الطريق إلى مراكش الحمراء
أ.د. حلمي محمد القاعود
" – ياويلى ! "
قلتها لنفسى ، عندما استيقظت استجابة لنداء جماعة المؤتمر ، من أجل جلسة مسائية تسبق أعماله فى الغد – لم أسترح ، ولم أنم من ليلتين إلّا ساعة وبعض ساعة دون أن أستغرق .. أعلم أنه لا مفر من المشاركة مهما كنت متعباً ومجهداً ، فعمدة المؤتمر مع أنه تخطى السبعين – أطال الله عمره – ويسبقنى بنحو عشر سنوات ، ويُعانى مثلى من متاعب صحية كثيرة ، إلا أنه – بفضل الله – نشيط ، ويغالب التعب ، ويُحرّك الآخرين بإقناع وحزم ، فهو يريد المؤتمر ناجحاً ومثمراً ..
صليت المغرب والعشاء – وفقاً للرخصة الشرعية – جمعاً وقصراً ، وذهبنا إلى مبنى الكلية ، حيث قاعة الاجتماعات . كانت الحديقة الخضراء اليانعة تلّف الكلية الحمراء ، وتغمرها بالنضارة والروائح الزكية ، وجدت على الباب غرفة يجلس فيها موظف متواضع ، ولا أحد حوله .. تصوّرت أننى سأجد الأمن المركزى ( أو الدرك كما يسمى هناك ) المدجج بالخوذات والعربات اللورى الضخمة ، تدعم الحرس الجامعى ، كما هى الحال فى الوطن التعيس ! لم أجد شبح عسكرى واحد ، ولا أثر لحارس بمعنى الشرطة .. الموظف المتواضع يردّ السلام ويزيد عليه الرحمة والبركات .. التواضع والهدوء والرضا علامات يستشعرها من يدخل المكان .. ومع أن المغرب شهد حوادث عنف دامية ، ولكن لا أثر للدرك أو الشرطة فى المكان ، ولكنه النظام الأمنى الذى يعمل بذكاء ، ويظهر عند الضرورة من حيث لا يدرى أحد .. كانت القاعة مستطيلة ، وزاد عدد الحاضرين زيادة كبيرة ، فكان هناك صف ثان وثالث ، وبدأت الكلمات الترحيبية ثم التعارف ، ثم طرح الرؤى والتصوّرات الخاصة بقضايا الأدب ووسائل التعبير .. واستغرق ذلك وقتا غير قصير ، أحسست بعده بحرج شديد فى البقاء ، وعندما طرح مناقشة موضوعات أخرى ، وجدتها مناسبة لأطلب من رئيس الجلسة التأجيل إلى يوم تال ، نكون قد استجمعنا قوانا ، وعاد التركيز إلى الأذهان قوياً وحيّوياً .. لقد طلبت أن يطلق سراحنا بعد رحلة شاقة وطويلة .. وكانت استجابة جماعية كريمة لما اقترحته .
فى أثناء التعارف لاحظت ظاهرة غريبة ، أن عدداً غير قليل من زملائنا المغاربة فى جامعات مختلفة ، يصفون أنفسهم بأنهم " مغادرون طوعاً " ، مع أنهم فى الخمسينيات من العمر ، أى بداية العطاء العلمى والأدبى .. قمة النضج التى تحرص عليها الأمم والحكومات ، وأصررت فيما بعد أن أعرف معنى " مغادر طوعاً " ، فوجدتها تساوى عندنا " المعاش المبكر " ، مع اختلاف يسير حيث يحصل المغادر طوعاً على مبلغ كبير يغريه بإنشاء مشروع إذا كان من هواة العمل الحر ، أو يكفيه لحياة معقولة ، يستطيع فى أثنائها أن يتعاقد مع جامعة مشرقية تستفيد بخبرته ونضجه .. صعدت إلى رأسى مشاهد عديدة . منها مثلاً أن بعض الحكومات العربية حريصة على إذلال أساتذة الجامعات فيها ، بالمرتبات الضئيلة ، أو إخضاعهم لهيمنة السلطة البوليسية الفاشية ، أو ترويضهم بالمناصب السياسية أو ما يُشابهها لتأييد الاستبداد وقوانينه الظالمة .. ومنها مثلاً إهمال الأساتذة بعد الستين ومعاملتهم " درجة ثانية " ، ليقهرهم تلاميذهم ويتحكموا فى مقدراتهم فلا تستفيد منهم جامعاتهم ولا أمتهم ، على النحو الذى يعرفه أعضاء هيئة التدريس .. ومنها الضغط على الأساتذة المنتجين ، حتى يهربوا ، ويخرجوا إلى بلد آخر ، يظلون فيه بقية حياتهم ، ويستفيد من عطائهم وجهدهم .. ومنها مثلاً ما فعله الغزاة الصليبيون المتوحشون عندما احتلوا العراق قبا سنوات حيث كان الأساتذة هدفا أساسيا من أهدافهم ، فقد تم اغتيال أكثر من مائتى أستاذ ، وتهجير آلاف ، وتحويل من تبقى إلى شبه متسولين ، يبيع بعضهم كتبه أو مكتباته فى بغداد على أرصفة شارع الرشيد أو شارع السعدون !
هل " المغادرة الطوعية " تدخل فى هذا السياق الكئيب ؟ لا أدرى ، ولم أعرف إجابة واضحة ، ولكن الذى أعرفه أن أساتذة الجامعة هم عماد البناء الحضارى فى أية أمة ، وقد كانت مصر فى بدايات نهضتها تستقدم أساتذة للتعليم العالي ؛ والثانوي أيضاً ، فى تخصصات عديدة لتحقق أملاً تسعى إليه وغاية تعمل من أجلها ، والسؤال هو : لماذا التفريط السهل فى الأستاذ الجامعى ؟ ولماذا التمسك القوى برجل الشرطة أو العسكرى بعد انتهاء خدمته الميدانية ، ليعمل في مجالات مدنية ، ومنها مجالات لا علاقة له بها مثل الثقافة ومحو الأمية والإذاعة والتلفزيون والمجالس النيابية والمحليات ووسائل المواصلات والاتصالات ؟ من يعلم الإجابة أرجوه أن يخبرنى ! .
عدت إلى الفندق أجرّ نفسى جرّا ، وكان علىّ أن أبقى مرغماً للعشاء مع الزملاء ، وأتناول منه قدر ما أستطيع ، فلست متعوّداً على الأكل فى وقت متأخر .. وكان نوم مضطرب .. وكان استيقاظ متكرر .. حتى جاء الفجر ، موعد يقظتى المعتاد ..
تمنيت أن أجد الفول فى الإفطار ، ولكن المطعم المفتوح فرنسى الهوى والسمات ، حتى الجبن لم يظهر إلا بعد طلبه من القائمين على شئون المطعم ، وكان هدفى الأول هو الشاى ..وحسناً فعل القوم حين جاءوا بعلبة شاى ليبتون وبجوارها السكر والماء الساخن ، بعد أن عرفوا أن المشارقة يُفضلونه على الشاى الأخضر ..
فى جلسات الطعام ، يكون الأكل آخر هدف لأعضاء المؤتمر . الهدف الرئيسى هو الثرثرة المفيدة حول أحوال البلد المضيف ، وبلد الضيف .. أحوال الثقافة والتعليم والفكر والسياسة والأدب والاقتصاد وأيضاً ، العادات والتقاليد .. إنها ندوة مفتوحة ، وقد يجد المرء نفسه هو المحاضر فيها دون أن يفكر فى إعداد المحاضرة وصياغتها .. هى محاضرة عفوية تلقائية ، تنحو إلى الفصحى غالباً ، ليفهم الآخرون عنك وتفهم عنهم ، فاللهجة المغربية تبدو صعبة للغاية بسبب السرعة الشديدة واختلاف المصطلحات إلى حد ما ، لذا فهم حريصون على الفصحى بطريقتهم المميزة عند الحديث إلى المشارقة . ولا يجدون صعوبة فى التفاهم مع الفرنسيين بالفرنسيّة ، حتى يتكلمونها بإتقان كأهلها ..
وقد لاحظت أن المطعم يغصّ بالأسر الفرنسية التى جاءت للسياحة ، وتسكن الفندق معنا ، ويتكاثرون فى وجبة الإفطار ، لأنها مجانية ضمن تكاليف الإقامة ، أما فى الغداء فيقلون ، ويكادون يتلاشون فى وجبة العشاء ، بسبب تناولهم لها فى الحىّ الشعبى الذى يعد رخيصاً بالنسبة للفندق ومراكش الجديدة ..
لقد كانت جلسات المطعم مع الأعضاء والزملاء دافئة وحميمية ، وتعبر عن وحدة أمة ، فرّقتها الأحوال والظروف ..