الطريق إلى مراكش الحمراء
أ.د. حلمي محمد القاعود
كنت أحلم دائماً بالسفر والرحلة . أُتوق لرؤية العالم والتعرف عليه واكتشاف المزيد من أنماط الحياة وأنواع السلوك ، وحققت بعض الحلم ، دون أن تكون الرحلة غاية فى ذاتها ، والسفر هدفاً لذاته .. كان العمل ، أو العلم من وراء شدّ الرحال . أما الرحلة نفسها فلم تكن مقصودة إلا فى زمن بعيد . أيام كنت طالباً فى المرحلة المتوسطة أو الثانوية ، وكانت فى داخل مصر ، ونفذتها بقروش قليلة ، وكانت جميلة جمال الأيام الأولى فى حياة الصبا والشباب ..
بعدها ، أخذتنا الدنيا ولم تفلتنا ! شدتنا وراءها فنسينا أنفسنا ، سعيا وراء غاية عامة أو خاصة ، ثم تكاثرت الهموم والآلام ، فجعلت الحركة محدودة ، والسفر مقيداً بالضرورة القصوى ، والإلحاح المضنى ..
وحين عرفت أن " مراكش " هى المقصد فى أواخر أكتوبر 2007م ، استدعت ذاكرتى أياماً قديمة جميلة .. رأيت فيها اثنين من المغاربة يهبطان قريتنا فى شمال الدلتا ، لقد كانا فى طريقهما لأداء فريضة الحج ، وبقيا فى ضيافة أحد الجيران ، وكان خياطاً بلدياً – رحمه الله – فترة طويلة عاماً أو أكثر من عام ، حتى رحلا إلى أرض الحجاز تشيعهما دموع الأهالى البسطاء ، وذكريات الأيام الطيبة التى قضياها بين أهل القرية ..
كان الرجلان من مراكش . لا أدرى من مراكش الدولة كما كانت تسمى المغرب آنئذ ، أو مراكش المدينة الحمراء كما تعرف الآن .. ولكن مراكش التى ترددت فى أسماعنا صغاراً ظل لها سحر غريب وعجيب ، يشدّنا إلى عالم بعيد ومجهول وشائق دلت عليه ملابسهما المميزة ، ولهجتهما الخاصة .. وهو عالم محبوب تمنينا أن ننتقل إليه ، ونتعرف عليه .. بيد أننا نحن القرويين الصغار – لا نملك إزاء ذلك شيئاً ..
فى فترات لاحقة كانت الدكتورة عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) تكتب فى " الأهرام " - الملحق الأدبى – مقالات تذكر فيها مراكش وتتحدث عن عملها فى جامعة القرويين ، وعن الأبحاث والمخطوطات التى تحققها هناك ، وتضيف إلى ذلك شيئاً من التاريخ القديم والحديث الذى يتعلق بأهل مراكش وكفاحهم وحضارتهم وعلاقتهم بالأندلس ..
رسخت مراكش فى ذاكرتى .. ومع أننى زرت المغرب عام 2001م ، قاصداً مدينة أغادير الشهيرة على المحيط الأطلنطى ، فقد كانت مراكش مطروحة فى الأحاديث والأبحاث التى عرضت فى المؤتمر الذى كنت أحضره آنئذ ، وزاد من شغفى لرؤيتها أن بعض الزملاء تحمّلوا مشقة السفر ، وذهبوا إليها فى الوقت الضيق المخصص لزيارة المغرب .. وعدت أحمل مراكش فى وجدانى حلماً أسعى لرؤيته على أرض الواقع .
ويوم جاءت الدعوة لزيارتها بعد سنوات ، كنت مجهداً أعانى آلاماً مزمنة ، اشتدت فى الفترة الأخيرة ، وظننت أنى لن أستجيب ولن أستطيع ، ومع التشجيع ورغبة الأحباب ، قاومت أوجاعى ، وتوكلت على ربى ، وكان القرار بالسفر .
ليلة السفر ، غادرت قريتى فى منتصف الليل ، صحبنى بعض أولادى إلى المطار ، وقبيل الفجر كان كل شئ هادئاً فى الصالة القديمة . بقى على موعد الإقلاع ثلاث ساعات تقريباً ، وكان علينا أن ننتظر بعض الوقت حتى يبدأ العمل فى فحص التذاكر ووزن الأمتعة وتحديد الأماكن . بعد صلاة الفجر وانبلاج النور ، رأيت بعض الزملاء والمعارف ، وفى الطائرة تعرفت على زميل كان فى طريقه إلى كوناكرى فى جمهورية غينيا – وهى غينيا سيكوتورى كما كنا نسميها فى الستينيات نسبة إلى رئيسها أحمد سيكوتورى الذى لم يكن ينقطع عن زيارة القاهرة إلا نادراً – وكان الزميل متوجهاً إلى الدار البيضاء محطتنا الرئيسية ، ليقضى فيها بضع ساعات يستقل بعدها طائرة أخرى إلى كوناكرى حيث يمثل مع السفير المصرى فى غينيا وشيخا أزهريا الجالية المصرية هناك !
سألته : ألا يوجد مصريون يعملون أو يتاجرون أو يقيمون ؟
قال لى : لا .. نحن الثلاثة فقط . وأخبرنى أنه يعمل فى جامعتين . إحداهما اسمها جمال عبدالناصر والأخرى اسمها فرنسى ( نسيته الآن مع أنه اسم مشهور ، والعتب على الذاكرة الخربة ! ) . أخبرني أن العرب الموجودون هناك معظمهم لبنانيون ، وهم مقيمون إقامة شبه دائمة لأنهم يعملون بالتجارة .
قضينا فى الطائرة الضيقة طراز بيونج 737 ما يقرب من ست ساعات ، نام فيها الناس كما لم يناموا . أما أنا وزميلى المسافر إلى غينيا ، فقد جفانا المنام . لا أستطيع النوم فى طائرة أو قطار أو سيارة ، أظل يقظاً حتى أعود إلى مقر الإقامة المؤقتة أو الدائمة .. ولكن ثرثرتى مع زميلى التى شرّقت وغرّبت أضافت إلىّ أشياء كثيرة .. أما زميلى المرافق إلى مراكش فقد استغرق ، وكان يستيقظ بين الحين والآخر ، ليُشارك معنا فى الثرثرة ، ثم يخلد إلى النوم .
كان مطار الدار البيضاء يستقبل مع طائرتنا بعض الرزاز الذى أخذت تبعث به السحب الخفيفة ، وكان المحيط بزرقته متعانقاً مع خط السماء فى مشهد بديع ، يصنع صبحاً جميلاً مفعماً بالهواء النقى الطرى ..
لم أر من ( كازبلانكا ) أو الدار البيضاء غير مطارها هذه المرة ، والطرق المحيطة به ، والمؤدية إلى مدن مغربية أخرى . وكانت السيارة التى تنتظرنا تقف على أهبة الاستعداد لتقطع حوالى عشرين ومائتى كيلومترا إلى مراكش الحمراء ..
الطريق معبد وجديد ، محطات الخدمة جاهزة ، لا توجد محطة تدعى أن الكهرباء مقطوعة ، أو البنزين 80 غير موجود ، أو أنها تحولت إلى غسل السيارات فقط . الخدمة جيدة وسهلة وسريعة ، والسيارات تلتزم بحزام الأمان تلقائياً ؛ السائق ومن يركب إلى جواره لابد أن يرتديا الحزام ، وبوابات الطريق تُحصّل الرسوم من السيارات المارة فى آخر الرحلة . يسمونها محطات " الأداء " ، سألت عن معناها ، قالوا : إن الدولة تُحصّل تكاليف الطريق وإنشاءاته من مرور السيارات ، وعندما يتم تحصيل مجملها ، ترفع من على الطريق الذى يصير حرّاً ، ولا تدفع عليه أية رسوم بعد ذلك .
وقفزت إلى ذهنى صورة بوابات المرور عندنا على الطرق السريعة ، وأموالها التى ....؟