إسعاف البورنو – وداعاً سنظل نذكرك
حين يتعلق الأمر برحيل قامة وطنية مناضلة بحجم إسعاف البورنو، تتوقف الحروف على موانئ الكلمات في حيرة. ترجلت هذه الأيقونة الوطنية التي حظيت طوال مشوارها الطويل باحترام كل مَن عرفها، والتقدير من كل مَن تعامل معها، أو تعاملت معه، ففي غزة مسقط رأسها ما أن يذكر اسم إسعاف البورنو، حتى تسمع عبارات الثناء والمدح.
رحلت هذه النحلة التي امتصت رحيقها من أشجار وزهور التربية والتعليم، ومن ثم الخدمة كمتطوعة في مؤسسات العمل الأهلي بقطاع غزة، مرسخة مفهوم العمل التطوعي بأكمل معانيه لخدمة المواطنين، وهو ما نفتقده هذه الأيام، حيث يتسابق المتسلقون إلى تحقيق مصالحهم الشخصية، ولا يهتمون بهموم الآخرين.
ولقد تسنى لي مقابلتها مرتين في مكتبها بـ (جمعية الاتحاد النسائي الفلسطيني) في مدينة غزة عام 2016م، وأنا أواصل الجهد لأنهي كتابي: (د. حيدر عبد الشافي: الرجل والقضية)، وكم كنت مرتاحاً لمقابلتها آنذاك، فقدرت فيها مزاياها الكريمة، وخصالها الحسنة، خاصة عند حديثها معي عن مواقف الدكتور عبد الشافي، حيث قالت لي: (إن الدكتور حيدر عبد الشافي من الأسماء الكريمة التي تتذكرها جمعية الاتحاد النسائي الفلسطيني بغزة، وكان كلما لاح مشروع فيه الخير والخدمة العامة والمصلحة الوطنية يقدم لنا المعونة دون منٍّ، أو منفعة، أو تطلع لشهرة).
ولدت المناضلة إسعاف عبد الرؤوف البورنو بمدينة غزة في 25 أيلول/ سبتمبر عام 1941م، والتحقت بمعهد التربية التابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ودرست الرياضيات، وفور عودتها إلى غزة عام 1959م عملت معلمة للرياضيات لطالبات المرحلة الاعدادية في مدارس وكالة الغوث، وفي عام 1973م عينت ناظرة مدرسة في مدارس الوكالة في مناطق عدة في قطاع غزة بالشجاعية، والدرج، والشاطئ، حتى أُحيلت للتقاعد عام 1995م لبلوغها السن القانونية.
وهنا، لا بدَّ أن أذكر أن قانون التقاعد فيه الكثير من الظلم؛ لأنه يوقف الإنسان عن العمل في وقت يكون قد تكاملت فيه خبرته، وامتلأت جوانحه رغبة في العطاء، مع علمنا أن الشمس حين تغيب من مكان، فإنما تفعل ذلك لتشرق في مكان آخر هو أحوج ما يكون لدفئها.
وامتد نشاط المرحومة إسعاف البورنو إلى ميادين شتى في العمل الأهلي والوطني، فكانت عضواً في الهيئة الإدارية لجمعية الهلال الأحمر لقطاع غزة خلال الفترة (1975 – 2002م)، وعملت مؤازرة للقائد الوطني الكبير الدكتور حيدر عبد الشافي، وعلى إثر واقعة إحراق جمعية الهلال الأحمر عام 1980 م، ووسط أنواء هذه الحالة السيئة الجارفة، كانت إسعاف البورنو ضمن الوفد الذي أرسله الدكتور حيدر عبد الشافي، والمكون من الصيدلي محمد زين الدين، وليلى قليبو؛ ليجوب كل مدن الأرض المحتلة في الضفة الغربية والقدس، والاتصال بالمؤسسات، والجمعيات، والبلديات الحكومية والأهلية؛ لتقديم عرض دقيق لما حدث، وتوجيه أنظارهم نحو حقيقة الموقف، وجمع التبرعات، وتَطَلَّب هذا العمل مجهوداً جباراً ومتواصلاً، حيث أسهب الوفد في شرح الدور التي تقوم به جمعية الهلال الأحمر بالحجة القوية، والدعوة إلى التضامن بين القوى الفلسطينية على اختلاف توجهاتها، وإزالة الأحقاد الحزبية من النفوس، وجمع الكلمة التي تتحطم على صخرتها كل دسائس المؤامرات التي يدبرها المحتل الإسرائيلي؛ لتمزيق الجبهة الفلسطينية الداخلية على أساس (فرق تسد).
كما شاركت المرحومة إسعاف البورنو مع يسرى البربري، وليلى قليبو في النهوض بجمعية الاتحاد النسائي الفلسطيني، وعملت منذ عام 2009م أمينة صندوق للجمعية، حتى رحيلها، وساهمت بشكل ملموس مع بعض الشخصيات الوازنة في مدينة غزة من أمثال: الدكتور حيدر عبد الشافي بتأسيس (جمعية صندوق خليل عويضة للطلاب المتفوقين) التي تأسست بعد وفاة المربي الوطني الكبير خليل عويضة، مدير التعليم في وكالة الغوث بقطاع غزة، طبقاً لوصيته بأن تُنفق تركته المالية على اثنين من الطلاب المتفوقين في الثانوية العامة في كل عام؛ لإتمام تعليمهم الجامعي في مختلف التخصصات، كهبة منه لتشجيع التفوق العلمي الجامعي في قطاع غزة، وكان مقرها المؤقت في جمعية الهلال الأحمر لقطاع غزة في مدينة غزة.
رحلت إسعاف البورنو عنا جسداً، لكنها ستظل خالدة في الوجدان، نراها في كل ركن من أركان الحياة في غزة، وفي كل حي وحارة من شوارعها، وفي ذاكرة كل من عرفها.
رحمك الله أيتها المربية المناضلة، وأسكنك فسيح جناته.
وسوم: العدد 890