الفارس الأخير
الشاعر محمود درويش |
د. عبد الحق
حمادي الهواس |
وهكذا انسحب آخر الفرسان الفحول بصمت وهدوء ليترك الساحة الشعرية البائسة لأشباه الرجال مدعي الشعر، أو كما سماهم رحمه الله ((شعراء الصراصير))
رحل آخر العمالقة بعد أن أهدى روحه وأفناها فداء لفلسطين المأساة وللعروبة الجريحة، وللحلم الكبير العزيز القريب البعيد الذي بشّر به وغنى له وقدّمه لجمهوره المتعطش في أعذب لفظ وأعمق معنى ، وألذ سبك، وأجمل صورة ، وأبهى تشكيل ...
رحل محمود درويش بعد أن أثخن جراح قلبه الشاعري الرقيق الطيب الشفاف الحساس المبتلى بتضحيات حامله ولا مبالته به رغم حبه العظيم له، ورغم اعتزازه به...
فالطالما أتعبه ولطالما حمّله مالا يُحتمل، ولطالما أشرعه لكل الناس لمن يستحق منهم شغافه ولمن لا يستحق منهم نبضةً واحدة من نبضه، لمن يعرف قيمة الحب الصادق النقي السامي الحنون الأصيل، ولمن لم يمارس أدنى درجات الحب حتى الحب المجامل ولو مرة واحدة في حياته السوداء.
رحل محمود بعد أن أحيا التاريخ المهيب من الكنعانيين والفينيقيين، إلى الهجرة الأخرى من البداوي ونهر البارد، ورحل معهم يحمل قلمه وقلبه في كل البحار وأنآها ، ووصل معهم إلى سيدة البحيرات البعيدة وكتب بحروفهم دون أن يعود إلى العالم الذي استعارها منهم وصاغ بها ومنها أجمل القصائد الفلسطينية اليعربية ، واستعار منهم بوصلة الهجرات والأسفار والضياع في أعماق البحار القريبة والبعيدة ...الصادقة منها والمفعمة بالأكاذيب العربية والدولية كيلا يضل يوماً أو يخونه غمده، أو يقدم جلده مقابل حبة الزيتون ...أو يمر به أولئك المارون عبر الكلمات العابرة .
رحل محمود حاملا جرحه المكابر يقول للعالم كله بأن وطنه ليس حقيبة وهو غير مسافر ...رحل محمود تحمله يدان من حجر وزعتر قبل انفصال البحر عن مدن الرماد ، تدثره معاطف الجبال وتخبئه في تفاصيل البلاد نازلا من نحلة الجرح القديم موزعا بين فراشتين ونافذتين ولكنه الآن ليس وحيدا فأحمد يقفز كي يرى حيفا ويصعد، رحل محمود ... ومن المحيط إلى الخليج ومن الخليج إلى المحيط يعدون له الجنازة وانتخاب القصائد والخطابة وكلمات التأبين....
رحل محمود ...ليتوسد تراب وطنه بانتظار عودة الزاحفين العائدين في الغد المنظور والحلم المنشود بعد انقشاع الغيم الفولاذي وانحسار الماء المالح وحصاد القمح المر واختفاء النجم الجارح.
رحل محمود ليعود إلى أمه فلسطين يحضنها بكل ما فيه وبكل ما فيها تضمه بحنانها ويبكيها بأساه .
رحل محمود بعد أن رأى حلمه زنزانتين لدولتين وهميتين يقوم عليها أسرى يعبدون ذاتهم ويظن بعضهم أنهم قادة أو مسؤولون.. وهم قادة حقاً لمزيد من الذل والإذلال والفرقة والتفريق والدم والدماء والكره والكراهية، والحصار والحصارات والتآمر والمؤامرات، ومزيد من سخرية الآخرين منهم.
رحل محمود وبقيت رائحة خبز أمه برائحة الليمون والزيتون والبرتقال تنساب في كل حقول وهضاب ووديان وشوارع وساحات وسواحل فلسطين ... وشذا فواح قهوتها تشرئب لها أرواح العائدين من رحيلهم اليومي ...رحل محمود وبقي شاهداً على رحيله دمع أمه خجولاً على وجنتيه بعدما توقفت آخر دقة من دقات قلبه مودعةً آخر قطرة وآخر نبضة وآخر قافية شاردة...
رحل محمود ليسارع الأقزام خلسة منه لملأ الساحة الشعرية التي كانت يوماً ما ساحة لعكاظ والمربد يملؤونها بالترهات والنظم الباهت، والمسابقات الكاذبة ، ومباريات السقوط والانحطاط .
رحل محمود قبل أن تنتهي أكبر مهزلة في تاريخ الشعر العربي تقودها قرنة العجائز فيما تسميه (شاعر العرب) وقبل أن تتوجه من النطيحة أو المتردية أوما أكل السبع؟!!
فوداعاً يامحمود ... بإنتظارقدوم الشاعر الآخر الذي سيكمل قصيدة السيناريو الجاهز.
ووداعا يامحمود الى ان تلد الامة محمودا آخر .))