الشاعر الطبيب الداعية الدكتور حسان حتحوت
( ١٩٢٤ - ٢٠٠٩م)
إن فهم المسلم لطريقه وتحديد غاياته وهدفه، وعمله على إحياء قلبه لمن لأهم الأشياء في حياته، وهذا ما دفعه للعمل منذ الوهلة الأولى على أن يكون " قوي الجسم, متين الخُلُق, مثقَّف الفكر, قادرًا على الكسب, سليم العقيدة, صحيح العبادة, مجاهدًا لنفسه, حريصًا على وقته, منظَّمًا في شئونه, نافعًا لغيره".
يقول الإمام الشهيد حسن البنا: "إذا لامست معرفة الله قلب الإنسان تحول من حال إلى حال، وإذا تحول القلب تحول الفرد، وإذا تحول الفرد تحولت الأسرة، وإذا تحولت الأسرة تحولت الأمة، وما الأمة إلا مجموعة من أسر وأفراد".
والدكتور حسان حتحوت نموذج للمسلم الذي حدد هدفه واستطاع بفضل الله تحقيقه، فقد برع في بداية حياته ونهايتها فكان بحق نموذجا فريدا.
مولده، ونشأته:
ولد حسان حتحوت في مدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية بمصر، في 23 ديسمبر 1924، الثلاثاء 26 جمادى الأول 1343 هـ، وقد نشأ في بيت تحركه المشاعر الوطنية، فوالدته هي أول امرأة ريفية تقود مظاهرة نسائية في مدينة شبين الكوم ضد الإنجليز أثناء ثورة 1919، وخطبت في المتظاهرات تحمسهن للجهاد ضد الإنجليز، وبعد زواجها كانت تهدهد طفلها بقولها: «لقد نذرت يوم ولادتك أن أسميك حساناً وأن أهبك لطرد الإنجليز».
وعندما رأت البوليس السياسي يعتقل ابنها لاشتراكه في العمل الوطني أشارت للقيد الحديدي باكية، وقالت:
"اللي في إيدك دُول وسام يا حسان".
ووالده كان مدرساً للغة الإنجليزية، وكان شاعراً جيداً، وكان قد أنشد في ابنه عند سفره إلى فلسطين عام 1948 أبيات قال فيها:
اهبط على أرض السلام جُعِلْتُ يا ولدي فداك
ضَمِّدْ جراحاتِ العروبة سَدَّدَ المولى خُطاك
وامسحْ دموع الثاكلات عساك تُسعدها عساك
واذكر فلسطين الجريحة وانسَ أمك أو أباك
إني وهبتك للجهاد وأين لي سيف سواك
بعد أن أنهى دراسة الابتدائية في شبين الكوم انتقل إلى القاهرة مع أسرته كلها للجلوس مع خاله وهناك حصل على الثانوية منها، ثم التحق بكلية الطب جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا) وبعدما أنهى دراسته للطب، تخصص في مجال طب النساء والولادة وحصل على دبلوم التخصص عام 1952.
حصل على درجة الدكتوراه، ثم الزمالة من إنجلترا في علم الأجنة، وعمل في مستشفى الدمرداش القاهرة لمدة سنة، ثم بالقسم الريفي في بعض ضواحي مدينة المنصورة بمصر.
انتقل إلى العمل في عدة دول عربية منها السعودية لمدة ثلاث سنوات ثم انتقل للعمل بالكويت وهناك مكث ما يقرب من عشرين عاما، شارك خلالها في تأسيس كلية الطب ورئاسة قسم أمراض النساء والولادة.
تزوج من زميلة دراسته "سلوناس" قبيل ثورة يوليو 1952م والتي ملأ كتابه العقد الفريد بالخطابات لها.
يعرف نفسه، فيقول: «أنا إنسان محب، وأحب الحب. وأعتقد أنه إذا كانت المسيحية الحقة ترتكز على القول "إن الله محبة"؛ فأنا كذلك أرى أن الله أوجز الإسلام كله في كلمتين عندما خاطب نبيه عليه الصلاة والسلام فقال له:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)».
حتحوت داعية:
اشترك في الحركة الوطنية بمصر منذ عام 34 – 1935، وكان يخطب في طلاب مدرسته ويقود مظاهراتهم، انضم إلى حزب الوفد في بداية حياته.
وانضم حسان حتحوت لجماعة الإخوان المسلمين عام 1941م على يد مؤسسها الإمام حسن البنا وكان شديد التأثر به، وشارك من خلال قسم الطلبة في الحركات الطلابية.
يقول: طوال المرحلة الثانوية كان لي اتجاه إسلامي ، فبدأت أقرأ في الإسلام من نفسي، حتى خطبي المدرسية أخذت السمت الإسلامي حتى دخلت كلية الطب وزرت حسن البنا، ذهبت عام 41 أو 42 وزرته في المركز العام وأعجبت به جداً ، أعجبت به وناقشته وتحدثنا سويا فوجدته شخصية معقولة، ثانياً جذابة جداً.
اشترك في حرب فلسطين، وذلك بصفته طبيباً، واشترك مع آخرين في إدارة مستشفى الرحلة أثناء المعارك، وكان له موقف مشهود عندما جاءت الجيوش العربية ببعض الأسرى اليهود من المعارك للمستشفى.
وكان أكثرهم جرحى، وقد أرادت القيادة العسكرية إعدامهم بالرصاص فقال لهم "على جثتي" وخطب فيهم موضحاً موقف الإسلام من الأسرى، وكان نجاة هؤلاء الأسرى بسبب هذا الموقف، وقام بعلاج الجرحى منهم حتى عادوا، وقد عرف اليهود بهذا الموقف، وأشادوا به في صحفهم، وكان شفيعاً لدى اليهود لفك أسر طبيب صديق للدكتور حسان هو الدكتور أحمد خطاب، كما أعاد اليهود غرفة العمليات من مستشفى الرحالة بعد استيلائهم على المنطقة.
وبعد عودته من فلسطين تم اعتقاله في معتقل "الهايكستب" قرابة العام، وقد تعرض خلالها للتعذيب والضرب.
يقول عن سجن الهايكستب في كتابه: « معسكر الهايكستب عنابر واسعة من البناء سابق التجهيز، كل منها محاط بالأسلاك الشائكة، فلا منفذ منه ولا إليه، كان المبنى الذي ذهبت إليه يسمى عنبر الإدارة لأن به مكتب قومندان المعسكر والضابط، وبعد إجراء التسجيل والتسليم دخلت دهليزاً طويلاً فوجدت الأخ إبراهيم الشربيني (رحمة الله.. كان رجلاً شهماً ووطنياً مخلصاً) يهش للقائي..كانت هناك غرفة وحيدة صغيرة يشغلها مع عدد عبد المجيد وفتحي البرعي (وكان طالباً بكلية الزراعة ولا أدري أين هو الآن). كان كل منهم يشغل ركناً، فدعوني لأشغل الركن الرابع، وكان سائر الإخوان في العنبر المجاور.
كان في جناح الإدارة كذلك المعتقلون من اليهود والشيوعيين والوفديين، ولكن في طرف آخر غير منفصل إلا معنوياً، وكان الفناء واسعاً من دون السلك الشائك، فترك مجالاً للتمشية والرياضة».
ويصف موقفه من المستشار حسن الهضيبي بقوله:
« عندما اختير المستشار الهضيبي مرشد لم أكن أعرفه إطلاقا، قلت أذهب لأري المرشد الجديد (وكنت لازلت في مصر لم أمش من مصر، وكنت طبيبا حديثا) فسلمت عليه وقلت له اسمي فلان، وأنا دكتور في مستشفي الدمرداش، وطلبت أن أتعرف بالمرشد الجديد لأني لا أعرفك، فقال لي:
أنا أعرفك. فقلت له: والله لا أذكر أنه حدث لي الشرف.
قال: سأذكرك، فذكرني باليوم الذي كان الإخوان عملوا حفل شاي لأساتذة الجامعة على السطح في المركز العام، وكان بينهم المستشار الهضيبي غير أنه لم يكن أستاذ جامعة، وكان الموعد الساعة الخامسة وجاءحسن البنا الساعة الخامسة وعشر دقائق، فقمت أقدمه، فقلت: أيها السادة لابد أن أعتذر لكم أولاً عن تأخر الأستاذ البنا مدة عشر دقائق، وكان الأولي به وهو المرشد العام للإخوان المسلمين أن يكون أحرص الناس على الموعد، لكن لعل له عذراً فنستغفر الله لنا وله، والآن أقدم لكم الأخ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين».
سافر للسعودية للعمل بها في أبريل عام 1952م، وفي عام 1955م انتقل إلى انجلترا ثم إلى الكويت وبعد أن استقر في عمله هناك أرسل إلى المباحث العامة المصرية يطلب العودة والمشاركة بجهده وعلمه في خدمة مصر، فرحبت به السلطات المصرية، وعاد مدرسا بطب عين شمس عام 1961م، ثم بجامعة أسيوط الجديدة عام1963 وخلال هذه الفترة عمل على دعم العلاقة الودية بين المسلمين والأقباط خلال محاضراته ودروسه حتى أحبه الجميع، ولكن كل هذا لم يكن شفيعاً له، إذ تم اعتقاله عام 1965م في ظلال أغرب قرار اعتقال لجماعة الإخوان المسلمين، وهو "اعتقال كل من سبق اعتقاله"، واستمر الاعتقال عدة أشهر، ورغم عدم تعرض آلة التعذيب لشخصه، لكنه عايش، وسمع، ورأى بعينيه عمليات التعذيب الرهيبة والتي عرفت باسم "المحرقة" وخرج بعدها ليسافر إلى الكويت مرة أخرى، مقرراً عدم العودة إلى مصر ثانية.
اهتم الدكتور حسان بالإسلام ونشر تعاليمه منذ فترة طويلة، واعتبر أن ساعة التحول للعمل الإسلامي بصورة منظمة جاءته عندما ذهب في إحدى الأجازات الصيفية إلى الولايات المتحدة، وكان مقيما في الكويت. وهناك تعرف إلى المركز الإسلامي بجنوب كاليفورنيا.
ووجدها فرصة للإعلان عن دوره، خاصة بعد أن تولد لديه اقتناع بأن للإسلام في الولايات المتحدة فرصة تاريخية مؤكدة، قال عنها: إذا أهملناها فطبعنا وشيمتنا وإذا اغتنمناها فقد يكون من ورائها خير كثير لأمريكا وللعالم كله وللإسلام..
فأخذت أقلب الرأي وترددت فترة طويلة.. ووفق الله أن أقدم استقالتي من عملي بالكويت وذهبت إلى أمريكا عام ،1988 ثم أصبحت مواطنا أمريكا، لأن الأجنبي لن يخدم الإسلام هناك.
وهب وقته وعمله للدعوة الإسلامية، ومفتاحه العمل والتعاون من اجل خدمة المجتمع الأمريكي ذاته، بغرض تحويل نظر الأمريكيين نحو المسلمين وإقناعهم بأنهم بشر لهم جميع الحقوق، ويتمتعون بأعلى درجات التسامح، لذلك قام بإلقاء العديد من المحاضرات لتقديم الدين الإسلامي في شكله الصحيح. ونجح في عقد تحالفات مع تنظيمات اجتماعية ودينية مختلفة، مما ساعده على وقف حملات كثيرة ضد المسلمين.
وفي عام 1999م احتفل مع بقية المسلمين بعيد الفطر في حديقة البيت الأبيض يقول عن ذلك:
« احتفلنا بعيد الفطر مع السيدة هيلاري كلينتون، وأنا قلت كلمة، وهي قالت كلمة، وكانت ابنتها في المرحلة الثانوية أخذت قرص في الإسلام فقرأت معها وبدأوا يعرفون وبدأوا يسألون عن الإسلام لأنه دين السلام».
نشط في العمل الدعوي بين الأمريكيين حتى أسلم على يديه الكثير يقول في ذلك:
«لقد ذهبت لأمريكا بعدما قدمت استقالتي من جامعة الكويت ووهبت بقية حياته لنشر الإسلام وأخذت أوضح للناس الإسلام وطبيعته حتى أسلم الكثير وتركت مهنة الطب وتفرغت للدعوة».
حتحوت طبيباً:
تميز الدكتور حسان حتحوت كطبيب في النساء والولادة وعلم الأجنة ونشر له أبحاث كثيرة، وقد برع في هذا المجال.
ومما كتبه في هذا المجال تحت عنوان الإجهاض في الدين والطب والقانون في مجلة المسلم المعاصر، العدد (35) عام 1403هـ، وأيضا بحث بعنوان استخدام الأجنة في البحث والعلاج في دورة مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي السادسة.
تقول صحيفة الشرق الوسط: أكد الدكتور حتحوت في ورقة علمية عن الجينوم البشري أعدها بناء على طلب المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية «ضرورة إيجاد ضوابط وتشريعات أخلاقية تنظم المنجزات الآتية في مجال الهندسة الوراثية».
وحذر من مغبة العبث واستغلال التقدم العلمي في هذا المجال ضد الطبيعة وبشكل مخالف للثوابت الدينية.
وقال الدكتور حتحوت:
«رغم أن العلماء والأطباء والمفكرين والأخلاقيين والمشرعين في حال انشغال دائم من الآن إلا أنه مهما اشتدت الحيرة والقلق عند الجميع فلن يحاول أحد أو يقدر على إيقاف التقدم العلمي في مجال الهندسة الوراثية».
وأشار الدكتور حتحوت في ورقته التي بحثت في الجينوم البشري وفق رؤية إسلامية إلى أن هناك مخاوف ومحاذير تفرض نفسها عند التعرض لقضية الهندسة الوراثية على أساس أن قراءة الجين في حد ذاته حاضر معلوم ينبئ بقادم محتوى، لافتاً إلى أنه هل في صالح الإنسان معرفة أمور عن نفسه تعتبر الآن في حوزة المستقبل.
حتحوت شاعراً:
كان الدكتور حسان شاعرا حيث ورث الشعر عن والده وله ديوان تحت عنوان جراح وأفراح نقتطف منه بعض رياحين الشعر
يقول في قصيدة عن القرآن والسياسة:
هـذا الكتاب، وإن فـيه سياسـة أتراه أمرا في الكتاب عجيبا
إن كـان تغضبكم سياسته دعــوه ونقبوا عـن غـيره تنقيبا
أو ما عرضوه على الرقيب، فربما أفتى فـغادر نصفه مشطوبا!
يا قـوم سحقـا للرقيب وأمره فكـفى برب العـالمين رقيبا
وقال في قصيدة تحت عنوان (في عشة الدجاج):
في عشـة شرقيـة عاليـة السيـاج
وخلف باب مغلـق ومحكـم الرتـاج
كانت تعيش في نعيـم امـة الدجـاج
في فيض رزق غدق وظل امن سـاج
شعب يقضي العمر في أنس وفي ابتهاج
خلف زعامات له منفوخة الأوداج
من كل ديك عُرفه يزري بألف تاج
يصيح بينهم بمثل خطبة الحجاج
وينطلق الزور بلا خوف ولا إحراج
فتصب الأمة بالتصفيق والهياج
وتزدهي الديوك في عالية الأبراج
كأنها من زهوها الكباش في النعاج
ليس الشجاع عادة مـن قومـه بنـاج
وقد يكون الصـدق سلعـة بـلا رواج
جزاؤه وقع العصـا ولسعـة الكربـاج
والعمر فى غياهب السجن بلا إخراج
الموت للمخلـص والإطفاء للسـراج
تكررت بين الدجـاج قصـة الحـلاج
وتصفه زوجته سالوناس بقصيدة تقول فيها:
إن الثمانين قد جاءت تذكّرنا بأنعم من عطاء الله تغمرنا
تلك السنين بها فرح بها شجن مرت كطيف حبيب ظل يذكرنا
قد التقينا على قدر يُقدره مدبر الكون يرعانا وينصرنا
خضنا العباب فما ضلت سفينتنا وطاب عيش لنا أيام مهجرنا
مصر الحبيبة لا ننسى أمومتها
بالشوق نذكرها والشوق يعصرنا
وفاته:
وبعد صراع طويل مع المرض عايشه الدكتور حسان حتحوت، واقعده عن مواصلة عمله الدعوي الذي نذر نفسه له في الولايات المتحدة الأمريكية...
أسلم روحه لبارئها عن عمر يناهز 85 سنة يوم الأحد 26-4- 2009 ..
ودفن في مثواه الأخير بمدينة لوس انجلوس في أمريكا.
أصداء الرحيل:
دكتور حسان حتحوت ..أمة فى رجل:
هذه كلمات تقطر حزنًا وإكبارًا من العلامة الدكتور يوسف القرضاوي على رفيق عمره ودربه الدكتور المفكر حسان حتحوت رحمه الله ينقل فيها بعضًا من مشاعره الجياشة حيال الفقيد عن طريق استذكار مواقفه المشرفة:
( ودعت الأمة الإسلامية، والدعوة الإسلامية، منذ أيام، علما من أعلامها الفارعة، ونجما من نجومها الساطعة، ولسانا من ألسنتها الناطقة بالصدق، وعقلا من عقولها المفكرة بالحق، وقلبا من قلوبها النابضة بالحب، ودّعت الطبيب النابغة، والعالم المتمكن، والكاتب البليغ، والشاعر المطبوع، والداعية المؤثر، والإنسان الرائع، الأستاذ الدكتور حسان حتحوت، الذي وافاه الأجل في لوس أنجلوس في الولايات المتحدة، بعد عمر حافل بالعطاء بلا منّ، وبالجهاد بلا كلل، وبالبذل بلا انتظار مكافأة من أحد: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19-21].
وصف هو هذه الحياة بقلمه البليغ، فقال: إنها حياة ليس فيها مجال للملل، ولم يكن فيها للعبث مجال، يمد الناس أيديهم ليأخذوا، وأمد يدي لأعطي!
يتحيّر من يرثي حسانا أو يؤبنه، عن أي جانب من جوانب هذه الشخصية الفذة، وأي ناحية من نواحي حياته العامرة بالخير والبركة يتحدث، وهو أمة في رجل؟
أيتحدث عن حسان الطبيب الذي نبغ في طبه، وأحب مهنته، وأعطى لها حقها، فأحبه مرضاه، واعتبروه أبا لهم، لأنه لم يكن يرى الطب تجارة وكسبا، بل يراه رسالة ورحمة. ولم يكن يتعامل مع المريض على أنه جسد، بل يتعامل معه على أنه نفس إنسانية، تحتاج إلى البسمة الصادقة، والكلمة الطيبة، كما تحتاج إلى التشخيص الجيد، والدواء الملائم. فلا غرو أن كانت بشاشة وجهه، وحلاوة لسانه، وحسن معاملته، وصدقه مع نفسه، وتقواه لربه، من أدوات علاجه، مع الأسباب المعتادة.
ومن المعلوم أن تأثير النفس في الجسم أمر أقره العلم، وأقره الدين، وأقره الواقع.
أم نتحدث عن حسان العالم:
الذي يشهد له المتخصصون أن له باعا في اللغة والنحو والأدب، وباعا في الفقه والدراسات الإسلامية، بجوار تضلعه في العلوم الطبيعية؟ وقد كنا – نحن علماء الشريعة واللغة العربية – نسمع له بإعجاب من سعة اطلاعه، وحسن فهمه في هذه المجالات.
أم نتحدث عن حتحوت الكاتب، الذي كان الكثيرون ينتظرون مجلة العربي، ليقرأوا خواطره الحية المعبرة عن عقل متألق، وشعور متدفق، وقلم متأنق، يخاطب الكيان الإنساني كله: يقنع العقول، ويحيي القلوب، ويقوي الإرادات.
ويعنى بالبشر كافة، عربهم وعجمهم، مسلمهم وغير مسلمهم، شرقيهم وغربيهم، متقدمهم ومتخلفهم، ويجتهد أن يعالج مشكلاتهم كلها، المادية والمعنوية، الدنيوية والدينية، فليس من طبيعته ولا من أخلاقه التعصب إلا للحق؟
أم نتحدث عن حتحوت (الشاعر) المطبوع، الذي ورث الشاعرية عن أبيه، ولذا كان هو وشقيقه ماهر شاعرين مجيدين وإن كان حسان أغزر وأشهر وأبهر، ومما عرفنا من شعر والده: الأبيات الجميلة التي ودع بها حسانا، وهو ذاهب إلى أرض فلسطين:
اهبط على أرض السلام جعلت يا ولدي فداك
ضمد جراحات العروبة سدد المولى خطـاك
وامسح دموع الثاكلات عساك تسعدها عساك
واذكر فلسطين الجريحة وانس أمـك أو أبـاك
إنـي وهبتـك للجهـاد وأين لي سيف سواك؟
وقد ضاع الكثير من شعره، ولكن ما بقي منه أصدره في ديوان (جراح وأفراح) الذي أسعدني بإهداء نسخة منه إلي. ومن روائع شعره قصيدة:
(من وراء الأسوار):
الذي كتبها، وهو في سجن أبو زعبل – طرة 1965، وفيها يقول:
إلى رحمة الرحمن أشكو وأفـزغُ
سقتني الرزايا كأسها وهو مترع
ألا إن ركن الحر في الخطب قومه
فماذا إذا ما خانه القوم يصـنع؟
لقد كان لي في عز قومي مطمـع
فأضحى لقومي في هلاكيَ مطمع
وقد أزمعوا أمرا علـيَّ وقـدَّروا
فبئس الذي قد قدروه وأزمعـوا
وما أسفي للقيد فـي الرُّسـغ إنما
لقيد أرى فيه بـلادي تمـزَّع!
وما كربتي سجني ولكنَّ كـربتي
لسجن أرى فيه الملايين تقـبع!
وُلدنا من الأرحام أحـرار أنفـس
وترضعنا مصر الإبـاء فنرضع
فما بالنا صارت تروَّض أُسْــدُنا
فتغدو كأسد السِّرْكِ تعنو وتخضع؟
إذا ما فقدت الظفر والناب لا تقـل
أنا أسـد بل أنت كبش مطـوَّع!
إذا الشعب رَّبوْه على خشبة العصا
فماذا لدى سـاح الوغى نتوقـع؟
إلام تظل الأُسد رهن سجـونـها
وأبناء آوى في الكـنانة ترتـع؟
إلهيَ طـال الليل ظلما وظلمـة
فهل تأمر الصبح المبين فيطلـع!
فليس لها من دون صنعك كاشف
وليس لنا من دون بابك مرجـع
ومن شعره في (العاطفيات) قصيدة:
(نسمة حب):
أنا بالكلية بالقاهرة .. وهي بالشرقية بالإجازة .. وهبت نسمة هواء شرقية ذات ليلة صيف – 1946م
وســارية بالليل قلت لـها هبّي
صبت نحوها روحي وخف لها قلبي
معـطَّرة فـوَّاحـة فـكـأنــما
على من أتت من عند حيهمو تنبـي
هـموس أحـاديث الصبابة كلــما
تصدت لها إصغاءة الفنن الرطـب
من الشرق هبت تحمل الحب هل أتت
تعود فتي قد شفه الحب في الغرب؟
أقول لها هاتي الحديث وصارحــي
فقد نامت الدنيا سـوى مقلة الصب
ألا كيف هم مذ فـارق الدار ركبهم
وفارقني قلبي.. وراح مع الركـب
وقد همست بي نسـمة الليل همسة
سلاما وبـردا فهي للـروح كالطب
بأن الهوى حي وأن أحبتـــــي
يسيرون في شرع الوفاء على دربي
ومن روائعه في المدح النبوي قصيدة:
(في ذكرى المولد النبوي الشريف):
ذكرتك في ليلـة المولـد وناري في القلب لم تخمد
ذكرتك يا أشرف المرسلين ويا خير هاد لمن يهتدي
ذكرتك والقدس فيه اليهود يعيثون بالنار في المسجد
ذكرتك والهام فوق التراب وقد كانت الهام في الفرقد
ذكرتك والوطن اليعربي تعيث به نزوة المعتدي
ذكرتك بـانىَ أركـانه ولو لم يضيعك لم يهدد
ذكرتك والقـوم في فتنة كما لم تظن ولم تعهـد
ذكرتك في أمة لم تصنك فوا خجلتا منك ياسيدي
أم نتحدث عن حسان (الداعية) الموفق، الذي هيأ الله له القبول، بالعقول تفهمه، والقلوب تحبّه، والعزائم تستجيب له.
فهو داعية بلسانه، وداعية بقلمه، وداعية بنثره، وداعية بشعره، وداعية بفكره، وداعية بعاطفته، وداعية بوجهه، وداعية بأخلاقه، وداعية بحسن تعامله. داعية إذا جد، وداعية إذا مزح، داعية إذا تكلم، وداعية إذا صمت، داعية في المسجد، وداعية في العيادة، وداعية في الجامعة، وداعية في البيت، وداعية في الطريق.
كان – إلى جوار كونه كاتبا وشاعرا – محاضرا متمكنا، يحسن إعداد بحثه، وتوثيق مصادره، إيضاح فكرته، وإجادة عرضه، وانتقاء أسلوبه.
وكان خطيبا مفوها، يشد القلوب، ويحرك المشاعر، دون إسراف في تهييج العواطف، أو التعدي على حق الفكر، وكان سليم الأداء، لا تستطيع أن تمسك عليه لحنة واحدة في نحو أو صرف. كانه عربي قح يتكلم بالسليقة، كما قال أحدهم قديما:
ولست بنحوي يلوك لسانه ولكن سليقيّ أقول فأعرب!
وكانت عدته ثقافة إسلامية رصينة، حصلها من صلته الباكرة بدعوة الإخوان وقربه من مؤسس الدعوة ومرشدها العام حسن البنا، وقد كان له مكانة عنده، كما كان حسان يعتز بتتلمذه على حسن البنا، ويرى فيه المعلم القوي الأمين، والمربي الأسوة، والقائد البصير. ثم أكملها بالقراءة والاطلاع، مع قريحة وقادة، وعقلية نقادة.
أم نتحدث عن حسان (الإنسان) الذي لا يماري صديق ولا عدو ولا قريب ولا بعيد، ولا مسلم ولا غير مسلم، في إنسانيته التي وسعت الجميع في رحابها، وأظلتهم بظلالها، وهو يستمد هذه الإنسانية من صلب الإسلام، كما فهمه نظرا، وآمن به اعتقادا، وعاشه عملا. ويرى أن الإسلام (دين إنساني) بكل ما تعميه الكلمة من الإخاء والحب والمساواة والرحمة والبذل والتعاون والتكافل والتسامح.
وكانت عنايته بالإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن عرقه أو لونه أو وطنه أو لغته أو دينه، أو مذهبه أو طبيعته، أو غير ذلك مما يفرق الناس بعضهم من بعض. وكيف لا وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقوم واقفا لجنازة يهودي، فقالوا له: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي! فقال: "أليست نفسا"؟!.
ولا غرو أن كان حسان نبعا ثرا للحب لا يغيض ولا ينقص، كان الداعية الأول للحب، حب الناس كل الناس، وإطراح الكراهية والبغض، فإن البغضاء هي الحالقة، وكان يروى عن إمامه حسن البنا أنه كان يقول: سنقاتل الناس بالحب! يقول حسان: أنا إنسان محب، وأحب الحب، وأعتقد أنه إذا كانت المسيحية الحقة تقول: (الله محبة) فأنا كذلك أرى أن الله أوجز الإسلام كله في كلمتين، وذلك في خطابه لرسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وأذكر أن آخر لقاء ضمني بالدكتور حتحوت كان في مقر منظمة الصحة العالمية في مصر، حيث كنا مدعوين فيها، من المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الكويت ومن عدد من المؤسسات الإسلامية والغربية، لإعداد (الميثاق الأخلاقي) للأطباء. وفي ختام الاجتماع طلب حسان الكلمة، وألقى فينا خطبة، دمعت لها العيون، ورقت لها القلوب، وكأنها موعظة مودع، كانت كلها دعوة إلى الحب، وترغيبا في الحب، وتعميقا للحب، وأنه لم يجد أفضل للبشر ولا أنفع ولا أزكى من الحب، ولم يقدر لي أن ألقاء بعدها.
ومن إنسانية حسان: أنه حين ذهب في سنة 1948م متطوعا للعمل في فلسطين في مجاله الطبي والعلاجي، ولاسيما في إسعاف الجرحى، وعلاج المصابين، جيء بمجموعة من الأسرى اليهود جرحى، ولكن حسانا علم أن القيادة العسكرية قررت إعدامهم بالرصاص، انتقاما لما ارتكبوه أو ارتكبه قومهم – ولا يزالوا يرتكبونه – من قتل النساء والأطفال والشيوخ. إلا أن حسانا وقف في وجه هذا القرار بكل قوة قائلا: لا ينفذ هذا القرار إلا على جثتي. فهؤلاء أسرى جرحى من حقهم أن يعالجوا كما يعالج كل جريح، ولا يحملون وزر قومهم، وقد قال تعالى عن الأسرى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4]، وقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان:8]. وغلبت إرادة حسان إرادة الإدارة العسكرية، ونجا هؤلاء وعولجوا حتى شفوا.
وقد عرف اليهود هذا الموقف وتحدثت عنه الصحف الإسرائيلية، وكانت سببا في الإفراج عن طبيب مصري كان أسيرا عند اليهود، وزميلا للدكتور حتحوت.
بداية صلتى بحسان:
في الحديث المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرواح جنود مجنَّدة, فما تعارف منها ائتلف, وما تناكر منها اختلف". صدق رسول الله.
تعارف روحي:
ويبدو أن رُوحي قد تعارفت مع رُوح أخي حسان حتحوت في (عالم الذر) كما يسمُّونه, فائتلفت معها: فقد أحببتُ حسانًا قبل أن ألقاه, وعرَفتُه قبل أن يعرفني.
فقد كنا نحن – طلاب الإخوان المسلمين في المرحلة الثانوية – نتابع نشاط إخواننا (الكبار) من طلاب الجامعة، نعتزُّ بمواقفهم، ونتغنَّى بأمجادهم، ونطرب لأفراحهم، ونأسى لفواجعهم، ونزهى بنوابغهم.
وكان من هؤلاء النوابغ: مصطفى مؤمن بكلية الهندسة، وسعيد رمضان بكلية الحقوق، وحسان حتحوت بكلية الطب، وكلهم اشتهر بفصاحة اللسان، وبلاغة اليراع. وكانت تأتينا أعداد من مجلة أصدرها إخواننا طلاب القاهرة، اسمها: (الطالب العربي)، وهذا العنوان دليل قديم على عمق الحس العروبي إلى جوار الحس الإسلامي، والحس الوطني لدى الإخوان.
وكانت المجلة تشتمل على أخبار الطلاب، وعلى بعض كلمات ومقالات وقصائد للنابهين منهم.
ومنها لحسان، الذي يبدو أن والده سماه بهذا الاسم، ليقوم في الأواخر مقام (حسان) شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم في الأوائل، فقد عرَفتُ من مذكرات حسان: أن والده كان شاعرا مطبوعا، كما تجلَّى ذلك في أبياتها التي بعث بها إليه، حين ذهب إلى أرض فلسطين سنة 1948م، لخدمة المجاهدين في الميدان، وقد سقناها من قبل.
ومما أذكره مما قرأتُه من قديم لحسان في عنفوان شبابه، يتحدَّث عن القرآن:
هذا الكتـاب، وإنَّ فيه سياسـة
أتراه أمرا في الكتاب عجيبا؟
إن كان تزعـجكم سياسته دعو
ه، ونقِّبوا عن غيره تنقيبـا!
أو فاعرضوه على الرقيب فربَّما
أفتى، فغادر نصفه مشطوبا!
يا قوم سحـقـا للرقيب وأمـره
فكفى برب العالمين رقيبـا!
وحينما اقتادونا إلى الاعتقال في أوائل يناير سنة 1949م، ووضعنا في سجن قسم الشرطة، (قسم أول) بمدينة طنطا، وظللنا فيه نحو أربعين يوما، كان من رفقائنا في السجن المهندس حكمت بكير، الذي جيء به من مقرِّ عمله بمدينة كفر الزيات، وكان من نشطاء طلبة الإخوان في الجامعة، ويحمل ذكريات طيبة حدَّثنا بها عن إخوانه، وعلى رأسهم حسان، فزادني ذلك حبًّا له، وشوقا إليه.
لقاء في المعتقل:
ثم شاء الله أن ننتقل من سجن طنطا إلى معتقل الطور، وبعد فترة نقلونا – نحن طلبة الثانوي – من معتقل الطور إلى معتقل هايكستب، وفيه جاءنا حسان، من ميدان الجهاد في فلسطين إلى المعتقل، وهو ما استغربه حسان من قومه: أن يكون الاعتقال والحبس وراء القضبان جزاءه وجزاء أشباهه ممَّن خدموا أوطانهم، بإخلاص، وعرَّضوا أنفسهم لخطر الهلاك من أجل أمتهم، وأنشد في ذلك قول طَرَفَة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند!
وفي هايكستب عرَفتُه عن كثب، ولقيته وجها لوجه، وجلستُ إليه، واستمعت إليه، وإلى شعره الرقيق، وإلى نوادره وفكاهاته، التي تصدر دون تكلُّف، ورغم أنه كان طبيبا نابها، وكنتُ في طالبا في نهاية المرحلة الثانوية، فلم أشعر فيه قط بتعالٍ أو صلف، بل كان قريبا من الجميع، حبيبا إلى الجميع، بزكاة نفسه، وطهارة قلبه، ورجاحة عقله، وحسن خلقه، وحبِّه لإخوانه، ومسارعته لنفعهم.
ورغم أنه كان في استقامته كشعاع الشمس، وفي نقائه كماء المزن، وفي صرامته كحدِّ السيف، فقد شعر كلُّ مَن عاشره أو اقترب منه: أنه نعم الجليس، ونعم الأنيس، لخفَّة ظلِّه، ومرح رُوحه، وملاحة نِكاته، وقفشاته التي تصدر منه على البديهة، في غير إسفاف ولا ابتذال، ولا جرح لأحد.
وبعد أن خرجنا من المعتقل التقينا في ساحة الدعوة بالقاهرة، ثم فرَّقت بيننا الأيام، وعافاه الله سنة 1954م من (السجن الحربي)، الذي جمع الله به – رغم قسوته وما فيه من آلام وعذاب – بين كثيرين باعد بينهم الزمن، فقد كان خارج مصر. حتى هيَّأ الله لنا لقاءات ولقاءات في مرحلة النضج، في ندوات علمية، ومؤتمرات إسلامية، وخصوصا ندوات (المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية) بالكويت، التي سنَّت سنَّة حسنة في الجمع بين علماء الفقه وعلماء الطبِّ، للتباحث المشترك في القضايا الفقهية المتعلِّقة بالطبِّ، وكان حسان من أبرز الأعضاء المؤسِّسين والمشاركين في هذه الحلقات، بخلفيَّته الإسلامية، وثقافته الشرعية، وبراعته الطبية، وقدرته الأدبية.
وأهم ما عرَفتُه في حسان خلال تلك المراحل كلِّها، خصال ست، لم تتغيَّر في شباب ولا هَرَم، وهي: الصدق الذي لا يعرف الكذب، والإخلاص الذي لا يشوبه رياء ولا طلب مغنم، والاستقامة التي لا تعرف العوج ولا الالتواء، والاعتدال الذي لا يعرف الشطط ولا التفريط، والثبات الذي لا يعرف التلون ولا التراجع، والحب الذي يَسَع الموافق والمخالف. كما وصف ذلك هو بقوله: (الصفاء بالمحبَّة لكلِّ الذين لقوني في حياتي ظالمين أو مظلومين).
رجل يعرف الفضل لأهله:
ومَن عرَف حسانا عرَف أنه رجل تميَّز بشعور رقيق، وحسٍّ دقيق، وفَهم عميق. ولأنه رجل أخلاق من الطراز الأول، يقدِّر القيم الأخلاقية حقَّ قدرها، ويعترف لأهلها بفضلهم، وينوِّه بشأنهم، لتتَّخذ الأجيال منهم خير أُسوة. انظر حديثه عن أبيه وأمه رحمهما الله، في مطلع كتابه المؤثر (بهذا ألقى الله)، وهو يقول عن أمه: إنها كانت أُمَّة. وهو يذكرها أكثر مما يذكر أباه، وهذا يشير إلى أنه لا يحمل عقدة ضد جنس المرأة. كما وضح ذلك في حديثه عن زوجه د. سلوناس، التي يقول: إن قصته معها وقصتها معه، جديرة أن تُنشر في كتاب ، وقد حاول ذلك، ولكن زوجته هي التي تأبى.
وانظر حديثه – في مذكراته عن السنوات العشر التي سمَّاها (العَقْد الفريد) – عن أستاذه الدكتور سليم صبري، الذي أعتبره أستاذه في الطب، كما كان الأستاذ البنا أستاذه في الدعوة.
وانظر: حديثه عن الأستاذ محمد فريد عبد الخالق، الذي قال عنه: إنه كان مخلصا، وكان مثقَّفا، وكان مفكِّرا، وهو ثالوث نفيس ومفيد.
وحديثه عن الأستاذ صالح أبو رقيق، وموقفه يوم (العلقة السخنة) في معتقل الهايكتسب، فقد وقف أمام العسكر ومدَّ زراعيه يتلقَّى الضربات عمن وراءه من الإخوان، وخصوصا من صغار الطلبة، (مثل محي الدين عطية).
وحديثه عن الشيخ عبد المعز عبد الستار، وهو يقول للجنود، وهم يضربونه بعصيهم الغليظة: اضربوا يا كلاب، اضربوا يا أنذال.
وحديثه عن الشيخ فرغلي، ومصطفى مؤمن، وسعيد رمضان، وحسن دوح، وغيرهم وغيرهم.
حسان وحسن البنا:
أما حديثه عن الأستاذ البنا فهو حديث المعجب المحب، حديث التلميذ عن أستاذه، والمريد عن شيخه، والجندي عن قائده، والابن عن أبيه، دون غلو ولا تقديس.
وهو يلتقط المواقف الهادية المعلِّمة بحاسته المرهفة، ويختزنها في ذاكرته طوال تلك العقود، ليخرجها للناس حتى يلتمسوا فيها العظة، ويأخذوا منها العبرة، سواء كانت مواقف تنبئ عن عقل كبير، أو عن قلب كبير.
فمن المواقف التي تدلُّ على كبر عقل الرجل: حسن تخلُّصه من المآزق، والمواقف الحرجة بلباقة منقطعة النظير، بكلمات بلغية معبِّرة.
كما سُئل عن السينما: أحلال هي أم حرام؟ فقال: السينما الحلال حلال، والسينما الحرام حرام.
وحين اعترض العالم التقي الورع الشيخ محمد الحامد الحموي على استخدام الأستاذ البنا لكلمة (الكأس) في مجال الكرة، حيث حصل فريق من الإخوان على (الكأس)، فقال الشيخ الحامد رحمه الله: إن الكأس تستعمل في الخمر، فلا ينبغي أن تتَّخذ لدي الإخوان. فقال البنا: لا تغضب، يا شيخ محمد، لقد حصل الإخوان على (القدح)!
ومن المواقف المؤثِّرة التى حكاها حسان في إحدى الكتائب التى أقامها قسم الطلاب، والتي كان يشهدها ويشارك فيها الأستاذ بنفسه: أنه استأذنهم لمدة ساعة، ثم عاد ليكمل برنامج ما قبل الفجر إلى نهاية الكتيبة. وبعد انصرافهم قال حسان لبعض رفقائه: كأني لحظتُ على وجه الأستاذ مسحة من حزن! فأنكروا ذلك.
وفي الساعة العاشرة اتصل الإخوان بهم ليدعوهم إلى جنازة ابن الإمام الشهيد حسام، فقد استأذن الإمام تلك الساعة ليودِّعه ويغطيه ويعود لاستكمال ما بدأه.
وهذا ما لا يقدر عليه إلا الصديقون. نرجو الله أن يكون منهم.
رجل الاعتزاز والتسامح:
وهو كذلك رجل مسلم شديد الاعتزاز بدينه، مستمسك بعروته الوثقي، ملتزم بمثله العليا، يؤمن به ويدعو إليه عقيدة وشريعة، ودينا ودنيا، ودعوة ودولة، وحقًّا وقوَّة، ويقف عند حدوده، وينزل على أحكامه، ولا يجد في نفسه حرجا منها، بل يسلم تسليما.
وهو يؤمن بأن هذا الدين هو سفينة الإنقاذ للبشرية، وفيه خلاصها مما تعانيه من الفلسفات المادية والإباحية، ومن أخطار الايدلوجيات والأنظمة الوضعية التى أشقت البشر، ومن طغيان الأقوياء على الضعفاء الذي يهدد العالم. ومع هذا لا يدفعه هذا الاعتزاز والالتزام إلى التعصُّب ضد الآخرين، أو التنكر لحقوقهم، أو الإزراء عليهم، بل نجد موقفه مع الأقباط – نصاري مصر – في غاية العدل والإنصاف، منطلقا من القرآن الكريم الذي أمر ببرهم والإقساط إليهم {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، ومن السنة النبوية التى أوصت بأقباط مصر خاصة، في عدد من الأحاديث.
حتى إن بعض إخوانه أطلقوا عليه من باب المزاح (الأب) حسان! وقد كتب في مجلة الإخوان الإسبوعية مقالا بعنوان (أخى جرجس)، ورد عليه القمص سرجيوس الكاتب القبطي الشهير في مجلة الأقباط، يبادله تحية بتحية، ووُدًّا بوُدٍّ، وهو في هذا ينطلق من حيث انطلق شيخه ومرشده الإمام البنا رحمه الله، كما وضَّح ذلك بما كتبه حسان في مذكراته، في فصل (نحن والأقباط).
وأكثر من ذلك: موقفه من اليهود، ودفاعه عن أسراهم، وقد ذكرنا هذا الموقف من قريب.
رجل طابعه الاعتدال:
ومن الدلائل على أن حسانا رجل معتدل حقًّا، وليس من أهل الغلو ولا التقصير أنه يجتهد أن يعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، لا يغمط أحدا ما قدَّمه من فضل، ولا يضفي على أحد هالة لا يستحقُّها. لا يبالغ في المدح إذا احتاج إليه، ولا يذمُّ أحدا إلا إذا ألجأته الضرورة، وفرضت عليه الحقائق المُرَّة ذلك، وقد يذكر الشخص بالوصف لا بالاسم، أو بحروف اسمه الأولى عند اللزوم أو نحو ذلك.
وقد ينتقد نفسه في بعض الأحيان، كما فعل حين كان طبيبا في قرية بهوت، ودعاه البدراوي باشا إلى العشاء مع مهندس الري والمفتش الزراعي، ولكنه اعتذر، وبقي في محبسه. قال: لكننى كنتُ حساسا أكثر من اللازم في موضع حفظ الكرامة، ويخيِّل لي بالنظرة الخلفية: أنه لم يكن عليَّ غبار أن أذهب وأتعرَّف بالناس.
وقد تعرَّض في كثير من المواقف في مذكراته لإعطاء الرأى في كثير من المواقف والشخصيات والأحزاب. فقد تحدث عن (الملك) الذي كان أحب الناس إلى شعبه، فأمسى – بسوء سلوكه – أبغضهم إليه … وتحدث عن حزب الأغلبية (الوفد) وموقفه من الإنجليز والرأي والدستور، وعن أحزاب الأقلية، التي تحكم مصر بالانتخابات المزوَّرة كلما أراد الملك أن يتخلَّص من الوفد، لكثرة الفساد والمحسوبية.
وتحدث عن قضية فلسطين وعن دخول الجيوش العربية السبعة فيها، وقال: يا ليتها لم تفعل … وتحدث عن الأسلحة الفاسدة … وتحدث عن بطولة المتطوِّعين من الإخوان.
وتحدث عن الإخوان وعن نظام (الكتائب) التربوي الفريد، وقال: وما زلت أعتقد اعتقادا راسخا بأن الحركة الإسلامية لن تحرز النجاح إلا إن بدأت من هذه البداية: تكوين اللبنات الصالحة. أما البداية من النشاط السياسي، أو العسكري أو المذهبي، فهو بداية المرحلة من منتصف الطريق، وشروع في البناء من غير حفر أساس.
وفي فصل (السؤال الأخير) الذي ختم به هذه المذكرات تحدث عن رأيه في (النظام الخاص)، وفي الديمقراطية وفي الحضارة الغربية، وحديثه هنا – وإن كان خارج نطاق الذكريات – حديث المهموم بشؤون أمته، وهموم دعوته، وأنا معه فيما ذهب إليه من جملة الأفكار، وقد سجلت ذلك في أكثر من كتاب لي: فتاوي معاصرة، أولويات الحركة الإسلامية، من فقه الدولة في الإسلام، وفي مذكرات ابن القرية والكتاب، وغيرها.
لمحة عن حياة حسان:
ولد حسان حتحوت في مدينة شبين الكوم عاصمة المنوفية بمصر، في 23/12/1924م في بيت كريم، معروف بالوطنية أما وأبا، وقد كان والده مدرسا للغة الإنجليزية، كما كان شاعرا مجيدا.
ومنذ كان طالبا في الثانوي كان يخطب في الطلاب، ويقودهم في المظاهرات ضد الإنجليز، ثم انضم إلى الإخوان سنة 1941م، وكان له نشاط قيادي في قسم الطلاب.
وقد التحق حسان بكلية الطب في جامعة القاهرة وأنهى دراسته بها، وتخصص في طب النساء والولادة، وحصل على دبلوم التخصص من نفس الكلية عام 1952م.
ثم حصل على درجة الدكتوراه، ثم الزمالة من إنجلترا في علم الأجنة، وعمل في مستشفى الدمرداش بالقاهرة لمدة سنة، ثم بالقسم الريفي في قرية بهوت، مركز طلخا، التابعة لمدرية الغربية في ذلك الوقت.
ومن مصر انتقل إلى العمل في عدة دول عربية، منها السعودية لمدة ثلاث سنوات، ثم انتقل للعمل بالكويت، وهناك مكث فترة طويلة، شارك خلالها في تأسيس كلية الطب، ورئاسة قسم أمراض النساء والولادة، كما شارك في النشاط الثقافي والدعوي والاجتماعي، وكان محترما محبوبا من كل من عرفه.
وبعد أن استقر في عمله بالكويت، نسي ما أصابه في المعتقل، وأرسل إلى المباحث العامة المصرية يطلب العودة إلى مصر، ليشارك بجهده وعلمه وخبرته في خدمة بلده، فرحبت به السلطات المصرية، وعاد مدرسا بطب عين شمس عام 1961م، ثم بجامعة أسيوط الجديدة عام 1963م، وخلال هذه الفترة عمل على دعم العلاقة الودية بين المسلمين والأقباط، خلال محاضراته ودروسه حتى أحبه الجميع، ولكن كل هذا لم يكن شفيعا له، إذ تم اعتقاله عام 1965م، بناء على القرار الشهير الغريب الذي أصدره عبد الناصر، وهو قرار (اعتقال كل من سبق اعتقاله). واستمر الاعتقال عدة أشهر، ورغم عدم تعرض آلة التعذيب لشخصه، لكنه عايش وسمع ورأى بعينيه عمليات التعذيب الرهيبة، والتي عرفت باسم (المحرقة)، وخرج بعدها ليسافر إلى الكويت مرة أخرى، مقررا عدم العودة إلى مصر ثانية.
حسان يتحدث عن حياته:
ولقد تحدث حسان عن نفسه وعن نشأته حديثا موجزا، ولكنه نافع وممتع في كتابه (بهذا ألقى الله: رسالة إلى العقل العربي المسلم)، فقال:
(ولدت في بلدة شبين الكوم في دلتا النيل بمصر. نشأة الريف وسماحته وطيبته، الصفصافة التي أسدلت فروعها في مياه بحر شبين، وكأنها عروس حلت ذوائبها الطوال. والساقية والنورج والحقول المعطاء الخضراء، وبحر شبين الذي كنت أظنه أكبر حاجز مائي، رغم أنه كان يجف في الشتاء فنعبره سيرا على قاعه، حتى انتقلنا إلى القاهرة، فرأيت النيل أكبر، وزرت الإسكندرية، فرأيت البحر أكبر وأكبر، وما زال الأفق ينداح أمامي طوال الحياة.
الوالد شاعر رقيق، وأديب ضليع، وفيلسوف هادئ، لم تستطع سراء ولا ضراء أن تمثل له الدنيا بأكبر من حجمها، ومخزون لا ينفد من سرعة البديهية وحلاوة النكتة، وبهجة المحضر، حتى كانت الناس تجتمع على محضره كالفَراش.
والوالدة شعلة لاهبة من الوطنية، أسهمت في الجهاد للوطن، وكانت أول من قاد مظاهرة نسائية في بلدتنا المحافظة المتواضعة، احتجاجا على الاحتلال الإنجليزي، خرجت من المسجد العباسي، وسارت إلى كنيسة الأقباط، ولما تزوجَتْ وأنجبتْ أرضعتْ ولديها وغذتهما حب الله وحب الوطن.
ووفقني الله في دراستي وحصلت ما جعلني أستاذا ورئيس قسم في مادة تخصصي.
وتزوجت من اخترتها على نساء العالمين، وقررت أن أتزوجها أول مرة أراها فيها، وأبلغتها بهذا القرار، يقصد زميلته الدكتورة سلوناس.
وفقدت ابنتي الأولى في حادث سيارة، فلما قرأت البرقية قلت على الفور: (اللهم إني أعلم أنك تنظر إلي وملائكتك .. اللهم إني أعلم أنك تختبرني فأرجو أن أنجح في الاختبار. اللهم إني أعلم أن الناس تستوي بعد سنة، ولكن الاختبار في الوهلة الأولى. اللهم إن كنت رضيت لي هذا فإني رضيت. إني رضيت. إني رضيت. اللهم إنها كانت وديعتك لدينا فأصبحت وديعتنا لديك).
وشهدت حربا (يعني حرب فلسطين 1948م) فشهدت قسوة الإنسان على الإنسان. وأحسست الموت يمر على مسافة سنتيمترات مني في زخّات الرصاص، فعلمت ألا يصيبني إلا ما كتب الله لي. وعهد إلي بجرحى من أسرى العدو فعاملتهم أكرم معاملة.
وأصاب معدتي مرض خبيث فلم أقل: ولماذا أنا! فمن الأنانية أن تطالعه في الناس بهدوء، فإذا أصابك جزعت! وجاء شبح الموت، فقلت: ومن ذا الذي لا يموت؟ وسبحان الحي الذي لا يموت!! وماذا عليّ لو وصلت إلى الشاطئ ونعمت في أكرم جوار!
وأخذت العلاج فاشتدت عليّ وطأته، فقلت: لا بد أن أدفع البأس بالبأس، فألفت كتابا بالإنجليزية اسمه (قراءة العقل المسلم)، ونجح الكتاب كوسيلة دعوة تطلع غير المسلمين (والمسلمين) على الوجه الحقيقي للإسلام.
وزال المرض والحمد لله، إلا أن العلاج ترك بصمته على قلبي، لكن ما دام ينبض، فالحياة مستمرة والجهاد قائم، فقد قررت ألا أموت قبل أن أموت.
وتوافر لي في حياتي ما لا يتوافر للكثيرين من معلمين ومرشدين ونماذج ناصعة، في الإيمان والمثالية الطيبة ونقاء القلب وخدمة الناس، رحمهم الله جميعا.
وعشت في الكويت فترة طويلة. وللكويت عليَّ يد لا تنسى، ليست الوظيفة وليس المرتب، فكان في وسعي مثل ذلك وأزيد، ولكن في وقفة وفاء لم يعلم بها إلا الأقلون من رجال الكويت، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.
وعوضني الله خيرا كثيرا، وكان فضل الله عليّ عظيما.
انتقاله من الكويت للدعوة في أمريكا:
ويكتب حسان بقلمه عن الدوافع التي جعلته يستقيل من عمله بالكويت ليتفرغ للدعوة إلى الإسلام في أمريكا، فيقول:
(والذي صاحبني طول حياتي حبي للإسلام، أحمل اسمه، وأحمل همه، وأعمل له. ودلتني زياراتي على أن الإسلام في أمريكا فرصة حقيقية وتاريخية، إن ضيعناها فهي شيمتنا وما أكثر ما ضيعنا. وإن انتهزناها فربما أفضى ذلك إلى منعطف تاريخي يفيد أمريكا، ويفيد العالم، ويفيد المسلمين وقضايا المسلمين.
فاستقلت من عملي بالكويت وسافرت لأمريكا وطويت سجل العمل الطبي (الذي عشقته ولا أزال)، وقلت: أقصر شريحة من عمري على خدمة الإسلام، وأنتهزها فرصة في زمن الاستطاعة، وأربعون سنة من الطب إسهام واف، والحمد لله.
وأفضل خدمة للإسلام في أمريكا (وفي غيرها من البلاد مسلمة أم غير مسلمة) هو أن يعيشه الإنسان بإخلاص، ويحسن عرضه على الناس.
وأحببت أمريكا وإن كان بها فساد كبير، على مستوى الأخلاق، وعلى مستوى السياسة. لكنها تتيح قسطا من الحرية في خدمة الإسلام لا يتوافر في أكثر بلاد المسلمين. وحيث تكون الحرية (حرية الصلاح والفساد) فالإسلام هو الرابح على المدى البعيد، وحين تغيب الحرية فالإسلام أول خاسر وأكبر خاسر).
اتصلت به مرة بعد مدة من استقراره في أمريكا، وسألته عن همه ونشاطه في تلك المرحلة، فقال: همنا الآن هو بناء (المدارس) لنربي فيها أبناء المسلمين على الإسلام الصحيح، بجوار تعلمهم ما تقدمه المدارس هناك. إن الجيل الذي سبقنا كان همه بناء المساجد، ولكن إذا لم نرب للمساجد رجالا يعمرونها ويحرسونها، سيأتي جيل يبيع المساجد للنصارى، كما باع النصارى لنا كنائسهم، لنحولها إلى مساجد ومراكز إسلامية.
وصدق رحمه الله، فالمساجد وحدها لا تكفي للإبقاء على إسلام الناس حيا قويا، ما لم تسنده مؤسسات أخرى، تحافظ على هوية الجماعة المسلمة، وبخاصة المؤسسات التربوية.
وقد ألَّف بعد مرضه كتابه (قراءة في تاريخ العقل المسلم)، بلغته الإنجليزية الجميلة، ليخاطب به العقل الغربي، ويقنعه بجمال الإسلام، وقد كان للكتاب أثره في كثير من الأمريكان، الذين أدهشتهم حقائق الإسلام، وطبع عدة مرات.
كما استطاع أن يؤثر في الكثير من المسيحيين حتى دعوه مرارا إلى كنائسهم، كما استطاع أن يقيم تحالفات شتى مع مؤسساتهم الدينية، مثل: (التحالف ضد الأسلحة النووية)، و(التحالف ضد الإجهاض)، وغيرهما.
خوفه على المسلمين وأمله في الصحوة الإسلامية
وهو – مع وجوده في أمريكا – يعيش أبدا حاملا لهموم الأمة المسلمة، حريصا على أن تحيا بالإسلام وللإسلام، قوية ناهضة، مكانها في الرأس لا في الذيل، وإن كان الواقع يصدمه بغير ما يتمنى، يقول:
(وأطالع الإسلام على خريطة العالم، فأطالع ما يسر وما يسوء. وأتأمل أحوال المنتسبين إلى الإسلام، فأجد فيهم من يخدم الإسلام وأجد منهم من يؤذيه.
وقديما هشت الدبة الذبابة عن وجه صاحبها بحجر. وربما رأيت من يرفع العقيرة حماسا لكن وقود حركته الكره والبغض وربما طال أذاه الأبرياء بل قتل الأطفال والنساء .. وهو يحسب ذلك جهادا وما هو بجهاد .. {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103،104].
والظاهر حقا أن عدوا عاقلا خير من صديق جاهل. وبين الفصائل المحسوبة على الإسلام الآن من أصبحت بصدق أخاف أن يصلوا إلى الحكم أو يتقلدوا السلطة.
يرى د. حسان أننا نعيش عصر الصحوة الإسلامية، وهذا حق، ولكنه يرى أن الصحوة في حاجة ماسة إلى تعليم وترشيد قويين. وإسهاما – متواضعا – في هذا السبيل أصدر كتابه (رسالة إلى العقل المسلم) قال: أكتبه وأنا على قمة عمر جاوز السبعين، وتمرس كبير بقضية الإسلام في الشرق والغرب .. وعقل أرجو القارئ ألا يسيء الظن به، وقلب من يعرفه لا يشك في إخلاصه. ولعله إضافة إلى جهود رجال مؤمنين، وأساتذة علماء ودعاة هداة، نذروا أنفسهم لخدمة الإسلام والذود عنه من الداخل والخراج، ولا يخالجني ريب في أن جهودهم ستكلل بالنجاح، وأن العاقبة للتقوى، وأن الله سيلهمهم حسن الإجابة يوم ينشر الحساب ويقول الله: أعطيتكم الإسلام، فماذا فعلتم به وماذا فعلتم له؟
وكان مما ركز عليه حسان في كتابه ذاك: قضية (الحريات) وهي مضيّعة في عالمنا العربي والإسلامي، مع أنها مدخل ضروري لكل تغيير وإصلاح، وهو يعيب على كثير من المسلمين بأنهم ضيّقوا الإسلام الواسع والكبير، فكادوا يجعلونه لحية للرجل، وحجابا للمرأة، وضيّقوا الشريعة، فحصروها في الحدود والعقوبات. ويؤكد أنهم لم يفهموا الشريعة على حقيقتها، فهي رحمة قبل أن تكون عقابا، وهي تصنع الضمير قبل أن تنزل العقاب.
ومع هذا يضيء مصباح الأمل أمام العاملين للإسلام حتى لا يقنطوا، أو يكسلوا، فيقول: ولقد يضيق الصدر أحيانا بوعورة الطريق، وانتكاس المسار، لكن الحصيلة – والحمد لله – تقدم ملموس في مسيرة الإسلام، ومؤشرات ومبشرات بأن الله يغفر ما فات، ويصلح ما بقي إن شاء الله.
وعلى زمان النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب الجموع بغير مكروفون أو مذياع فيدعو الله قائلا: "اللهم أسمع عن عبدك".
وهو دعائي وأنا أطرح هذا الكتاب على الناس: اللهم أسمع عن عبدك.
قالت زوجته الدكتورة سلوناس حينما اتصلت بها لأعزيها: لقد كان في الفترة الأخيرة قوي الصلة بمولاه، مستعدا للقائه سبحانه، وكان يردد: إني في شوق إلى لقاء ربي.
وأحسب أنه تعالى قد استجاب لدعائه الخاشع، الذي قدم به كتابه (بهذا ألقى الله) وفيه يناجي ربه بقوله:
اللهم اهدنا واهد بنا
واجعل سعينا خالصا لك
اللهم هون علينا بقاءنا في الدنيا
وهون علينا الخروج منها
واجعل خير أيامنا يوم نلقاك
عبدك الفقير إليك – حسان حتحوت
حسَّان حتحوت عمرُ من العطاء:
كتب: د. عصام العريان
غيَّب الموت بعد عمر حافل بالعطاء أستاذنا الدكتور حسان حتحوت عن عمرٍ يناهز الخامسة والثمانين قضاها بين مصر والسعودية والكويت والولايات المتحدة الأمريكية.
وُلد د. حسان حتحوت لأسرةٍ عريقةٍ بالمنوفية، وتخرَّج في كلية طب قصر العيني منتصف الأربعينيات، والتحق وهو طالب عام 1942م، بدعوة الإخوان المسلمين، وكان نشاطه بقسم الطلاب الذي عرف وقتها رموزًا بارزةً في تاريخ دعوة الإخوان المباركة مثل زملائه ورفقاء الطريق، د. عوض الدحّة "ابن المنيا"، وعبد الفتاح شوقي "ابن دمياط"، ود. خطاب، رحمهم الله جميعًا، ود. محمود البوز "ابن الشرقية" أمد الله في عمره ومتَّعه بالصحة وختم له بإحسان.
كما عرفت الجامعة وقتها نجومًا في العمل الدعوي والسياسي داخل حرم الجامعة مثل مصطفى مؤمن في كلية الهندسة، وحسن دوح في كلية الحقوق، وسعيد رمضان في كلية الآداب، وكانوا جميعًا خطباء وقادة وزعماء للطلاب.
في ذلك الوقت كانت دعوة الإخوان قد ترسَّخت في أروقة وكليات جامعة فؤاد الأول "القاهرة بعد ذلك" منذ بايع ستة من الطلاب على رأسهم "محمد عبد الحميد أحمد" من كلية الآداب الإمام الشهيد حسن البنا، وبدأت الدعوة تعرف طريقها إلى "عالم الأفندية" بعد أن بدأها ببيعة مباركة عمال الإسماعيلية الستة مع الإمام الشهيد قبل عقد من الزمان.
كما كانت البداية مع ستة من عمال الإسماعيلية كانت البداية في أواخر 1933م، مع ستة من الطلاب حيث تكوَّنت أول رابطة لطلاب الإخوان المسلمين من محمد عبد الحميد أحمد "آداب" وإبراهيم أبو النجا "الطب"، وأحمد مصطفى "التجارة"، وجمال الفندي "العلوم"، ومحمد رشاد الهواري "الحقوق"، ومحمد صبري "الزراعة"، الذين بادروا بزيارة الشيخ طنطاوي جوهري- رئيس تحرير مجلة الإخوان الأسبوعية- الذي بادر بالاتصال بالمرشد العام حسن البنا الذي كان في زيارة دعوية بالوجه البحري، وأرسل إليه خطابًا يزف إليه بشرى انضمام هؤلاء الأفندية حيث قال: "إذًا فقد بدأ عصر جديد، ولاحت نهضة جديدة، وطلع فجر منشود"، ومن الملاحظ أن غالبية هؤلاء صاروا أساتذة بالجامعة.
وبالفعل اهتم الإمام الشهيد بهم فخصص لهم لقاء أسبوعيًّا، وأفسح لهم بابًا خاصًّا في مجلة الإخوان، وعقد لهم مؤتمرًا سنويًّا خاصًّا بالطلاب ووظفهم لنشر الدعوة في قوافل دعوية صيفية.
بعد عشر سنوات تقريبًا عام 1942م، التحق حسان حتحوت بالقافلة المباركة، وحضر تلك اللقاءات مع حسن البنا، وكان دومًا جريئًا قوي الشخصية يجهر برأيه، ويناقش كل الأمور مع الإمام الشهيد، ويعترض إذا عنَّ له أمر ولا يسلم للإمام دون فهم ووعي، وقد سجَّل تلك الفترة الذهبية من حياته في الكتاب الصغير حجمًا العظيم فائدة الذي أصدرته "دار الشروق 2000" العقد الفريد: عشر سنوات مع الإمام حسن البنا 1942-1952.
لقد قصَّ فيه الراحل الكريم سيرته الذاتية حتى قيام حركة الجيش، ثم عرض في فصلين مهمين رؤيته لمسألة العلاقة بين الحركة الإسلامية والحكم، والعلاقة بين الإسلام والديمقراطية من منظور إخواني تشرَّب بالدعوة المباركة وفهمها على يد مؤسسها حسن البنا ومارسها عمليًّا في تجربة ثرية جدًّا في العمل الإسلامي الحركي والفكري.
لقد كان د. حسان طبيبًا نطاسيًّا بارعًا وأستاذًا للطب في النساء والتوليد، وكان أديبًا بليغًا له أسلوبه المميز، وكان خطيبًا مفوّهًا باللغتين العربية والإنجليزية، وكان شاعرًا مفلقًا كما يقول الشيخ القرضاوي- حفظه الله- والذي استشهد بأبيات له عن القرآن الكريم يحفظها في ذاكرته منذ الأربعينيات وكان داعيةً مؤثرًا بقدوته الحسنة قبل حديثه الطلي وسلوكه الملتزم في أدائه العملي والطبي والمهني قبل خطابته وكلماته.
وقد ساهم د. حسان في الجهاد بفلسطين عندما أعد الإمام حسن البنا بالاتفاق مع المفتي الأكبر لفلسطين الحاج أمين الحسيني في إطار اللجنة العربية العليا لدعم جهاد فلسطين كتائب الفدائيين، وكان الإعداد للجهاد شاملاً، وليس بطريقة عشوائية فقد ساهم الدعاة والمربّون في التوعية بالقضية الفلسطينية، وحث الإخوان على التطوع للجهاد، وتم وضع ضوابط لاختيار المتطوعين، وإعداد معسكرات للتدريب، وتم جمع الأسلحة وتجهيزها بواسطة المتخصصين، وتم إعداد جهاز طبي كفء لمرافقة المجاهدين، وكان من هؤلاء د. حسان حتحوت الذي كان حديث التخرج مع زملاء له وآخرين من السابقين مثل د. أحمد الملط وعوض الدحّة.
ويحكي القرضاوي قصة ذات مغزى توضح بجلاء المعدن النفيس للدكتور حسان حتحوت، والفهم الثاقب لدين الله تعالى حيث تم أسر عدد من المقاتلين اليهود الصهاينة وأراد قائد الوحدة العسكرية المصري أن يجهز عليهم، وكان قد استدعي د. حسان لعلاجهم من بعض الإصابات، فما كان من د. حسان حتحوت إلا أن اعترض بقوة على حكم الإعدام واستدل بالآية الكريمة: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ (محمد: من الآية 4)، و﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)﴾ (الإنسان)، وكرر آراء الفقهاء في حرمة قتل الأسرى والرسل.
عاد د. حسان مع رفاق الجهاد من ساحات الميادين إلى غياهب المعتقلات في معتقل "هايكستب" ليبدأ رحلة جديدة ومرحلة أخرى في ركب الدعوة والدعاة، من قسم الطلاب إلى ساحة العمل الطبي إلى ميدان الجهاد، وإلى غياهب المعتقلات ثم من جديد إلى فضاء الحرية.
خرج د. حسان من مصر كآخرين مع بداية عصر القهر والاستبداد، فهو طائر حر يريد التحليق، ولا يستسلم للقيود، مثله مثل يوسف ندا، والشيخ مصطفى العالم والشيخ محمد عشماوي، وفتحي الخولي، والدكتور مناع القطان، وعصام الشربيني، والدكتور عز الدين إبراهيم، وسعيد رمضان، والدكتور سالم نجم.. إلخ.
خرج إلى السعودية لينطلق منها إلى الكويت التي عاش فيها حوالي عشرين عامًا، طبيبًا وأستاذًا للنساء والتوليد وقريبًا من الأسرة الحاكمة، وأعيان الكويت ورجالاتها ومرجعًا فقهيًّا ودعويًّا للجميع ومؤتمنًا كطبيبٍ على أسرار البيوت.
وساهم مع الدكتور عبد الرحمن العوضي "وزير الصحة الأسبق" حفظه الله في تأسيس "المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية" التي جمعت الأطباء والفقهاء والقانونيين وبدأت نشاطها في منتصف الثمانينيات لتتولى البحث والدراسة لملفات معقدة ومتشابكة ويختلط فيها الطب والقانون بالاجتماع.. إلخ.
وهنا تعرفت عليه في ندوات المنظمة ومؤتمراتها وحلقاتها النقاشية مع منظمة الصحة العالمية، وكان في كل ذلك المرجع الذي يعود إليه الجميع، وينصت إليه الكل في اهتمام لدينه وورعه، وفقهه وفهمه، وخبرته وعلمه.
قبل عشر سنوات تقريبًا قرر د. حسان حتحوت الرحيل عن العالم العربي والكويت وممارسة المهنة إلى الميدان الذي عشقه ومارسه كهاوٍ وطوال عمره بحب وشغف "الدعوة إلى الله"، ولكن هذه المرة متفرغًا وفي أمريكا الشمالية وفي الولايات المتحدة في لوس أنجلوس مع شقيقه د. ماهر حتحوت الذي أسس منذ سنوات طويلة مركزًا إسلاميًّا.
ونجح د. حسان أيما نجاح في حواراته التليفزيونية ونشاطاته الدعوية حتى أقنع البيت الأبيض بإقامة صلاة لعيد الأضحى، ونجح مع آخرين في احتواء الآثار السلبية المدمرة لأحداث 11 سبتمبر على مسلمي أمريكا، والتي توقع البعض في ندوة حضرتها في (إسلام أون لاين) أن تكون بداية النهاية للوجود الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية.
وقبض ملك الموت روح حسان حتحوت في أمريكا ودفنه أصدقاؤه ومحبوه ومريدوه في تلك الأرض الغريبة، عاش غريبًا ومات غريبًا وكان عجيبًا غريبًا بين أقرانه فطوبى للغرباء، وخالص العزاء إلى زوجته المحبة الوفية الدكتورة سالوناس، وابنته الدكتورة إباء، وإلى شقيقه الدكتور ماهر حتحوت، وقد نعاه المرشد العام الأستاذ محمد مهدي عاكف نعيًا مؤثرًا فقد تتلمذ على يديه، وكان من رفقاء الدرب في قسم الطلاب منذ تولاه الأستاذ عز الدين أبو شادي ثم فريد عبد الخالق ثم أحمد فؤاد جلال قبل أن يتولاه محمد مهدي عاكف.
وقد جاء في النعي: "لقد كان- يرحمه الله- خير نموذج للداعية صاحب الفكر الراقي والأدب الجم والخلق الرفيع والجرأة في الحق والتضحية في سبيل الله، ولا يفوتنا ذكر موقفه الرائع في تركه للعمل بدولة الكويت وذهابه للدعوة في أمريكا.
لقد عرفت الراحل الكريم منذ عرفت دعوة الإخوان ومن أحاديث رفاق الدرب عنه من الدكتور عبد الفتاح شوقي زميل الدراسة، والذي طالما صحبنا أنا وأخي عبد المنعم أبو الفتوح لزيارته في شقتي بعمارة الأصيل على كورنيش النيل بالمعادي.
وعرفته في لقاءاته بالمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، وعرفته في آخر حياته، وهو يعاني المرض الشديد ولا يقوى على المشي، ولكن لم تفارقه روحه المرحة وثقافته الواسعة وفكره الثاقب وتوجيهاته الرائعة.
رحم الله أخانا الكبير حسان حتحوت الذي ارتبط بالدعوة المباركة- دعوة الإخوان- كفكرة ورسالة ولم يتقيد بنظم ولوائح ومواقع، فاحتل مكانه في القلوب- قلوب الإخوان والمسلمين والناس أجمعين- ليس بالمناصب والإداريات بل نفذ إلى لب الدعوة وجوهرها فكان أحد جواهرها القلائل.
إخوان أونلاين 2021
دعوة للتجديد والحب:
كتب د. ناجح إبراهيم يقول:
? أ . د حسان حتحوت رحمه الله من القلائل الذين جمعوا بين أشرف علمين هما الطب والدعوة إلى الله على بصيرة، فقد كان أستاذاً عظيماً لأمراض النساء والتوليد، وهو ممن يستحق بحق لقب الحكيم..
وكل من تأمل كلمات الرجل وكتاباته يدرك استحقاقه لهذا اللقب العظيم .. فكلماته تنطق بالحكمة وعمق الفكرة مع صلاح العمل وكثرة العطاء ومحبة الإسلام والأوطان .
? وقد اهتم د/ حتحوت بالتجديد في الفقه والفكر الإسلامي المنضبط ومن كلماته الرائعة: " ينبغي أن تروض الأمة نفسها على سماع أكثر من اجتهاد وكل منها مقبول .. وقد كتب الشافعي في بغداد ثم كتب من بعد في القاهرة .. فماذا تراه كان سيكتب لو عاش معنا في " لوس أنجلوس " في نهاية القرن العشرين؟" .
? كما يرى د/ حتحوت أن الشروط التقليدية للاجتهاد ينبغي مراجعتها وتعديل بعضها فيقول: " وأرى أن الشروط التقليدية للأهلية للاجتهاد ينبغي أن تراجع .. فالثقافة العامة والدراية بما يجرى في العالم من أحداث وما يجد به من مذاهب .. وما يطالعنا العالم به من كشوف وغير ذلك كثير أصبحت شروطاً أساسية للمجتهد ".
? وينكر د/ حتحوت إنكاراً شديداً على من يتهمون المجددين في الفكر والفقه الإسلامي فيقول : " البعض يحسب التجديد انتهاكاً للأصل أو تغييراً فإذا كانوا على رأي وطالعتهم بغيره انزعجوا بشدة وانطلقت التهم الجاهزة مع أن الجميع يعلمون أن للشريعة ثوابتها التي لا تمس لكن مسائل الفقه تخضع للنظر ولظروف الزمان والمكان والإمكان وبهذا اجتمعت لنا مدارس ومذاهب وسعها المسلمون ما وسعتهم العافية في دينهم وعقلهم ".
? ويعيب د/حتحوت على أهل الخشونة والقسوة والشدة على الناس ويعتبرهم منفرين لا دعاة فيقول: " أهل الخشونة من الدعاة على وجه الإجمال مخلصون وهم صادقون في خدمة الإسلام ولكنهم يحدثون أثراً عكسياً وإن صلحت نواياهم وظنوا أنهم يحسنون صنعاً.. وأنا أعذرهم فذلك مبلغهم من العلم ".
? ويحذر في الوقت نفسه دعاة المرونة والتجديد من المبالغة في دور العقل وأهميته أو يتجاوزا الحدود الواضحة للشريعة باسم الاجتهاد، فيقول لهم " الورع الورع والخشية والحذر " .
? وكان د/ حتحوت يرى أن الديكتاتورية هي آفة الأمة المستعصية، وأنها أصبحت خلقاً متأصلاً في بلاد المسلمين، ولا تقتصر على الحكام وأعوانهم ولكنها كما يقول: "سادت في المجتمع، فأصبحت خلقاً قومياً لا في سدة الحكم فقط، ولكن في مصالح الحكومة والدواوين والأسر والمدارس والمساجد والمراكز الإسلامية والذي نعيبه في حكامنا هو فينا كل حسب موقعه .. والمصلح الإسلامي أو الوطني الحق هو الذي يخلصنا من هذه العقدة".
? ويرى -رحمه الله- أن بناء المدارس الإسلامية في أمريكا أهم من بناء المساجد.. وأن التعليم الإسلامي في الغرب هو الضرورة الأولى لبقاء الإسلام في المستقبل .. ففي أمريكا 1500 مسجد، وكان يود أن لو كانت 1500 مدرسة تؤوي كل منها مسجداً صغيراً.. قبل أن تنفصل الأجيال القادمة للمسلمين عن دينهم وأوطانهم.. ويرى د/ حتحوت أن التعليم الخالي من القيم لا ينشئ تعليماً محايداً كما يزعم البعض إلا من قبيل الحياد بين الذئب والحمل .
? وأهم وآخر نصيحة أسداها د/ حتحوت لإصلاح أحوال المسلمين في العالم هي الحب رغم أنه مات قبل ثورات الربيع العربي التي أتت بعدها رياح الكراهية والاستقطاب السياسي والمذهبي والديني وأسوأ تقاتل حدث بين المسلمين في العصر الحديث يقول د/ حتحوت في آخر حوار له: " النصيحة الصادقة والوصية الجامعة للمسلمين شباباً وكهولاً تتلخص في أمر واحد هو: "الحب".
? لقد خلصت أيضاً إلى ما خلص إليه د/ حتحوت أن الحب لكل الناس بلا استثناء هو العاصم للإنسان وللأمم من التردي في هاوية الكراهية السحيقة والأحقاد والضغائن التي دمرت وستدمر كل شيء .. سلام للدكتور حتحوت في الصالحين وفي المحيا والممات .
رحيل د.حسان حتحوت «طبيب الوسطية»:
كتب عادل القصار :
«لا يأخذ الإنسان معه... إلا الجميل الذي يصنعه ...»
(مثل هولندي)
- ••
تلقيت وأنا في اميركا نبأ وفاة الدكتور حسان حتحوت - رحمه الله- ببالغ الحزن عبر رسالة بالبريد الالكتروني.
فبعد صراع طويل مع المرض عايشه الدكتور حتحوت واقعده عن مواصلة عمله الدعوي الذي نذر نفسه له في الولايات المتحدة الاميركية... اسلم روحه لبارئها عن عمر يناهز 85 سنة يوم الاحد 26-4- 2009 .. ودفن في مثواه الأخير بمدينة لوس انجلوس يوم الاثنين 27-4- 2009 . وبفراقه فقدت الجالية الاسلامية في اميركا علما من أعلام الدعوة كانت في امس الحاجة إلى سماحة فكره وحماسة نشاطه لنشر رسالة الإسلام في مثل هذا الوقت.
لقد عمل د. حتحوت في الكويت لمدة عشرين عاما استاذا بكلية الطب بجامعة الكويت .. ومديرا لمستشفى الولادة.. وعندما اراد الخروج منها للتفرغ للعمل الدعوي في اميركا لم يدعه الامير الوالد الشيخ سعد العبدالله الصباح ـ رحمه الله ـ يترك عمله التخصصي الا بعد الاطمئنان على المكان والموقع اللذين يجد فيهما مصلحة للمسلمين عامة.
وكان له ما أراد فكانت بداية عمله في أميركا عام 1988 وكان هدفه، كما وثقته مراكز البحث المعلوماتي، هو تحويل وجهة نظر الأميركان للمسلمين وإقناعهم بأنهم بشر مثلهم، وذلك أن آلة الإعلام الغربي جعلتهم ينظرون إليهم وكأنهم حيوانات مقززة غير مستأنسة.
فشرع في استخدام ما توفره آلة الإعلان الغربي نفسها من إمكانات؛ إذ بدأ بتسجيل برامج تلفزيونية في أشكال مختلفة تعمل على تقديم الإسلام بشكله الصحيح، وإذاعتها في أوسع دائرة ممكنة.
وقام بإلقاء محاضرات في المحافل كافة، وذلك لعرض الإسلام .
كان الأمر الأكثر تأثيرا هو العمل على تقديم النماذج الإسلامية الصحيحة سلوكا وعملا بين أفراد المجتمع الأميركي، فكان د. حتحوت ـ رحمه الله ـ نموذج المدير المسلم الناجح في عمله، والملتزم بدينه في الوقت ذاته، هو الدافع وراء التغيير التدريجي في تعامل الأميركيين مع المسلمين.
كما نجح في عقد تحالفات مع تنظيمات اجتماعية مختلفة، وكذلك مع تنظيمات دينية مختلفة، وذلك في الأمور التي تتفق مع وجهة النظر الإسلامية.
ونجح د. حسان ـ رحمه الله ـ ورفاقه في حمل الإدارة الأميركية على الاعتذار في وسائل الإعلام المختلفة عن إهانة وجهت للمسلمين والإسلام باعتبارهم «إرهابيين» وبصورة خاصة اعتذار لمسلمي أميركا.
كذلك نجح في صد هجوم اللوبي الصهيوني ضد أحد المسلمين المرشحين للجنة استشارية رسمية لمكافحة الإرهاب.
كان ثمرة من ثمرات هذا الجهد المبارك أن أقام التحالف الإسلامي شعائر صلاة العيد (عيد الفطر لعام 1999) في حديقة البيت الأبيض الأميركي بحضور زوجة الرئيس الأميركي وابنته؛ حيث تدرس الابنة الدين الإسلامي.
ويعرف د. حسان حتحوت نفسه بانه: إنسان محب، ويحب الحب...فيقول: إذا كانت المسيحية الحقة ترتكز على القول «إن الله محبة»؛ فأنا كذلك أرى أن الله أوجز الإسلام كله في كلمتين عندما خاطب نبيه عليه الصلاة والسلام، فقال له: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إ.لاَّ رَحْمَةً للْعَالَم.ينَ».
ويفتخر د. حتحوت ـ رحمه الله ـ بانه اتخذ من مقولة حسن البنا ـ رحمه الله ـ: «سنقاتل الناس بالحب»... مبدأ اساسيا لحياته.
وللفقيد مقولة دعوية مشهورة- حبذا لو يفقهها دعاة اليوم- يقول فيها «عقدي مع الله عقد التزام بعمل وليس عقد بنتيجة.. وهي ان نجلي الاسلام للناس على وجهه الصحيح.
وللاسف الشديد حين اتطلع شرقا وغربا أرى ان ذلك غير قائم بعد. وان العاطفة الدينية ادت الى كره والى غضب والى عصبية واحيانا الى افتئات على الدين بما ليس فيه.. و حماس قد يؤذي احيانا. علينا ان نحتمل هؤلاء وهؤلاء وان نقول ما لدينا... والله يقضي بيننا يوم القيامة ان شاء الله.
- •• لاطلاعي القريب على فكر وسلوك وسيرة تعامل الدكتور حسان حتحوت ـ رحمه الله ـ ومن واقع قربي الشديد منه اثناء تفضله بالمشاركة في مؤتمر الوسطية الذي عقدته الكويت بواشنطن في نوفمبر عام 2006 ... اطلقت عليه منذ ذلك الوقت لقب... «طبيب الوسطية»... لما يحمل هذا الرجل من ملكة طبية سخرها بتشخيص ومعالجة امراض الفكر والاعتقاد والتعامل البشري... فكان بحق رمزا من رموز العمل الاسلامي في اميركا.
- •• • آخر العنقود:
الدكتور حسان حتحوت:
الطبيب.. الأستاذ الاكاديمي.. المفكر.. الأديب.. السياسي.. الاعلامي.. المجاهد.. المعتقل.. الداعية... رحمك الله رحمة واسعة، وأدخلك فسيح جناته.. وألهم أهلك ومحبيك الصبر والسلوان على فراقك...
«إنا لله وإنا إليه راجعون».
«فهل من مدّكر؟»...
عادل القصار – أميركا
وأخيرا:
اللهم اغفر لعبدك المحب لك ولخلقك حسان حتحوت، وتقبله في عبادك المقربين، واسكنه الفردوس الأعلى مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واجزه خيرا عما قدم لدينه وأمته، واخلف أمتنا فيه خيرا.
واجعله ممن رضيت عنهم، ورضوا عنك. آمين.
المراجع:
١- حسان حتحوت: العقد الفريد (1942-1952).. عشر سنوات مع الإمام حسن البنا، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1421?- 2000م.
٢- موقع إسلام أون لاين: 10/3/2001م.
٣- جريدة الخليج: الإمارات، 8/ 11/2004م.
٤- صحيفة اليمامة العدد 1853 - 23/4/2005م.
٥- صحيفة الشرق الأوسط العدد 8071، الثلاثـاء 6 شـوال 1421 هـ/ الموافق 2 يناير 2001م.
٦- جريدة الوطن الكويتية: 27/4/2009م.
٧- مقال: حسَّان حتحوت عمرُ من العطاء,بقلم: د. عصام العريان, موقع إخوان اون لاين.
٨- مقال: حسان حتحوت.. الطبيب الداعية- بقلم: عبده مصطفى دسوقي, موقع إخوان اون لاين.
٩- مقال: المرشد العام يحتسب عند الله د. حسان حتحوت, موقع إخوان اون لاين.
١٠- مقال: حسان حتحوت.. جبل من التسامح النبيل - بقلم: د. خالد فهمي, موقع إخوان اون لاين.
١١- مقال: الحوار أم المواجهة؟ !بقلم د. حسان حتحوت ,موقع إخوان اون لاين.
١٢- مقال: حسّان حتحوت: سنقاتل الناس بالحب ,موقع اسلام اون لاين.
١٣- مقال: حسان حتحوت.. طبيب من زمن الحب ,موقع اسلام اون لاين.
١٤- برنامج: حسان حتحوت.. مد جسور بين المسلمين وغيرهم, مقدم الحلقة: سامي كليب - الجزيرة.
١٥- موقع الشيخ د. يوسف القرضاوي.
وسوم: العدد 999