القاضي محمد سيرجية
ولد عام 1915 في حلب ، والدته شريفة طيبي ووالده الحاج علي سيرجية من أعلام حي باب قنسرين ومن الرجال الذين اشتركوا مع ابراهيم هنانو في الحركة الوطنية لتحرير سوريا من الإنتداب الفرنسي. كان لوالده تأثير هام عليه في مسيرة حياته ولمشاركته بالحركة الوطنية لتحرر سوريا وفي التمسك بتطبيق العدالة في عمله. درس في المدرسة الفاروقية والتجهيز الاولى بحلب ثم دخل كلية الحقوق بدمشق عام 1936 وحصل على اجازة في الحقوق عام 1940
بدأ عمله في السلك العدلي عام 1942 وصار قاضي صلح في حماه ثم حارم ثم إدلب بين عامي 1944 و.1945.
تزوج عام 1943 من السيدة مليحة زهدي ابنة الدكتور عمر زهدي طبيب العيون ، فانجبت له بناته هالة ومها ولينة والدكتور علي طبيب العيون المختص في الولايات المتحدة الذي عمل في حلب وكانت أعماله الطبية المتميزة مداواة ناجعة لمرضى العيون في سوريا وفي المنطقة.
تنقل في السلك العدلي بين دمشق حلب واللاذقية وحماه والسويداء وفي عام 1959 اصبح مستشارا في محكمة الاستئناف بحلب ، ثم رئيسا لمحكمة الاستئناف بحماه عام 1963، ثم اصبح رئيسا لمحكمة الاستئناف بحلب عام 1967 إلى أن تقاعد.
أصدر عام 1971 كتاب "حلم في عرفات - الغفران الجديد" وهو كتاب متميز جمع عناصر من الإشراقات الصوفية والمحبة الإنسانية الخالصة ولمحات عن ابرز معالم من سيرته الوطنية واحكامه المتميزة في القضاء.
وصف في الكتاب بعض المفاسد التي تضرب مجتمعاتنا المنكوبة بابنائها، وقدم في الكتاب صورا خيالية لسياحة يجول فيها في العالم االآخر و يصادف فيها نماذج من المستغلين الجشعين من قضاة مرتشين وأطباء غشاشين وأغنياء جهلة شياطين ومن عملاء يخونون أمتهم من أجل حطام الدنيا وعبيد منافقين ، وهؤلاء كلهم أحاطت بهم نار الله الموقد ة.
وفي الكتاب نزعة صوفية ايجابية واعية وصل إليها بعد أن خبر الحياة والأحياء وجاهد ماوسعه الجهاد، فهو يدعو المتصوفين إلى الجهاد والمجاهدين إلى التصوف، وهو بفتح عيون الملحدين على جمال الإيمان، وعيون المؤمنين على جمال الحضارة.
من أقواله: " إبتسم الفجر وابتسمت الوردة الحمراء ، ومضى البلبل يسقيها من غزله، فهبوا أيها الصوفيون ياعشاق الجمال فقد نودي: حي على الجها د ، حي على شهادة وجه الجميل"
و من أقواله: " إلهي منذ اليوم الأول الذي شعرت فيه أنني عيد لك وحدك شعرت أنني سيد حتى على الأسيا د , إلهي اليك وحدك أقدم مفاتيح كرامتي التي لم تفتح أبوابها للتسلط , ولم ترفع الراية البيضاءلطاغية، إلهي لغيرك لا لا لن أسجد لن أسجد "
ومن أقواله: " كونوا في الدنيا أضيافا، واتخذوا المساجد بيوتا وأكثروا من التفكير والبكاء ، تبنون مالا تسكنون ، وتجمعون مالا تأكلون ، وتؤملون مالا تدركون"
قدم للكتاب السيد عبد الرحمن خليفاوي رئيس مجلس الوزراء فقال في جزء من المقدمة:
"إن القاريء لهذا الكتاب يرى بوضوح الإحساس الكبير بالقضية الوطنية لدى كاتبه ويتحسس بسرعة انفعالات الكاتب العميقة وإيمانه الفياض بأمته وتاريخها ومستقبلها. وليس هذا مستغربا عليك وقد عرفتك مواطنا يتحسس مسؤوليته ويعمل لوطنه من خلال عمله وبيته ومجتمعه وتتفاعل القضايا الوطنية في نفسه إلى الدرجة التي يعيشها كل لحظة. "
وقدم للكتاب ايضا السيد ياسر عرفات القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية فقال في جزء من المقدمة:
" في سطور غفرانك الجديد وبينها تحركت أمامي من جديد آلاف الصور التي استقرت منذ زمن في زوايا خاطري. صور من بطولات شهدائنا وثوار نا وتضحيات شعبنا المعطاء، ومع متابعتي لفقرات حلمك في عرفات كانت تتفتح أمامي آفاق وآفاق وكنت استشف الكثير عنك. ..... كتابك يأتي ليدق بابا أغفله أو تحاشاه كثيرون ممن تحدثوا عن أمس الثورة الفلسطينية ويومها ، متهبين التحليق إلى مابعد استشهاد الثائر فلم تتهيب أنت ولم تغفل ولم تتحاشى. كتابك يأتي لينصف في زمن قل فيه المنصفون وليقول كلمة الحق في عصر تتكالب فيه قوى شرسة لتضيع الحقائق أوتقلبها."
وقال عن الكتاب السيد عبدالله يوركي حلاق رئيس تحرير مجلة ( الضاد) وصاحبها بحلب:
"الغفران الجديد رائعة من روائع الخيال الوثاب والفكر الخلاق والقلم المبدع المعطاء. تقرأه فتحس بجاذب خفي يشدك برفق إلى عوالم بعيدة تملأ روحك نشوة سحرية وتمكنك من معرفة ماوراء الطبيعة والإطلاع على ماتجهله من حقائق البشر. إنه بكلمة موجزة أثر فني وأدبي ممتع جادت به روح وادعة شفافة وصاغته عبقرية متفوقة سامية ورفعته يد علوية بيضاء إلى مرتبة الخلود. "
كان يلقي محاضرات في مدينة حلب حول مواضيع في تجاربه مع القضاء وفي الحياة وسيرته الوطنية ومع الصوفيين قال عنه القاضي علي الزكور وهو يقدمه في محاضرة ( خواطر عن الجلاء) في 22 \4\1974 :
" علم من أعلام القضاء في هذا البلد، ورائد من رواد القانون وحامل لرسالة الحق والعدل منذ عام 1943 ، ومناضل ضد الإستعمار والا ستغلال والاستبداد منذ نعومة أظفاره، ولا غرابة في ذلك مطلقا فقد رضع لبان الوطنية الصافية من الزعيم الكبير المرحوم إبراهيم هنانو حيث كان منزل والده المرحوم الحاج علي مأوى سريا للثورات ضد المستعمرين الفرنسيين آنذاك. وترأس عددا من المظاهرات الطلابية ، وأدى الأمر إلى طرده من التجهيز واللاييك، فلم يثنه ذلك عن عزمه في متابعة النضال وعن المشاركة في الحركات الشعبية والوطنية كجندي مجهول تارة وكقائد وموجه تارة أخرى. وهكذا فقد ساهم في إنقاذ الثائر الفلسطيني الشهيد عبد القادر الحسيني من حكم الإعدام الذي صدر بحقه آنذاك. كما ساهم في انقاذ الثوار محمد إبراهيم العلي ورفاقه عام 1962 عندما حكمهم الإنفصاليون بالإعدام. واندفع في عام 1964 بكل عواطفه الصادقة الجياشة ومشاعره وأحاسيسه يعبر عن رأيه الصريح في فتنة حماه وأسبابها ويدعو المسؤولين لتحكيم العقل والمنطق وتغليب الرحمة والشفقة على العنف والقسوة، وتعميم المحبة بين الناس لانتزاع الكراهية والحقد من صدورهم، وهكذا فقد استطاع المنطق الصريح الجريء أن يحرز محبة الشعب في حماه وثقة كبار المسؤولين في الدولة آنذاك مما ساهم وساعد إلى حد كبير على إنقاذ حياة المواطنين الأبرياء الذين تعرضوا لأحكام عرفية بالإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة ، واغتنم الفرصة آنذاك فسعى جاهدا في إنقاذ عدد من أبناء مدينته حلب من الأحكام العرفية التي تعرضوا لها وكان من جملتهم المحامي الأستاذ نجدة الجراح." ... :" .. وقامت المدن والقرى السورية قومة رجل واحد وكان محاضرنا الكبير مستنطقا في إدلب آنذاك ولاحظ تحرك الثوار في كفر تخاريم بقيادة المجاهد نجيب عويد واستعدادهم في جسر الشغور بقيادة القائمقام الأمير عبدالله التامر، كما لمس الثورة العارمة في نفوس أبناء مدينة إدلب والتي كانت تحتاج إلى تنظيم وتوجيه لتتدفق كألسيل الها در فماكان منه إلا أن تولى هذا التنظيم والتوجيه وأجرى الإتصالات اللازمة مع زعماء المنطقة ومن ثم قاد هجوما ناجحا باتجاه ثكنة الفرنسيين في إدلب."
توفي عام 1975 وقد رثاه المحامي شتوان عيسى بقصيدة فيها 76 بيتا مليئة بالعواطف الجياشة عنوانها
" زغردات السماء" قال في بعض ابياتها:
وقال القا ضي جمال النعماني رئيس المحكمة الدستورية العليا في تأبينه:
" بسم الله الرحمن الرحيم : رحم الله أبا علي. رحم الله هذا الأخ الحبيب والأب الحنون والزوج الوفي. رحمه الله أخا ودودا وصديقا صدوقا. عرفته من أكثر من ثلاثين عاما فعرفت فيه الأخوة الصادقة لايشوبها مأرب دنيوي، والمحبة الصادقة المؤسسة على الصدق والوفاء والعفة والإباء. لم يجعل من رسالة القضاء مهنة يمارسها، بل اتخذها وسيلة يخدم بها قومه ويرضي بها ربه وضميره ، فكان يتعاطف مع الحق بكل أحاسيسه ، فينطلق إلى إظهاره ويثور على الباطل بكل قواه فينبري إلى إزهاقه، لايخشى في الحق لومة لائم، ولا يثنيه عنه وعد أو يرهبه فيه وعيد. عاش المرحوم لغيره ولم يعش لنفسه، لم تبهره الحياة الدنيا ببهرجها فرغب عن زينتها ووجد في البر سعادته وفي طاعة الله ومخافته راحته فجعل لنفسه من الزهد زادا ومن الإحسان قوتا. ففي جنة الخلد أنت يا أبا علي مع أولياء الله الصالحين والصحابة الأكرمين. ( إن المتقين في جنات وعيون ) . ( إدخلوها بسلام آمنين) صدق الله العظيم.
وقال القاضي نصرت منلا حيدر عضو المحكمة الدستورية العليا ومستشار الرئيس للشؤون القانونية:
" ايها الحفل الكريم، إذا حالت ظروفي دون مشاركتكم بتمجيد الفقيد الكبير الأستاذ محمد سيرجية وتأبينه، إلا أنني أقف معكم خاشعا ويشارككم قلبي الحفاوة بذكراه. ترتسم أيها السادة في مخيلتي وأنا اكتب إليكم كلمتي القصيرة هذه ، صورة الفقيد فأرى ذلك الوجه المشرق وتلك الإبتسامة الهادئة وأتذكر ماكان يتحلى به من صفات فأقول إنه مازال حيا، أجل إن الفقيد حي فالزهرة عندما تذبل تتساقط أوراقها فقط أما أريجها فيبقى في الفضاء خالدا أبدا. لقد كان الفقيد وهذا أمر معروف عنه رقيق الشمائل، حلو اللسان، فاعلا للخير، ممسكا عن الأذى، ويكفيه أنه ترك من بعده الذكر الحسن والأثر الطيب. يا أبا علي إن المصاب بفقدك كبير ، غير أن مايعزينا أننا على موعد معك، والفارق أنه يسبق بعضنا بعضا فالموت حق والمصير المحتوم لكل كائن حي واحد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته."
وقال القاضي بدر الدين علوش رئيس محكمة النقض:
"باسم القضاء السوري أشارككم الإحتفال بإحياء ذكرى الفقيد محمد سيرجية فقد كان رحمه الله طيب القلب والخلق كريم النفس عف اللسان طاهر الوجدان. وقد كان من قضاتنا الأخيار ورفاقنا الأبرار الذين خدموا الحق والعدالة منذ ثلاثين سنة ثم خرج من المعركة مشرقا كالشمس طاهرا كالنار ثابتا كالجبل. رحمه الله وطيب ثراه وجعل الجنة مأواه، وإنا لله وإنا إليه راجعون."
وسوم: العدد 881