محمد هيثم الخياط (1937 - 5 سبتمبر 2020)
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾
مفخرة من مفاخر الشام .. بل من مفاخر سورية.. بل من مفاخر العرب والمسلمين.. ورجل ألمعي قل نظيره بين الرجال.. وطبيب حكيم عزَّ مثيله بين الأطباء.. ولغوي أديب فصيح بزَّ اللغويين والفصحاء..ذلكم هو الرجل الفذُّ المجمعي الجامعي الأستاذ الدكتور هيثم الخياط الذي فقدناه أمس فطويت بموته صفحة ناصعة من صفحات العلم والمجد والسؤدد والفلاح.. إنه ليس فقيدنا فحسب بل هو فقيد العلم والحكمة والطب والعربية والتعريب!
حمل راية التعريب عن أبيه مؤسس كلية الطب بجامعة دمشق أحمد حمدي الخياط، فأبلى فيها بلاءً حسنا، توَّجَهُ بوضع المعجم الطبي الموحد (بالإنجليزية: Unified Medical Dictionary).
وازدانت به أعلى المراتب والمناصب بدءًا من عضوية المجامع العربية المختلفة، ومرورا بعضوية أكثر من 20 جمعية علمية في مختلف أنحاء العالم. وانتهاءً بإدارته البرنامج العربي لمنظمة الصحة العالمية عام 1983. وشغله منصب كبير مستشاري المدير الإقليمي لمكتب منظمة الصحة العالمية الإقليمي لشرق البحر المتوسط، عام 1999.
إن أنسَ لا أنسَ حفل استقباله عضوًا عاملا في مجمع اللغة العربية بدمشق، عام 1976، كنت إذا ذاك طالبا في السنة الثالثة بقسم اللغة العربية، وكان مثالنا الأعظم في الأدب والنقد هو الأستاذ الدكتور شكري فيصل أستاذ هاتين المادتين في الجامعة - أعني الأدب والنقد - وكان يشغل منصب أمين المجمع آنذاك، ولما كانت تقاليد المجمع تقتضي أن يُستقبل العضو الجديد بكلمة يتولاها عضو قديم يبسط فيها الكلام على مناقب العضو الجديد ومآثره، فقد أسند ذلك إلى أستاذنا الدكتور شكري فصال وجال وافتنَّ في حديثه عن الدكتور هيثم الخياط، وانتزع إعجاب الحاضرين برشاقة أسلوبه وعذوبة بيانه، وكأنه يحاكي أسلوب عميد الأدب العربي طه حسين، وجاء دور الدكتور محمد هيثم الخياط ليتحدث عن سلفيه في المجمع العالمين العلَمين الطبيبين جميل الخاني وصلاح الكواكبي رحمهما الله، فإذا به الأسد الهصور الذي لا يُجارى ولا يُبارى جزالةً في القول.. وإحكامًا في النسج.. وعلوًا في البيان.. فوالله الذي لا إله غيره لقد أنسى الناسَ إعجابَهم بكلمة الدكتور شكري، وسحرهم بجمال أدائه، وحسن بيانه، وبلاغة قوله، وانتزع منهم التصفيق مرارا، وإليكم طرفًا مما قال، وقد نشره بعد ذلك في كتابه الماتع الرائع (في سبيل العربية) تحت عنوان(العربية تتحدَّى):
"يوم شاء الله - وله الحمد – لهذه اللغة الشريفة أن تكون لغةَ الشريعة والثقافة والحضارة: تُتلَى بها الآياتُ، ويُزكَّى بها الناسُ، ويُعلَّمُ بها الأميوُّن الكتاب والحكمة... كان ذلك – في الوقت نفسه – إيذانًا بحربٍ شعواءَ لن تقف، على هذا اللسان المبين... كيف لا، وهذه اللغة هي الرباط المتين الذي يشدُّ بعض أبنائها إلى بعض، ويصل مشرقَ هذه الأمة بمغربها، وحاضرها بمستقبلها، وبها يُعلنُ الجهادُ في سبيل الله والمستضعفين، وبها يُتَحدَّى الطواغيتُ ويُحافَظُ على كِيانِ الأمة إذا شاء عدوُّها لها أن تذوبَ وتضْمحِلّ." [في سبيل العربية 7].
ثم راح يشدو بالعربية، يغني بها غناء العنادل، ويتخيَّر من شواهدها أجمل الأشعار، ويسرد من أسرار القياس فيها أبدع الأسرار، ويُخرج من خَـبْـئِـها أجملَ الدرر...
أذكر أنني من شدة إعجابي بالكلمة وما انطوت عليه من شواهد لفحول الشعراء، ومسائل لأساطين اللغويين والعلماء انتابني شعور غريب بأن لشيخنا النفاخ رحمه الله يدًا فيها، فسألته في خلوةٍ غابت عنها أعين الحسَّاد وألسنة العذَّال: ألم تقرأ الكلمة قبل إلقائها فقال بلى، مرَّ عليَّ الدكتور هيثم وأطلعَني عليها!
وكان من جميل ما شرَّفني الدكتور هيثم به أني لقيته في حفل تأبين أستاذنا الدكتور شاكر الفحام عام 2008 في مكتبة الأسد وكانت كلمة طلاب الفقيد من نصيبي، فدعوتُه لحضور محاضرة لي بعنوان "من رجالات دمشق- النفاخ والفحام" عن عَلَمي العربية العظيمين: الأستاذ العلامة أحمد راتب النفاخ والدكتور شاكر الفحام في المركز الثقافي بكفر سوسة بدمشق 12/8/2008. فلبَّى الدعوة مشكورا، بِـرًّا ووفاء بصاحبيه، وإحسانا بي أحسن الله إليه.
وبعد فما كان لهذه الكليمة أن تحيط بمناقب الرجل ومآثره.. وفضله وتفوقه.. وأنَّى لها ذلك؟ وقد ملأ الدنيا علما وفضلا، وأسهم إسهامات ستبقى على مر الزمان شاهدةً على علمه قائمةً على ذكره، وترك لنا من المؤلفات ما يزيد على 25 كتابًا باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، ومنها بعض المعاجم، كما نشرت له مئات المقالات باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية في مختلف المجالات. وكتب كتبًا في الطب والصحة والكيمياء وعلم النبات واللغة العربية والأخلاق الإسلامية. وشارك في تأليف المناهج والمقررات الطبية لجامعتي دمشق وحلب.
ولعل من أبرز الكتب التي ألفها: المعدة بيت الداء والحمية بيت الدواء (1996)، في سبيل العربية (1997)، المرأة المسلمة وقضايا العصر (2008)، فقه الطبيب، الصحةُ حقاً من حقوق الإنسان في الإسلام، معالم العبادات.
وحسبي أن أنوِّه بكتابه الجليل: في سبيل العربية، ففي كل صفحة منه صفحةٌ من روائع لغتنا، وجميل بيانها، وعظيم أحكامها وأسراراها، وحرِّ أشعارها ونوادر أخبارها، فضلا عما اشتمل عليه من بسط الكلام على مناهج التعريب ومداخله ومسالكه، وطرائق أربابه في حسن التأتِّـي له.. والصبر عليه.. والفائدة منه.. والقياس فيه.. والنحت له.. وإحياء العربية به... إنه العلم والبيان في أجمل صورهما!
فيا تِـرب العلوم ومن إذا ما ..............دُعيْ للعلمِ بادرَ بارتياحِ
لقد قلَّدتَ جيدَ العلمِ عِقداً............يروقُ نضارةَ المقَلِ الصحاحِ
إذا العلماءُ أقعدَها كفاحٌ.............لنيلِ العلمِ قمتَ بلا كفاحِ
فحُزْتَ الجلَّ منهُ بلا سلاحٍ...........فكيفَ وأنتَ شاكٍ بالسلاحِ
رحم الله العلَّامة الدكتور محمد هيثم الخياط، وجزاه عن العربية وأهلها، والطب وتعريبه، والفكر وشؤونه، والإتقان والتجويد والبيان خير ما جزى عالما عن علمه وعمله وفكره وأمته، وأخلف على الأمة فيه خيرا..
ولا يسعنا في مصابنا به إلا أن نقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وسوم: العدد 893