سيئات شخصنة القضايا الوطنية

القادة الكبار أصحاب عقول كبيرة في التدبير ، وبلاغة في التعبير ، وهذه الثنائية قلما لا تجتمع في قائد كبير لما بين ركنيها من تلازم في فطرة الإنسان . وأشهر قادة التاريخ الكبار نبينا محمد _ صلى الله عليه وسلم _ ويقر بكبره في القيادة بعض مؤرخي الغرب المنصفين، وأما في البلاغة فهو كما وصف نفسه الكريمة : " أوتيت جوامع الكلم "، وحديثه الشريف أفصح برهان على بلاغته المؤثرة في القلوب والعقول . ويجعل شوقي الارتواء من ينابيع  هذه البلاغة شرطا مؤسسا لكل ساعٍ لأن يكون صاحب بلاغة:"فما عرف البلاغة ذو بيان* إذا لم يتخذك له كتابا".

وونستون تشرتشل أشهر رئيس وزراء في تاريخ بريطانيا والذي قادها في محنتها في مواجهة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية ؛ كان بليغا مبينا له مأثورات من جوامع الكلم باقيات. وعلى النقيض من القادة الكبار عقولا البلغاء تعبيرا يكون القادة الصغار الذين تبتلى بهم بعض الشعوب، وفي الحالتين يتأسس الكبر أو الصغر على الفطرة ابتداء والاكتساب تاليا.

فمن ولد وفي روحه بذرة القيادة والبلاغة يتجه طبيعيا نحو إثرائهما وصقلهما بالقراءة المعمقة والتجارب المتنوعة المتلاحقة، ومن حرم بذرتهما فطرةً يظل غالبا يلوب في مستنقع حرمانه. ومن كبار القادة الفلسطينيين المرحوم بإذن الله المناضل الشهيد فتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد، وأول أمين عام لها، الذي اغتالته يد الموساد الأثيمة في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1995 في مالطا، في ذروة تألقه القيادي، ووضوح تميزه الفكري والمعرفي والأدبي الذي كان ليبلغ فيه أسمى الذرا لو لم تشغله عنه أعباء القيادة الثقيلة والمحاطة بأخطار الأعداء المتعقبين له، ولو قدر له أن يمتد أجله حتى في مواجهة وطأة تلك الأعباء؛ لأنه في مواجهة وطأتها، ورغم قصر عمره نسبيا ، خلف تراثا لا بأس بكبره من المقالات، وبعض الشعر المبين لموهبة حقيقية، واحتوت المقالات عبارات عميقة المعنى مؤهلة للبقاء والتأثير. ومن هذه العبارات التي استمالتني بقوة مؤثرة قوله : " لا تربطوا القضايا بالأشخاص مهما كان بريقهم ! " .

إنه يحذر ناصحا بتجنب شخصنة القضايا الوطنية، واختصارها في شخص بالذات مهما تكن صفاته ومنجزاته التي يسود في المجتمعات المحرومة من حرية التعبير عن الرأي أن تكون صفات ومنجزات مضخمة كثيرا مثلما هي حال المجتمعات العربية. وما يحدث في حال شخصنة القضايا الوطنية أن تتراجع هذه القضايا في نسق الأولويات، ويتقدم عليها الشخص، ويصبح بقاؤه غاية في ذاته، وما يرضيه مقدما على ما يرضي المجتمع، مهما جلب على المجتمع وقضاياه من خسار وبوار. كما أن بقاءه يغلق الطريق على ظهور أي عناصر قيادية جديدة أقدر منه على نفع القضايا الوطنية المتنوعة. وتتضخم هذه الشخصنة وتتعدد، وتنتج سعي كل مسئول في المراكز السياسية والأمنية والعسكرية العليا للبقاء في منصبه سواء بسن قوانين مسبقة  تسمح بهذا ، أو بتغيير قوانين سابقة لتسمح به. ولخصوصية التجربة الفلسطينية ومأساويتها المتطاولة ، ولمؤثرات تتصل بخصائص التكوين المجتمعي الفلسطيني والعربي عامة ؛ طغت الشخصنة على مسيرة التاريخ الفلسطيني، فآب إلى هذه الأيلولة المعقدة من انغلاق أفق كل شيء في الواقع الفلسطيني انغلاقا مستعصيا على أي انفراجة مهما صغرت حجما وأثرا، ويكد صناع  الشخصنة وأنصارها المنتفعون منها في تزيين هذا الواقع ورتق خروقه الواسعة بخلافات وبيانات وتحركات تفضح حقيقة بؤسه ويأسه ، ولا تجدي ذرة صغيرة في ستر انهياره الكبير وفرادة سوئه.

الأشخاص في المجتمعة السوية الناضجة حضاريا مهما علا قدرهم ومهما عظمت منجزاتهم الحقيقية ليسوا سوى عناصر عابرة في نفع هذه المجتمعات. ومن شأن قلب هذه العلاقة بين الطرفين أن يشل حركة المجتمع في كل نواحي حياته، ويلقيه في مسار كل ريح ضارة تهب من الخارج أو من الداخل أو من الاثنين معا . وما يحدث الآن في العالم العربي يوضح مأساوية سيئات اختلال العلاقة بين الطرفين، أي الفرد والمجتمع، بتغليب قيمة الأشخاص ومصالحهم على القضايا الوطنية، وهو ما حذر منه ناصحا المناضل والمفكر الشهيد فتحي الشقاقي: " لا تربطوا القضايا الوطنية بالأشخاص مهما كان بريقهم!".

وسوم: العدد 693