د. حسين نصار: حق على مصر أن تقود العالم وتسود

في احتفال جامعة مصربعيد ميلاده التسعين:

احتفت جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا صباح السبت 17 أكتوبر الجاري بالدكتور حسين نصار بمناسبة بلوغه سن التسعين، وأهدته درع الجامعة.

وفي ظل أجواء تفوح برائحة الوفاء والإخلاص استقبلت قاعة المؤتمرات بالجامعة الأستاذ الدكتور حسين نصار شيخ المحققين وأحد أبرز اللغويين المصريين محاطاً بتلامذته ومحبيه.

أدار اللقاء المتسم منذ بدايته وحتى نهايته بالحب والدفء د. أنس عطية الفقي المشرف العام على متطلبات الجامعة ورئيس مركز تحقيق التراث العربي بها، مؤكداً اعتزاز الأستاذ خالد الطوخي رئيس مجلس أمناء الجامعة بالدكتور حسين نصار ليس فقط لأنه كان صديقاً لخاله الدكتور محمد عبد السلام الكفافي وشارك في تكريمه ونشر تراثه الفكري، ولكن أيضاً لأن رحلته الحافلة في الحياة كشفت عن موهبته النقدية، وحسه الإبداعي، وأستاذيته لأبناء جيله في الدراسة وسنوات الطلب.

وتحدث الدكتور محمد العزازي رئيس الجامعة مرحباً بالضيوف من العلماء والباحثين الذين تجمعوا بمناسبة الاحتفاء بعالم جليل تخرج على يديه أجيال من الأساتذة نشروا العلم والثقافة في شتى بقاع الأرض "فلسيادته منا كل التقدير والاحترام".

وأوضح د. العزازي أن هذا اللقاء إن دل على شيء فإنما يدل على مجموعة من القيم التي نحرص على غرسها في شبابنا وطلابنا، وأولها قيمة العلم وصاحب هذه المناسبة استطاع بجهده المتواصل أن ينجز أعمالاً رائدة في مجال اللغة والأدب والفكر وأن يقدم بحوثاً علمية قيمة شهد لها القاصي والداني وأن يحقق ذخائر من تراثنا العربي الحضاري الكبير.

ثاني هذه القيم التي يرسخها هذا التجمع قيمة الوفاء، وهي قيمة متمثلة في هذا الحضور الكريم وفي مركز تحقيق التراث العربي بهذه الجامعة الذي حرص على تكريم علم من أعلامه الكبار لم يتوان عن العطاء والإمداد.

أما ثالث هذه القيم فهي قيمة التواصل بين الأجيال، وأقصد به التواصل البناء القائم على العلم والخلق وإتاحة المعرفة.

وألقى د. أنس عطية الفقي قصيدة بهذه المناسبة، وفيها يقول:

غيثٌ همَا جادت به الأقدار... فسقى البلاد وعمها الإثمار

تسعون عاماً تزدهي بأميرها... تسعون عاماً في العطاء غزار

قد عشت للفصحى تجوب دروبها... بعزيمة قد عزها إصرار

وجعلت من آداب مصر نموذجاً... للباحثين على هداه يسار

أستاذ كرسي علا بوفائه... لبلاده فعلا به المقدار

آليت أن تحيا لها متجرداً... من كل زيف في الحياة يثار

وعلمت أقطار العروبة حكمة... وزهت بها من علمك الأقمار

فجزاك ربك في الحياة مهابة... وجميل ذكر عطره دوار

فإذا ذكرت حسين في أم القرى... أو في العراق فأنت فيه منار

أو قيل في السودان من غرس الجنا؟... لأجاب غرسك إنه نصار

وكذلك في أرض الشام شواهد... وبكل أرض من يديك ثمار

لا زلت في ميدان علمك سابقاً... فلأنت فيه الفارس المغوار

حق على العلماء قصد دياركم... فالحق حق والكبار كبار

ومن ناحيته قال الدكتور محمد إسماعيل حامد مستشار رئيس مجلس أمناء الجامعة إن المحتفى به غني عن التعريف، وهو عندما يحقق التراث فإنما يحقق ما نحن في حاجة إليه اليوم من علوم سدنا بها العالم قروناً سعدت في ظلالها الخلائق.

وإذا كانت الأعمار لا تحسب بمرور الشهور والسنين وإنما تحسب بالأعمال الصالحة والمنجزات النافعة فإني أحسب أن الدكتور حسين نصار قد أدى الواجب حين تعلم العلم، وعلمه، وأتقن تعليمه، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه الشريف: "خيركم من تعلم العلم وعلمه".

وقال الدكتور عادل يوسف إن الدكتور حسين نصار من أولئك الذين يتركون الأثر الطيب أينما حلوا وحيثما وجدوا، ولم يكن ما تعلمته منه من أخلاق العلماء بأقل مما تعلمته منه في أصول التحقيق وسأظل أفتخر بذلك ما حييت، وليسمح لي أستاذي أن ألقي في حضرته هذه الأبيات التي أهديها إلى سيادته:

طابت خطاك وصار يومك عيداً... وأضفت للشأن العظيم جديدا

وسلكت في دروب العلوم مسالكا... تعلو دروب السابقين حدودا

أفضت من أخلاق علمك أنهرا... تروي محباً عاشقاً ومزيدا

في عيدك التسعين جئت مهنئاً... زهواً لأني قد أصبت فريدا

من علم تحقيق التراث جلوته... من نبع علمك رافداً مشهودا

فارفع لواء العلم نوراً ساطعاً... بشراك بالقدر العظيم مزيدا.

وقال د. مجدي رشاد إن الرجال يعرفون بمواقفهم والمحتفى به رجل له مواقفه التي يجمع عليها كل من يتعامل معه ويعرفه، فهو يقدم العلم حسبة لله تعالى دون نظر إلى مقابل أو أجر ودون معرفة مسبقة بمن يتفضل عليهم بعلمه وخبراته ونصائحه إنما يخدم الباحثين لوجه الله تعالى لا لوجه أحد سواه.

وقالت د. آمال الروبي إنني تعلمت منه الاعتزاز بالنفس والتواضع والحنو على التلاميذ والتعامل بسواسية مع الزملاء وليس هناك دارس للغة العربية وعلومها إلا ويعرف جيدا قيمة الدكتور حسين نصار وقامته.

وكان مسك ختام الحفل حديث الدكتور حسين نصار الذي شكر فيه جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا راجياً لها مزيد من التقدم والرقي وإلإفادة لجميع المصريين.

وقال إنه من حسن الطالع أن تسمى الجامعة بجامعة مصر، ذلك أن جميع الدول السامية بجميع لغاتها ولهجاتها قد بحثت عن اسم تعطيه لمصر فلم تجد إلا إسماً

واحداً يليق بها، هو: "الدولة التي تتصف بالخلود والعمارة والحضارة".

والتمصير معناه التعمير وعندما أنشأ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه البصرة والكوفة قالوا إن عمر مصر البصرة والكوفة أي عمرهما.

فمصر معناها بلد الخلود والحضارة والتعمير، والمصريون أنفسهم كانوا يسمون مصر بكمت أي أرض السواد والخصوبة، كما نقول سواد العراق أي الأرض الخصبة بالعراق.

ومن يتابع الحضارة الإنسانية يعرف أن المرأة المصرية هي أول من اكتشف الزراعة ومارستها وذلك عندما تتبعت نمو نبات الحلفا عقب سقوط المطر يوماً بعد يوم، قالت إذن المطر هو سبب نمو الحلفا، فأخذت تجرب بنفسها وصبت الماء على بعض الحبوب فنمت بعد يوم أو يومين، ومن هنا نشأت الزراعة.

وإذا كانت الزراعة هي أساس الحضارة فإن المرأة المصرية هي التي نقلت الحضارة إلى العالم القديم بأجمعه.

لم تكتف مصر بذلك، بل احتضنت طفولة الأنبياء ورعتهم حتى كبروا وصاروا رجالاً ومنهم يوسف وموسى وعيسى عليهم السلام.

لذا أعتز بمصريتي وعروبتي، وهما مصدر اعتزاز وفخار، ذلك أن اسم العرب عرف في القرن الأول الميلادي ووجد مكتوباً اسم "ملك العرب" على أحد الجدران المكتشفة في منطقة "الحضر" بين الموصل وسامراء بالعراق، وقد ضمت حضارة كبيرة تعود كما قلت إلى القرن الأول الميلادي.

ومن جهة العالم الآخر، فمصر أول دولة تعرف اليوم الآخر وترى أن الإنسان محاسب في الآخرة على الشر وعلى الخير.

ولم أقرأ أي كلمة عن مصر أو المصريين إلا وفيها أنهم يؤمنون باليوم الآخر وأنهم محاسبون في الآخرة على ما قدموا في دنياهم.

إذن مصر هي قلب العالم القديم وهي التي أفادت الإغريق وعلمت أساتذتهم فقد كانوا يفدون ببعثاتهم إلى المدن العلمية في مصر القديمة.

وتتصف مصر بالوشائج العائلية، فالعائلة في الحياة المصرية بصمتها واضحة في تكوين الإنسان المصري طفلاً أم صبياً أم رجلاً، وهذا وقانا من أمراض الوحدة والاكتئاب التي تصيب الذين ينفردون بأنفسهم ولا يرتبطون بعائلة.

نحن نحب بعضنا، وقد قابلت في حياتي أناساً أحبوني وقدموا لي خدمات جليلة بدون مقابل.

فهذا الدكتور سليمان حزين يرشحني لرئاسة المجلس الأعلى للثقافة ويلح على عاطف صدقي رئيس الوزراء وقتها حتى اختارني لآخر منصب رسمي أتولاه.

ولم يكن سليمان أستاذاً مباشراً لي، ولكن أستاذي المباشر مصطفى السقا الذي تبناني بمعنى الكلمة وأوصى أولاده الأربعة قبل وفاته بأن أتسلم مكتبته فأأخذ منها ما أشاء وأترك لهم ما أشاء.

هذا الحب وهذه المودة توجد في مصر، وإذا تم توجيه هذا البلد الكريم توجيهاً سليما وتمت المودة بين أبنائه كما يجب أن تكون، فحق على هذا البلد أن يكون كما أراد له التاريخ، وكما أرادت له الجغرافيا، وقبل ذلك، كما أراد له الله أن يكون.

وسوم: 638