رسالة تعزية
كَتَبَتْ إلَيَّ سَيّدَة جَليلَة تسألُني هل عرفتَ الزَّعيمَ الحلبيَّ السوريَّ الكَبير رشدي الكيخيا؟، وتُناشِدُني إنْ كنتُ قد عرفتُهُ أن أذْكُرَ عنهُ شيئاً لأجيالِنا الجَديدَة التي لا يَعرِفُ أكثَرُها أمْثالَهُ مِنَ رِجالِنا الكِبار
- نعم يا أختي الجَليلَة لقد عرفتُ الزَّعيمَ الحلبيَّ السوريَّ الكبير رشدي الكيخيا، وكتبتُ عَنْهُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى
وأعيدُ هنا ما كنتُ كتبتُهُ عِنْدَ وَفاتِهِ في قبرص سنة ١٩٨٨م؛ وجَزاكِ اللهُ خيراً على ما ذَكَّرْتِ بهِ مِنَ المَصْلَحَةِ والواجب
-----
رسالة تعزية.. أو فصل مِنْ مأساة
عصام العطار في ١٩٨٨م
-----------------
ماتَ رُشْدي الكيخيا
ماتَ غريباً مَريضاً في قُبْرُصْ!
لَمْ يَجدْ في وطنِهِ العربيّ مِنَ المُحيط إلى الخليج سَريراً يضطجعُ عليه، ولا قَبْراً يُدْفَنُ فيه!
سمعتُ بوفاتِه وقد مَضَى عليها زمن طويل..
لم يَكُنْ جيلُنا من جيلِه، ولا فِكْرُنا من فِكْرِه، ولا نهجُنا من نهجه، ولكنَّهُ كانَ رَجُلاً كبيراً، يشهدُ له أعداؤه وأصدقاؤه بالنّزاهة، ويشهدون له بالتَرَفُّعِ عَنِ المَناصِبِ والمَكاسِب
لو قبل رشدي الكيخيا في بعض العُهود أن يكونَ رئيساً للجمهوريةِ العربيةِ السورية لكان، فقد عُرِضَتْ عليه رئاسة الجمهورية أكثرَ من مَرَّة.
ولو أحَبَّ أن يكونَ نجماً في السماءِ العربيةِ لكان، فقد كان أكثرُ الأنظمةِ العربية يَخْطُبُ وُدَّه، ويحرِصُ على رِضاه..
لقد حزنتُ عندما بلغني نَبَأ وفاة هذا الرَّجُل الكبير؛ حزنتُ لشيخوختِه ومرضِه، ومعاناتِهِ في وَحْدَتِهِ وغُرْبَتِهِ بعيداً عن (سورية) وعن وطنِهِ العربيّ، وحزنتُ أكثرَ وأكثرَ لموتِ المُروءَةِ والإنسانيةِ والوفاء في أرضِ العرب.
وسألتُ نفسي:
- مَنْ أُعَزِّي، وكيفَ أُعَزِّي، بهذا المُصاب الأليم؟ فأجابت النفس:
- إنَّ أجدرَ الناس بأن يُعَزَّى بهِ هو صديقُه الحَميم الأثير، ورفيقُ حياتِه ودربه الدكتور ناظم القدسي*
ولكن أين ناظم القدسي؟
أينَ أنتَ أيها الصّديق الجَليل لأسوقَ إليكَ العَزاء؟ إنك -وا أسَفاه- مُشَرَّد كصديقِكَ رُشْدي، وكغيرِهِ من الأصدقاء.
لا أعرفُ أينَ تُقيمُ لأكتُبَ إليك، ولا أعرفُ مَنْ يَعْرِف؛ ولطالما كُنّا في فترةٍ من الفترات لا يكادُ يَمُرُّ بنا يوم في دمشق دون لقاء، ودون شاهد جديد على وُدِّك الصادق، وأدبك الجَمّ، وخُلُقِكَ الرفيع، رغم ما بيننا مِنْ خِلاف.
أين أنتَ الآن في شيخوختِكَ الجَليلة؟ وكيفَ حالُكَ حيثُ تقيم؟
هل انتهى بكَ المَطاف إلى بلدٍ مُناسِبٍ تَأوِي إليه؟ هل وجدتَ مَكاناً ثابتاً تُريحُ جنبَكَ عليه؟ هل لقيتَ رعايةً ووَفاءً أم إهمالاً وعِداءً؟ هل أنتَ صحيحُ الجسم أم دَبَّ في جسمِكَ السقم؟ وهل سَكَتَ في نفسِكَ الشوقُ المُلِحّ -الذي حَدَّثْتَني عنه في جنيف سنة 1967م- إلى بلدِكَ وصَحْبكَ ومزرَعَتِكَ ذاتِ الطريقِ المُتْرِب المُرْمِل في حلب، أم ما يزالُ هذا الشوقُ إلى مَراتِعِ صِباك، ومَسارِحِ شبابك، وميادينِ نِضالِك، ومَجالِسِ صَحْبكَ القُدَماء، يُذيبُ قلبَكَ الكبير، ويُؤَرِّقُ ليلَك الحَزين.
أحْرامٌ على بَلابلِهِ الدَّوْ ...حُ حَلالٌ للطيرِ مِنْ كُلِّ جنْسِ
كُلُّ دارٍ أحَقُّ بالأهلِ إلاّ ... في خَبيثٍ مِنَ المَذاهِبِ رِجْسِ
إنَّني أرْسِلُ إليكَ مِنْ ديارِ الغربةِ والغربِ حَيْثُ أقيم.. أرْسِلُ إليكَ مِنْ مدينةِ آخِن التي شَهِدَت فواجعَنا ومَواجعَنا، واستشهادَ „بنان“.. أرْسِلُ إليكَ حيثُ تقيمُ مِنْ أرْضِ الله.. أرْسِلُ إليكَ تعزيةَ شريدٍ إلى شريد، وغريبٍ إلى غريب، وحَزينٍ إلى حَزين.
إنَّنِي لم أعرف أخاك وصديقَكَ رشدي عُشْرَ مِعْشارِ معرفتِك، ما عرفتُهُ مَعْرِفَةً مباشرة عميقة إلاّ أواخِرَ عهدِنا بسورية، وخلالَ إقامتِنا في لبنان -قبلَ أنْ أُبْعَدَ عَنْ لبنان- ، ومَعَ ذلِكَ فقد قامَ بينَنا مِنَ الصِّلَةِ والمَوَدَّةِ والصَّداقَة ما بَقِيَ أثرُهُ في نفسي حَتَّى الآن، ورَأيتُ في صُحْبَتِنا مِنْ مَزاياه ما يَسْتَحِقُّ أن يُحْفَظَ ويُرْوَى؛ فكيفَ بكَ أنتَ على طولِ صُحْبَتِكُما، وعُمْقِ أخُوَّتِكُما وصَداقتِكُما، ووَحْدَةِ طريقِكُما وهَدَفِكُما وعَمَلِكُما على الأيام؟
ثم إنَّني -ولا أكتمُكَ ما في نفسي- أرَى في مَصيرِ رُشدي في شيخوختِه ومرضِه وغربتِه وموتِه مَلامِحَ مِنْ مَصائِرِنا، وأرَى في هذه المَصائِر فَصْلاً فاجعاً مِنْ مأساةِ العربِ والمسلمينَ في هذا العَصْر.
ولكنَّنِي -رَغْم ذلِكَ كُلِّه- سَأمْضِي ومن مَعِيَ في طريقِنا العَتيد مَعَ الله، نَنْهَضُ بواجبنا ودورِنا الذي يَرْضاه، لا نَخافُ ولا نَرْجوا أحَداً سِواه
نَمْشِي إلى الغايةِ الكُبْرَى عَلَى ثِقَةٍ...عَزْمٌ حَديدٌ وَنَهْجٌ غَيْرُ مُنْبَهِمِ
وأنْفُسٌ قَدْ شَراها اللهُ صادِقَةٌ...أقْوَى مِنَ المَوْتِ والتَّشْريدِ والألَمِ
ما طَأْطَأَتْ قَطُّ للطاغوتِ صاغِرَةً...خَوْفاً وعَجْزاً وما ألقَتْ يَدَ السَّلَمِ
* * * * *
حَفِظَكَ اللهُ يا أخي الجَليل ومَتَّعَكَ بالصِحَّةِ والعافِيَة، وحَفِظَ سائِرَ الأصدقاءِ والغرباء، وجَعَلَ لهم بعدَ عُسْرٍ يُسْرا، وبَعْدَ شِدَّةٍ فَرَجا.. وإنا للهِ وإنا إليه راجعون.
* * * * *
وأنتم -يا أيها الإخوة الذين تقرؤون هذه الكلمات- رَجائي إليكم أن يوصِلَها مَنْ يستطيعُ ذلكَ مِنْكُم إلى الدكتور ناظم القدسي**، وإلى أسرةِ رشدي الكيخيا، وإلى بَقايا أصدقائِهِ وأصدقائِنا في كُلِّ مَكان؛
ولا بأسَ بأن تَصِلَ أيْضاً إلى أصحاب السلطة والْقُدْرَة الذين عَرَفوا الفقيدَ شاباً أو كهلاً قوياً عَزيزاً في بلدِه، ثمَّ شهدوهُ شيخاً ضَعيفاً غريباً يلفِظُ أنفاسَهُ الأخيرَة في بَلَدٍ غريب لا يَنْسُبُ نفسَهُ إلى عُروبَةٍ ولا إسلام، فلم يَنْبضْ في صُدورِهِم عِرْقٌ برَحْمَةٍ ولا نَخْوَةٍ ولا وَفاء!!
-------------------------------
* رَئيس الجمهوريّة العربيّة السوريّة سابقاً، وأحد كبار رجالات العالم العربي
** وَصَلَتْهُ الرِّسالَة مِنْ عَدَدٍ مِنَ النّاس، فَبادَرَ إلى الاتِّصالِ بي ثُمَّ لم ينقطع التّواصُلُ بينَنا إلى أن وافتهُ المَنِيَّة بَعيداً عَنْ مَدينتِهِ الحَبيبَة حلب، فدُفِنَ في عَمّان رَحِمَهُ اللهُ تعالَى ورَحِمَ سائِرَ الغُرَباء
وسوم: العدد 693