لي : أَمسي ، وما سيكون لي
غَدِيَ البعيدُ ، وعودة الروح الشريد
وهذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
واسمي -
وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت - لي .
أَما أَنا - وقد امتلأتُ
بكُلِّ أَسباب الرحيل -
فلستُ لي . أَنا لَستُ لي ....أنا لَستُ لي ".
وأخيراً ، لم يحتمل قلبه الصراع بين فتح وحماس فكتب قصيدته الأخيرة " أنت منذ الآن غيرك " والتي نشرها في 17 يونيو الماضي ، والتي قال فيها :
"هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق،
ونرى دمنا على أيدينا...
لنُدْرك أننا لسنا ملائكة..
كما كنا نظن؟" .
ثم كانت الجراحة الأخيرة في القلب يوم الأربعاء 6/8/2..8 والتي على إثرها فارق الحياة قبل أن يحقق حلمه .
والآن – يادرويش – هل استوعب المحبون وصية النهاية ؟ ألم توصهم قبل موتك :
«سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين..
وعن صُمُود التينِ والزيتونِ في وجه الزمان وجيشِهِ..
سأقول: صُبُّوني بحرف النون، حيث تَعُبُّ روحي..
سورةُ الرحمن في القرآن..
وامشوا صامتين معي علي خطوات أَجدادي ووقع الناي في أَزلي..
ولا تَضَعُوا علي قبري البنفسجَ..
فَهْوَ زَهْرُ المُحْبَطين
يذَكِّرُ الموتي بموت الحُبِّ قبل أَوانِهِ..
وَضَعُوا علي التابوتِ سَبْعَ سنابل خضراءَ إنْ وُجِدَتْ..
وبَعْضَ شقائقِ النُعْمانِ إنْ وُجِدَتْ».
إيه يادرويش ، ها أنت تترك كل شئ ، فلا تعتذر عما فعلت بنا برحيلك المفاجئ :
«لا أرض تحتي كي أموت كما أشاء..
ولا سماء حولي لأنقبها
وأدخل في خيام الأنبياء».
وأخيراً يا شاعرنا الكبير: لقد قلت :" سأصير يوماً ما أريد " وها أنت قد صرت ما أردت ، حباً في القلوب ، وخلوداً في الذكري ، وطناً في قصيدة ، وقصيدة بحجم جرح كبير اسمه الوطن ، فلا نملك الآن إلا أن نقول لك كما قلت أنت في وداع محمد الدرة :
" محمد ...
دم زاد عن حاجة الأنبياء إلى ما يريدون ...
فاصعد ... إلى سدرة المنتهى .. يا محمد " .