في رثاء شقيق الروح وتوأم النفس ورفيق الدرب، المرحوم بإذن الله تعالى صبري عبد المعطي الميت، أحد أبناء الأزهر الشريف، وقد تأخر رثاؤه شغلا بوداعه
ما زلتُ من يوم الرحيل أُودِّعُ = وإلى لقائك في السما أتطلَّعُ
ما زلتُ في نفسي أنوح، وحفرتي = من ضيق نفسي دائمًا تتوجعُ
والناس في أنِّي قتيل زمالةٍ = وصداقةٍ معقودةٍ قد أجمعُوا
فالمرء من قُرْبِ الأحبة في الورى = حيٌّ، ومن بُعْدِ الأحبة يصرعُ
إني أراني بعد فقدك فاقدًا = طيبَ الحياة وطيبُها لا يُشبعُ
ماتتْ لديَّ مآثرٌ وبداخلي = صُمَّتْ حَشايَ وأنتَ حيٌّ تسمعُ
إني أنا المقبور دونك، فالدُّنا = ضاقت عليَّ وأنت داركُ أوسعُ
أو إنني نصفان: نصفٌ في الثرى = ينمو ونصفٌ في البَــرِيَّة يُقلعُ
نصف تقدم للجنان ففُتِّحتْ = طربًا.. وقالت إنَّه لا يرجعُ
وتأخر الثاني فدقَّ عظامُه = وحطامُه.. فيه المنيةُ تطمعُ
* * *=* * *
يا راحلاً رحَلَ الوفاءُ بفقدكم = وإذا تعمَّد عودةً.. لا يُبدِعُ
وتقاصر الإخلاص في أثوابه = حتى بدا وكأنه المتواضعُ
يا راحلاً بين الضلوع مكانُه = عجبًا لبُعدك .. كيف تدنو الأضلعُ؟
أم كيف لي ـ ولقد سعدتُ بوصلكم ـ = بين الشقا والسعد يوماً أجمعُ؟
يا راحلاً وقت الشباب وناويًا = طول الغياب .. من النوى لا تفزعُ
لمْ تلتفتْ لابنٍ ولمْ تُخبرْ أخًا = كالضيف في جَوف المِسَا يتسرعُ
أو كالنهار إذا تغيب الشمسُ في = وقت الأصيل بلا اصطبارٍ يهرعُ
أو كالطيور إذا أرادت رزقَها = وقت الطَّوَى في خفَّةٍ تستطلعُ
* * *=* * *
يا راحلاً ما زال عطرُك في فمي = ما زال صوتُك بالقصيد يُشجِّعُ
ما زال قلبك نابضًا في أضلعي = لكنَّ قلبي في الحشا يتقطعُ
ما زالت الأوراق تحكي جِدَّكُم = عندي وتنطق بالنبوغ وتصدعُ
ما زالت الأوراق قيد مدادكم = والمسكُ من أطرافها يتضوعُ
ما زالت الأيام تَطْوي ذكرَكم = حفظًا كما يُطوى السجلُّ ويرفعُ
ما زِلتَ في صَفِّي جواري قارئًا = أو كاتبًا أو للمعلم تسمعُ
ما زِلتَ .. تطلبك العلومُ بمعهد = ومعي ببيت " أبي سلامة " نرتعُ
ما زلتَ تصطنع الفَطُورَ وشبهه = ومعاً نقوم على "السرير" نرقِّع
ولأنت " صبري " إن أردتُّ تصبُّرًا = ولأنت عزمي إن أقوم وأدفعُ
* * *=* * *
قامت تسائلني الجداولُ في الضحى = والحقلُ، إذ بالخير كلٌّ يَتْرَعُ
وسنابلُ العِيدانِ رغمَ غرورِها = والأُقحُوَانُ إذا يفوح ويسطعُ
وجدائلُ الذهب التي قد أُسْدِلَتْ = فوق المياه إذا تشع وتلمعُ
كلٌّ يسائلني، أتطلع شمسنا = و" أبو بلال " في الورى لا يطلعُ؟
أين الذي قد كان يرعى وصلنا = وننام في أحضانه .. نتمَتَّعُ
ويضاحك الزهر الجميل وظننا = أن الزهور له تطيع وتخضعُ
إن قام كان على الطبيعة مثلنا = وإذا تمشى بالقراءة يخشعُ
وإذا تهادى بالبلاغة ، حولَه = تجدُ الطيورَ من البلاغة تُولَعُ
وإذا أثير الفقهُ حول قضية = في حُكْمها، فهمًا دقيقًا يُوزَعُ
يا أيها الناعي رويدك .. إنني = أجدُ الطبيعة من حروفك تفزعُ
فعلى الفقيد تنوح أبوابُ السما = وعلى البسيطة كلُّ عينٍ تدمعُ
أمَّا الفقيرُ .. فما شُغِلْتُ بغيره = ما زلت من يوم الرحيل أودعُ