العلامة المحقق والمحدث شعيب الأرنؤوط
رجالات سورية
ولد العلامة الحافظ، المحدث الفقيه المتبصر، الحكيم الورع، والداعية النبيل بقرية (فريلا) في إقليم كوسوفا من بلاد الأرنؤوط فيما كان يعرف بيوغوسلافيا، سنة 1928. والأرنؤوط جِنسٌ يندَرِجُ تحته شعوبٌ كثيرة من الألبان واليوغسلاف وغيرهم. والألباني قديماً كان يكتب على غلاف كتبه: تأليف محمد ناصر الدين الأرنؤوطي، وعليها خطه بالإهداء إلى المكتبة الظاهرية.
وقد هاجر شيخنا سنة 1932 إلى دمشق بصحبة والده وبقية عائلته وكان عمره آنذاك ثلاث سنوات، من جراء اضطهاد المحتلين الصرب للمسلمين الألبان. وكان المسلمون آنذاك أقلِّية مضطهدين من قبل الصِّرب يمارسون عليهم الضغوط بشتى أنواعها، مما دعا السكان المسلمين للفرار بدينهم إلى بلاد المسلمين. وعندما كان الشيخ صغيراً حرص والده على تعليمه اللغة الألبانية، فأتقنها مما ساعده هذا في رحلاته إلى البلدان التي زارها ولا سيما بلده الأصلي إقليم كوسوفا في يوغسلافيا متخطياً بذلك حاجز اللغة.
فترعرع الشيخ في دمشق الشام، وتلقى تعليمه أول الأمر في مدرسة "الإسعاف الخيري" بدمشق بعد دراسة سنتين في مدرسة "الأدب الإسلامي" بدمشق. وبقي في مدرسة "الإسعاف الخيري" يطلب العلم حتى أنهى مرحلة الخامس الابتدائي سنة 1942 وكان الصف الخامس آنذاك هو نهاية المرحلة الابتدائية. وبعد ذلك ترك العلم لغرض العمل لحاجته للمال فعمل "ساعاتياً" في تصليح الساعات في محلة "المسكية" بدمشق، وكان يعمل في النهار ويدرس القرآن والفقه مساءً. وكان عمله عند رجل أزهري يدعى الشيخ "سعيد الأحمر التلي" وكان عالماً يعلمِّه علوم الدين واللغة. وعندما لاحظ نبوغه وحفظه للقرآن والحديث النبوي الشريف، وجَّهه وأرشده لطلب العلم حيث أخذ بيده للمسجد الأموي بدمشق، وساعده بالمال وقال له: "يا بني، أنت لا تصلح إلا للعلم". وقام بتسليمه للشيخ عبد الرزاق الحلبي وانضم إلى حلقة من حلقاته العلمية، وطلب منه تعليمه علوم الشرع واللغة والأدب.
إن سبب شهرة الشيخ هو اهتمامه بجانب هام ميّز شخصيته وهو اختصاصه بعلم الحديث النبوي الشريف الذي نالته هذه الشخصية، فلولا العلم لما كانت له هذه المكانة التي ارتقاها على صعيد العالم الإسلامي.
فالعلم أساس حياة الإنسان، وعليه تبنى شخصيته، ولا أظن أن هناك من يخالف هذه الحقيقة. ولا أجد حاجة هنا للتدليل على قولي، فكتاب الله تعالى وأحاديث نبينا صلوات الله وسلامه عليه فيها دروس وإرشادات كثيرة في هذا المجال. والشيخ –حفظه الله– بالإضافة إلى موسوعيته العلمية الفذة، وتبحره في علم الحديث، فهو بجيد اللغة الألبانية، بشكل ممتاز، ويلم بشيء من اللغة الفرنسية، وهذا مما ساعده كثيراً في هدفه السامي في نشر كلمة التوحيد والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولا نجد في شخصيته الغرور ولا الكبر، بل يتواضع لكل الناس ولا يخدعه مظهر من مظاهر الدنيا. ولا سيما أن النفس لها حظوظ في مثل هذه الحالات. فهو عارف بحقيقة عبوديته لله عز وجل. ولذلك اتصف بالصفات النبيلة، ولا يرضى بالألقاب، فأعز لقب يحرص عليه هو « العبد الفقير» ويأبى ما سواه. وقد حَبَّبَ الله إليه دراسة الحديث النبوي الشريف منذ الصغر فعكف عليه، يقول الشيخ: «كنت في فترة الاستراحة بين الحصص المدرسية أحفظ خمسة أحاديث. فكنت متمتعاً بذاكرة طيبة وقدرة على الحفظ كبيرة بحمد الله تعالى وعونه».
رحل الشيخ إلى بلاد عديدة، ولم يكن يمنعه بُعد المسافة ومشاق السفر عن هدفه السامي في سبيل الدعوة إلى الله تعالى القائل في كتابه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت. فكانت معظم رحلاته العلمية منحصرة إلى مسقط رأسه «إقليم كوسوفا في يوغسلافيا» وما جاورها من البلاد المتعطشة للإسلام كألبانيا. فآثاره وجهوده لا تنكر، وفضله لا ينسى في تلك البلاد. كما أن الشيخ يتوجه باستمرار إلى بعض البلاد العربية والإسلامية للمشاركة في المؤتمرات وإلقاء المحاضرات والندوات العليمة المفيدة.
ليس للشيخ اجتهاد خاص في علم مصطلح الحديث، إنما يعمل بما سار عليه علماء الحديث المتأخرين وشرّاحه. وبخاصة الحفاظ المتأخرين من أمثال الحافظ ابن حجر العسقلاني والحافظ العراقي.
أما عن محفوظ الشيخ. فالشيخ من خلال عمله في مجال تحقيق الكتب مدة طويلة واهتمامه بعلم الحديث، يحفظ ما يقارب عشرة آلاف حديث. ويؤكد على جانب من الأهمية: أن سلامة المُعتَقَد شرطٌ معيناً، قد يميل ويتعصب إليه، فيؤثر عليه في منهجه من خلال تصحيحه وتحسينه وتضعيفه للحديث مثلاً.
والشيخ عبد القادر يتمتع بحافظة قوية. يذكر عن نفسه أنه كان يحفظ خمسة أحاديث في فترة الاستراحة بين الحصص في زمن الدراسية الأكاديمية. فكان يتمتع بحافظة قوية –أدامها الله عليه–. وهذا معروفٌ عن الشيخ. فالشيخ حافِظٌ من الحُفّاظ، قَلَّ أن يُسأل عن حديثٍ إلا ويَسوْق لك مَتْنَهُ كاملاً. كم اندهشت من سُرعة استخراجه للحديث من الكتب. فإني كنت أجالس الشيخ في مكتبته العامرة، فيدخل عليه صنوف الناس ما بين سائِلٍ ومُستَرشِدٍ ومُتَحاكِمٍ إليه للإصلاح في أمور المنازعات –في الطلاق وغيره – فكان الشيخ موسوعةً في استخراج الحديث من مَظَانّه. يمُدّ يده إلى الكتاب، فيُخرج منه الحديث المسؤول عنه بسرعة عجيبة –حفظه الله–.
عمل الشيخ مدرساً لعلوم القرآن والحديث النبوي الشريف بين عامي (1952م – 1959م) في مدرسة «الإسعاف الخيري» بدمشق (التي درس فيها). وقد أدرك فيها شيخه في التجويد: المقرئ صبحي العطار –رحمه الله–.
وفي عام (1381هـ – 1960م) انتقل إلى المعهد العربي الإسلامي بدمشق، فدرَّس فيه القرآن والفقه. ثم انتقل إلى التدريس في معهد الأمينية، ومنه إلى معهد المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني بدمشق.
هذا بالإضافة إلى ذلك، فهو يقوم بتدريس ما يقارب الخمسين طالباً من مختلف بلدان الأرض مادة الحديث وغير ذلك. ويدرّس الألبان منهم بلغتهم الألبانية.
تقلّد الخطابة في سنة (1369هـ – 1948م) وكان عمره آنذاك عشرين (20) سنة، حيث كان خطيباً في جامع «الدّيوانية البَرَّانية» بدمشق، حيث بقي فيه خطيباً لمدة خمسة عشر (15) عاماً.
ثم انتقل إلى منطقة «القَدَم» بدمشق، حيث قام ببناء مسجد فيها بمساعدة أهل الخير، وسماه جامع « عمر بن الخطاب». وعمل فيه إماماً وخطيباً لمدة عشر سنوات. و «القدم» حيٌّ في أطراف دمشق، يقول بعض العوام أن في تلك المنطقة أثر قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب إذ أنه في رحلته للشام في صغره لم يتجاوز بُصْرى، كما يعلم الجميع.
ثم انتقل إلى منطقة «الدحاديل» بدمشق، وكان خطيباً في جامع «الإصلاح» وبقي فيه مدة عشر سنوات.
ثم انتقل إلى جامع «المُحمّدي» بحيّ الـمِـزَّة، وبقي فيه خطيباً ما يُقارب ثماني سنوات. و(«المِزَّة» كانت في الماضي قرية عند جبل يسمى باسمها في غوطة دمشق. وهي الآن من الأحياء الراقية في مدينة دمشق نتيجة التوسع العمراني). ثم منع الشيخ من الخطابة وغيرها بسبب كلامه عن الاحتفال بعيد رأس السنة وما ساقه في الخطبة من القول بكفر الصرب النصارى وغيره، فاشتكى عليه الصوفية العملاء وقالوا: إنه يكفر النصارى!... إلى أشياء أخرى لا نود ذكرها هنا.
لكن الشيخ بقي يلقي دروسه في معهد الأمينية (وهي مدرسة قديمة للشافعية، لها مبنى جديد في جامع الزهراء بالمزة). وهو الآن يقوم بالتدريس والوعظ ولا يترك مناسبة من زواج أو وفاة إلا ويتكلم فيها وينبه الناس إلى السنة الصحيحة ويدعوهم إلى ضرورة ترك البدع والمخالفات في الشريعة.
لم يعتمد الشيخ منهج التأليف، ولكنه اعتمد التحقيق منهجاً له. يقول في ذلك: «... ذلك لأن المؤلفات كثيرة، والتحقيق أولى. وذلك حتى نُقدِّمَ الكتاب إلى طالب العلم محقَّقاً ومصحَّحاً حتى يستفيد منه». ويقول الشيخ: «فإني –بعونه تعالى– حقّقْت أكثر من خمسين كتاباً كبيراً وصغيراً، في الفقه والحديث والتفسير والأدب وغيرها، وهي موجودة في العالم الإسلامي».
إن باكورة تحقيقات الشيخ هو:
1 – إتمام تحقيق كتاب "غاية المنتهى" في الفقه الحنبلي الذي بدأ تحقيقه شيخ الحنابلة آنذاك جميل الشطي –رحمه الله–، حيث طلب من الشيخ إتمام العمل على تحقيقه.
وفي بداية الستينات انتظم الشيخ للعمل مديراً لقسم التحقيق والتصحيح في المكتب الإسلامي بدمشق، وذلك بصحبة الشيخ شعيب الأرناؤوط –حفظه الله–. واستمر في عمله هذا حتى عام (1389هـ – 1968م). وفي غضون ذلك وبعده قام بتحقيق كتب كبيرة بالاشتراك مع شعيب، وصدرت عن المكتب الإسلامي، منها:
2 – زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي في 9 مجلدات.
3 – المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح في 8 مجلدات.
4 – روضة الطالبين، للنووي في 12 مجلداً.
8 – جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام، لابن القيم في مجلد.
– مشكاة المصابيح، للتبريزي. وقد شارك في تخريج أحاديثه الشيخ ناصر الدين الألباني –رحمه الله–.
5 – الكافي، لابن قدامة المقدسي.
7 – رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيمية.
6 – مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي.
وأخرج معه أيضا وطبع عن دار مؤسسة الرسالة:
9 – زاد المعاد لابن القيم في 5 مجلدات. وقد عمل فيه الشيخ عبد القادر أولا، ثم شاركه شعيب في تحقيقه.
10 – المسائل الماردينية لابن تيمية، قام بتحقيقها وتصحيحها حيث كان يعمل بالمكتب الإسلامي.
11 – ومن أعماله الكبيرة المشهورة: تحقيق "جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم" لابن الأثير الجزري. استغرق عمل الشيخ فيه خمس سنوات كاملة مليئة بالصبر والجهد والعمل الدؤوب. وروعة هذا العمل أن ذلك الكتاب يحوي الصحيحين وسنن النسائي وأبي داود والترمذي وموطأ مالك. فهو يحوي على عامة الأحاديث الفقهية ويكاد يستوعب الصحيح منها، لكنه مخلوط مع الضعيف ومحذوف الإسناد. فالذي قام به الشيخ هو تخريج تلك الأحاديث والحكم عليها بمنهج معتدل منصف. وبذلك صار بإمكان الفقيه معرفة حكم الحديث الذي يحتاجه بكل يسر وسهولة. وهو يعمل على طبعة جديدة له. وعمله الجديد في جامع الأصول هو بمثابة إعادة نظر وتحقيق جديد له، بالإضافة إلى ضم زوائد ابن ماجة في الحاشية.
12 – الأذكار للنووي – مجلد
13 – مختصر شعب الإيمان للبيهقي – مجلد
14 – الحكم الجديرة بالإذاعة لابن رجب.
15 – فتح المجيد شرح كتاب التوحيد – مجلد
16 – لمعة الاعتقاد لابن قدامة.
17 – التبيان في آداب حملة القرآن للنووي - مجلد
18 – كتاب التوابين لابن قدامة – مجلد
19 – وصايا الآباء للأبناء لأحمد شاكر – تعليق.
20 –الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة لصديق خان.
21 – شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد للسفاريني – مجلدين. طبع بالمكتب الإسلامي، لكن كان الشيخ يقوم بالتعليق عليه وشرحه، فلا أدري أنتهى منه أم لا؟
22 - كفاية الأخيار للحصني.
وتحقيقاته من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرة، منها:
23 – قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة
24 – الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
25 –الكلم الطيب
وهناك غيرها، ومن كتب ابن القيّم:
26 –الوابل الصيب
27 –الفروسية
28 -فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن القيم
29 –عدة الصابرين
ومن الكتب حققها الشيخ وانتهى منها لعلها لم تطبع بعد (هي الآن في المطبعة في الرياض):
30 –الشفا للقاضي عياض.
31 – الفتن والملاحم لابن كثير.
32 – المتجر الرابح للدمياطي.
33 – شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم لابن كثير.
34 – السنن والمبتدعات للقشيري.
35 – يقظة أولي الاعتبار بذكر الجنة والنار لصديق خان.
وله من الرسائل الوجيزة النافعة:
36 – الوجيز في منهج السلف الصالح، ولهذه الرسالة قصة.
37 – وصايا نبوية – شرح فيها خمسة أحاديث أخذا بما قاله بشر بن الحارث – كما قدمنا قوله أول الترجمة -.
كما أنه اشترك في تحقيق شرح الطحاوية المطبوعة بالمكتب الإسلامي. وغيرها كثير مما علق عليه الشيخ أو أشرف على تحقيقه.
وقد عملت بمعيته لفترة من الزمن (1993) أثناء إقامتي في الأردن، وتعلمت منه الكثير في علم التحقيق.
وكانت وفاة الشيخ رحمه الله يوم 27-10-2016.
وسوم: العدد 793