لعلّ واحدٌ غيرك
إلى محمود درويش
الشاعر محمود درويش |
سامي مهنا الجليل- فلسطين |
هيَ خسارةٌ أخرى، وفجيعةٌ أخرى، وموتٌ آخرُ يعتدي علينا دون سابق إنذارٍ، ولا يمهلنا ولا يمهلكَ الوقتَ الكافي، كي نعود إلى الوراء ونرتّبَ العلاقة مع الأحداث ومع أنفسنا، دون أن نظنُّ أنّ من نحبّه باقٍ كحبّنا لهُ أو أكثر.
خضراءُ أرض قصيدتكَ كما قلتَ، خضراء، ولكنَّ الموتَ مصابٌ بعمى الألوانِ، هو ممحاةٌ لا تعرفُ القراءةَ، وإنّما تعرفُ أنّ حبرَ العظماء لا يُمحى. فهو المجرّبُ العارفُ، الخائف من الخلود والخالدين. فتذكّر أيهّا الموت ما قالهُ لك أحد هؤلاء مرّةً : "هزمتكَ يا موتُ الفنونُ جميعها". فتذكّر وتذكّر ولا تظنّ أنكّ منتصرٌ، فلهُ بيننا مشاوير جديدة تخرجُ من بين القصائد التي لا تستنفدُ، فدائمًا نجدُ في الأفق العميق مكاناً جديدًا وفي النبع ماءً آخر وفي السماء نجمةً أخرى، فقصيدةُ محمود درويش لا نهائيةُ المعنى، لأنّ المعنى في الأرض البركانيةِ عدوٌ أبديٌ لهدوء السطح. ولا نهائية الصورة فصورها تتغيّر كلّما تمعّنا في التجدّد الذي ينبع منّا بعد كلّ دورةٍ جديدةٍ لفصول الجمالِ في أعماقنا. ولا نهائية الإيقاع، فالنبض يختلفُ حين تبتسمُ الحبيبةُ القديمةُ ابتسامةً جديدة.
قلتَ قبل وقتٍ قصير إنّك ستكتب أكثر للحبّ وللإنسانية والربيع والجمال، ومرةً أخرى نرى أنّ الأقدارَ تستكثر على الفلسطينيِّ أن يتفرّغَ للحياة، فإمّا أن يتفرّغ للمأساة أو أن يتفرّغَ للموت.
محمود درويش الشاعر الرمز الذي رفض الاتكاء على مساند اسمهِ وقضيته، وظلّ يبحثُ عن القصيدة الأجمل بقلق البراكين وحماسةِ العواصف وهدوء النخيل.
حمل على كتفٍ وطنًا ضائعًا ينتظرهُ، وعلى كتفٍ قصيدةً مفقودةً يبحثُ عنها.
علمتنا يا معلمّنا أن الإنسان تطوّرٌ لا يُحد، وأن الوطنَ بناءٌ لا ينتهي، وأنّ القصيدةَ حلمٌ لا يكتمل، وأنّ الحياةَ نبضٌ لا يصمت.
قلتَ يومَ حاصركَ الموتَ ولم يستطع أن يُدخلَ من بوابة ضعفك الجسديِّ حصان طروادة: "ساعتي لم تأتِ بعدُ. ولم يحن وقتُ الحصاد... لعلّي واحدٌ غيري"...
فلعلَّ واحدٌ غيرك مات.
لم يمت محمود درويش.