كلمات في وداع القائد المجاهد ياسر عثمان أبو الشيخ
كنت على سفر وإذ برسالة صوتية من أخي يقول بصوت تخنقه العبرات : ترجل الفارس , ترجل القائد , ترجل البطل , استشهد ياسر أبو الشيخ ..
التقطت أنفاسي وحوقلت , رحماك ربي , ما زال جرحنا باستشهاد القائد عبد الرؤوف عثمان وإخوانه رطباً طريا لم يندمل , رحماك ربي رفقاً بقلوبنا , رحماك ربي لمن تركتنا بعد هؤلاء الرجال في زمن عز فيه الرجال .. رجعت بي الذاكرة إلى الوراء خمسة أعوام بعيد انطلاقة الثورة , عندما التقيت القائد الشهيد ياسر في مدينة الراعي مع رفاقه الثوار في كتيبة أبي بكر الصديق .. نظرت إلى أرض الوطن الشاسعة ,وكنت لأول مرة أراها بعد فراق قسري دام أكثر من ثلاثين عاما .. خطر ببالي طاغوت الشام وجبروته وبطشه , تذكرت جولتنا التي خسرناها معه في الثمانينات , ثم تمعنت تلك الوجوه البريئة الوضيئة .. أشفقت عليهم من معركة غير متكافئة مع نظام كامل العدد والعتاد والعدة , لا يردعه ضمير ولا خلق ولا قانون , ليس في قلبه إيمان ولا رحمة , لكن اندفاع هذه الثلة من المجاهدين الصادقين , وبسالتهم وشجاعتهم وتسابقهم نحو ساحات المعركة , وهمتهم ومعنوياتهم العالية جعلتني أثق بالنصر والفتح على أيدي هؤلاء الأبطال .
حدثني الشهيد أنه نفذ أول عملية عسكرية ضد مخابرات النظام , ولم يكن معه سوى بارودة ومسدسين وثلاثون طلقة لا غير ! نجحت العملية بفرار دورية المخابرات قبل أن تنفذ ذخيرتهم وكانوا ثلاثة فقط , إذ لو استمر الاشتباك دقائق أخرى لانكشفوا , لكن رب العزة تولاهم برحمته وتأييده ..
منذ أن عرفته .. لم يكن لأبي الشيخ إلا هدف واحد , وحديث واحد , وهم واحد , وشغل واحد , هو الجهاد والمعارك والفتوح وما يتعلق بها , فلا يمكنك الحديث معه فيما سواها.
لئن قيل عن بعضهم "خلق ليسود" , فكأنما شهيدنا خلق ليقود , حيث لم تسعه مقاعد الدراسة , ولم تلبي طموحه , فما إن انهى المرحلة الإعدادية حتى ذهب للعمل بصنعة الحديد , بما فيها من صعوبة ومشقة , فقد كانت نفسه تتوق للصعاب , وتأبى السهل اليسير , وترفض الانقياد والخنوع , ثم ساقته الأقدار للملكة العربية السعودية , لكنه ما إن سمع هيعة الجهاد في بلده , حتى ترك كل شيء , ترك الزوجة والأولاد , والمال والعمل , فشمر عن ساعدي الجد , في المظاهرات السلمية أولاً , ثم في مقارعة النظام في ساحات الوغى.
أصيب ذات مرة بكسرين في ساقه ألزمته الفراش .. زرته يومها في المستشفى بعد أن تم نقله إلى مدينة عنتاب , فعاتبني وطلب مني أن أستعجل الأطباء لكي يسرعوا في فك جبارته لكي يرجع إلى ساحات المعركة بأسرع وقت حيث لم يتعود القعود .. لسان حاله يردد قول الشاعر :
سأبقى في جبين الدهر ... وشماً ليس ينتقل
أشرع هامتي للنار ... للأشواك أنتعل
أراقب هبة الإيمان ... يحدوها الشذى الخضل
وكل قذيفة يشدو ... على أنغامها الأمل
تقول وربما قول ... تقر بطيبه المقل
لك البشرى ترجل ... أيها الحازم البطل
تمكن مع إخوانه في الجيش الحر من تحرير مدينة الراعي مرتين , في الأولى من قبضة نظام بشار الأسد , وفي الثانية من ظلم خوارج العصر من تنظيم داعش , استبسل في المعركتين , وأبدى مهارات قيادية أجبرت الأعداء على الانسحاب وجر ذيول الهزيمة والخيبة.
بعد الانتهاء من عملية تحرير مدينة الراعي بشكل كامل , وعند التحرك إلى وجهة أخرى انفجر لغم بسيارة تقل إعلاميين , فهرع كعادته لنجدتهم , ثم أصر على تنظيف الطريق من الألغام وإزالتها حيث كانت لديه خبرة في فك الألغام , فتبعه عنصران من كتيبته لمساعدته , لكن أحدهما هو الشهيد "صلاح ياسين" دعس على لغم فانفجر به ليستشهد في الحال , وأصيب أبو الشيخ بجروح بليغة على مستوى الرأس والقدمين أدت إلى ارتقائه شهيدا هو الآخر عند باب المستشفى , حيث كان طوال الطريق يحمد الله ويردد كلمات الشهادة .
غسل الشهيد ذنوبه بدمائه
ومضى يميس مسربلا بصفائه
ينساب في الفردوس نورا حالما
بثرى الجنان بطهره وصفائه
أنواره شتا فنبض فؤاده
نور وبعض النور نسج ردائه
العطر في الجنات بعض عبيره
ورُواء وجه الشمس بعض روائه
يرنو إلى الدنيا وقد كلفت به
مترفعا كالنسر في عليائه
يَرثي لمن يحيى على هذا الثرى
متأسفا من صيفه وشتائه
يَرثي لطاغية يمجد نفسه
ويرى دبيب الموت في أعضائه
ترجل القائد الشهيد ياسر أبو الشيخ مقبلا غير مدبر ..
ترجل القائد الشهيد ياسر أبو الشيخ فدائياً بذل نفسه رخيصة من أجل تنظيف طريق الناس من الألغام ..
ترجل القائد الشهيد ياسر أبو الشيخ بطلاً شجاعاً , لم تطرف له عين وهو يقارع النظام المجرم , ثم داعش الغدر ..
ترجل القائد الشهيد ياسر أبو الشيخ بعد أن أمضى حياته في خدمة الضعفاء والمحتاجين وقضاء حوائجهم ..
ترجل القائد الشهيد ياسر أبو الشيخ مقبلا واقفاً شامخا بطلا هصورا ..
رأيتك صافيا والناس مغشوش ومنتحل
وزورق عزة رغم اشتداد الموج ينتقل
وسيفا مثل ضوء البرق يسطع حين ينتضل
واعصارا اذا ما هب ريع الحادث الجلل
لنا اسمح أن نقبل في يديك السيف يا بطل
اللهم لا تحرمنا أجره , ولا تفتنا بعده , وأنلنا شفاعته .
وسوم: العدد 663