عسير ومِخلاف جُرَش
رُؤى ثقافيّة 231
كانت (عسير) جزءًا من (مِخْلاف جُرَش)، وكان جُرَش الاسم الجامع للمنطقة المسمَّاة اليوم منطقة عسير. وذلك ما نجده في النصوص القديمة، حيث الإشارة إلى جُرَش وأهل جُرَش، لا إلى عسير. قال الشاعر (تَليد الضَبِّي، -100هـ= 718م) (1)، يصف قطيع إبل:
قُضاعِيَّة حُمّ الذُرَى فَتَرَبَّعَت ** حِمَى جُرَشٍ قَد طارَ عنها لَبودُها
واشتهرت (جُرَش) منذ ما قبل الإسلام بصناعة أسلحةٍ حربيَّةٍ نوعيَّة، كالدَّبَّابات، والمجانيق، والضُّبُور.(2) ووردَ ذِكر أهل جُرَش في «السِّيرة النبويَّة» في وفدٍ على الرسول، صلَّى الله عليه وسلَّم. وكانوا يعبدون (يغوث)؛ فأنفذ إليهم (صُرَد بن عبدالله). وجُرَش، كما جاء في «السِّيرة»، مدينة معلَّقة(3) فيها قبائل من اليَمَن.(4) ويُفهم من قول (الهمداني)، الذي أوردناه في المقال السابق: «يواطن حزيمة من شاميِّها (عسير)، قبائل من عَنْز، وعسير يمانيَّة تنزَّرت، ودخلت في عَنْز»، أن «عسيرًا» اسم كان يُطلق على قبائل معيَّنة. وربما كان هذا الاسم لتلك القبائل نفسها، وقد يكون اسم جَدٍّ من جدودها، لا وصفًا لطبيعة البلاد التي يقطنونها، بالضرورة. فالرجل العسير هو الرجل الصلب، كالجمل الصعب، الذي لا يُركَب. كما قال (هدبة بن خشرم):
فَمِلآنَ(5) عاجَلتُم رياضَةَ مُصعَبٍ ** مُدِلٍّ عَسيرِ الصُلبِ غَيرِ رَكوبِ
وكان يُقال إلى عهدٍ قريب: «قبيلة عسير».(6) ونصُّ الهمداني، على أن «(عَسِيرًا)، قبائل من عَنْز، وعسير يمانية تنزَّرت، ودخلت في عَنْز»، يشي بذلك الأصل الذي تلقَّبوا به. فمَن «عَسِير» المحتمَل، وَفق هذا؟
أليس (عسير بن أراشة بن عنز بن وائل)؟ ذلك ما يرجح احتماله.(7) مع عدم استبعاد الاحتمالات الأخرى.(8)
وفي مقابل هذا فإن (سعيرًا) التوراتي هو: (سعير الحُورِي).(9) أولاده: (لُوطَانُ، وشُوبَالُ، وصِبْعُونُ، وعَنَى، ودِيشُونُ، وإِيصَرُ، ودِيشَان). وكان بَنُو سَعِير هؤلاء يُسمَّون: أُمراء الحُورِيِّين. وباسم أبيهم سُمِّي (جبل سعير)، في أرض (أَدُوم)، الواقعة بين (البحر الميت) و(خليج العقبة). وأَدُوم سُمِّيت باسم (عيسو بن إسحاق)، أخي (يعقوب/ إسرائيل)، الذي كان يُطلق عليه: أَدُوم.(10) فبهؤلاء كانت تسمَّى الأوطان كما ترى في بلاد (الشام). مثلما سُمِّيت (عَمَّان) أيضًا بـ(عَمُّون بن لوط)، و(مُوآب) بـ(مُوآب بن لوط).(11) وكذلك سُمِّيت ببعض أبناء (إسماعيل بن إبراهيم) مَواطن في شِبه الجزيرة العربيَّة، مثل: (قيدار)، و(دومة)، و(تيماء). والأخيران ما زالا معروفَين إلى اليوم، بـ(دومة الجندل) و(تيماء). وهذه الأسماء أدلَّة حيَّة على الأماكن التي كان يُقيم فيها هؤلاء وأولئك.
ومهما يكن من خلاف حول الأصل في تسمية (عسير)، فخلاصة القول:
أ. إن اسم «عسير» ليس بالقديم جِدًّا في الاستعمال.
ب. لم يكن بالشهرة، أو اتساع الرقعة الذي أصبح يُعرف به مسمَّاه اليوم.
ج. هو لقبٌ قَبَليٌّ ، أو نَسبٌ قَبَليٌّ. أو ربما صحَّ أنه وصفٌ تضاريسيٌّ. لكنه، مهما يكن من ذلك كلِّه، لا يرقَى تداولًا إلى مجاهل التاريخ السامي.
ومن هنا فلا مسوِّغ للربط بين اسم (عسير) واسم (سعير) التوراتي، تاريخيًّا، فضلًا عن انتفاء المسوِّغ اللغوي. فليلعب من أراد الربط بينهما لعبة أخرى أقلَّ تهريجًا!
ويُلحظ هنا أنه، مع تفصيل (الهمداني) في وصف (جُرَش)، لم يُشِر قط إلى وجود مكانٍ هناك اسمه (المصرامة)، من قريبٍ أو بعيد، مع ما علَّقه (كمال الصليبي) وتلامذته وأتباعه بذلك الاسم من تاريخ طويل عريض، موغل في ماضي الشرق الأوسط السحيق.
فتأمَّل!
[وللحديث بقيَّة]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طريفي، محمَّد نبيل، (2004)، ديوان اللُّصوص في العصرَين الجاهلي والأُموي، (بيروت: دار الكتب العلميَّة)، 1: 142.
في الأصل: «جَرَش». ونقلَ الشارح تعريف (الحموي، معجم البلدان، (جرش)) بجَرَش الشام، المعروفة في (المملكة الأردنيَّة)، وقد استشهد الحموي بأبيات تليدٍ، التي منها بيته المستشهد به هاهنا. وأُرجِّح أن المقصود جُرَش، لا جَرَش. فحنين هؤلاء الشعراء الأعراب، ولاسيما اللصوص منهم، إلى مراتعهم في الجزيرة لا خارجها. وربما كان من قرائن ذلك إشارته إلى (قُضاعة).
(2) انظر: ابن هشام، (1955)، السيرة النبويَّة، تحقيق: مصطفى السقا؛ إبراهيم الإبياري؛ عبدالحفيظ شلبي (القاهرة: مصطفى البابي الحلبي)، 2: 478.
وهذه الأسماء لأسلحة، اشتُقَّت من بعضها تعريباتنا الحديثة، كـ«الدَّبَّابة». فاليوم لم يبق للعرب من صَنْعَةٍ سوى تعريب الأسماء. إن أسلافنا كانوا أُمَّة كسائر الأُمم، يصنعون ما يستلزمه عصرهم، ولا يكتفون بتسمية ما يشترون!
(3) جاء في بعض النقول من هذه الرواية: «مُغْلَقة». وفُسِّر ذلك بأنها حصينة، محروسة، لا يدخلها غير أهلها.
(4) انظر: ابن هشام، م.ن، 2: 587- 588.
(5) فمِلآن: أي «فمن الآن».
(6) انظر مثلًا: حمزة، فؤاد، (1968)، في بلاد عسير، (الرِّياض: مكتبة النصر)، 99.
(7) وهذا ما ذهب إليه (الجاسر، حمد، (1977)، في سراة غامد وزهران (نصوص، مشاهدات، انطباعات)، (الرِّياض: دار اليمامة)، 478). محيلًا إلى: «جمهرة النسب، والنسب الكبير، لابن الكلبي، والإكليل، 1: 291».
على أن ما نجده في كتاب (ابن الكلبي، (1988)، نَسب معد واليَمَن الكبير، تحقيق: ناجي حسن (بيروت: عالم الكتب- مكتبة النهضة)، 1: 95): «عُشَيْر»، بالمنقوطة والتصغير، لا «عَسِيْر». وربما كان تصحيفًا.
(8) هذا بالإضافة إلى عدم الاطمئنان العِلْمي إلى كلِّ ما يَرِد عن (الهمداني)، وربما إلى جُلِّه. لأن الرجل، في كثيرٍ، لا يعدو ناقلًا ما وَرَدَ عليه، من غثٍّ وسمين، عهدَنا بالمصنِّفين في تلك الحِقب، ولا سيما في شأن التاريخ والأنساب. وقد مرَّت نماذج ممَّا كان يسوقه من خُرافات وأساطير أو من شِعرٍ منحول، لا يصح عند ذي لُبٍّ حصيف.
(9) سِفر التكوين، 36: 20.
(10) مع أن «التوراة» تتناقض في سطرَين متتالين من (سِفر التكوين، 36: 8- 9)، هكذا: «وَعِيسُو هُوَ أَدُومُ. وَهذِهِ مَوَالِيدُ عِيسُو أَبِي أَدُومَ فِي جَبَلِ سَعِير!» فهل عيسو أَدُوم، أم هو أبو أَدُوم؟! إلَّا إنْ كان معنى « أبو» هاهنا: «صاحب»، أي: «صاحب أرض أَدُوم».
(11) و«التوراة» تزعم أنهما ابنا (لوط) من ابنتيه! (انظر: سِفر التكوين، 19: 30- 38).
وسوم: العدد 693