الشيخ الرباني عبد الرحمن عيروط
خالد محمد عبد الله
في صباح يوم الجمعة 24/11/1416هـ الموافق 12/4/1996م تلقى المسلمون في المنطقة الساحلية بسورية نبأ وفاة العالم الزاهد الرباني الشيخ عبد الرحمن عيروط - رحمه الله- عن عمر يقارب الثمانين عاماً، بعد أن عانى من التعب والمرض لعام كامل مقابلاً ذلك بالصبر على البلاء والشكر على العطاء، وكم كان النبأ عظيماً والمصاب فادحاً على العلماء العاملين والدعاة المخلصين والمسلمين أجمعين، وقد أخرت جنازته إلى ما بعد صلاة العصر حتى حضر علماء دمشق، وحلب، وحمص، وحماة، واللاذقية لتشييع جثمانه الطاهر.
وموت العلماء خسارة كبيرة للأمة المسلمة، يتركون فراغاً كبيراً بوفاتهم وخاصة إذا كانوا من العلماء العاملين، والدعاة المخلصين الذين لا يخافون في الله لومة لائم.
وأمثال هؤلاء يصدق فيهم قوله تعالى: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً".
بطاقة تعريف
ولد الشيخ عبد الرحمن في بانياس الساحل عام 1918م وهي بلدة صغيرة مطلة على البحر المتوسط، والده الشيخ محمد عيروط الذي كان يعمل حائكاً ومحفظاً للقرآن الكريم، حفظ ولده عبد الرحمن القرآن الكريم وعمره عشر سنوات، وبعد ذلك أرسله للدراسة الشرعية في المدرسة الخسروية في مدينة حلب شمال سورية، فتخرج بعد ست سنوات ونيف وعُيِّن مدرساً للقرآن الكريم والعلوم الشرعية في قرية بُراق، من أعمال حماة، وإماماً في القرية، ثم رَجَعَ إلى بلدته بانياس بعد وفاة والده ليكون مدرساً وإماماً وخطيباً وداعية من دعاة الحق.
تجول في القرى يدعو إلى الله وبقي أكثر من خمسين سنة إماماً وخطيباً ومدرساً في المسجد، كان له في اليوم درسان، درس صباحي بعد الفجر، ودرس مسائي بعد المغرب يدرس الفقه الحنفي والحديث والسيرة النبوية والعقيدة دونما كلل أو ملل، وأعظم شيء هو تدريسه للتفسير بعد صلاة الفجر من كل يوم خميس، وكان يدرس تفسير في ظلال القرآن لسيد قطب - رحمه الله-.
بقي أكثر من ثلاثين عاماً وهو يشرح في ظلال القرآن للناشئة، فكثر رواده وكثر تلاميذه، وكان يقول: "لقد أشرق قلب سيد في السجن فأشرقت كلماته وعباراته في تفسيره العظيم وبإخلاص سيد فتح الله عليه فتوح العارفين".
كان الشيخ رحمه الله رجلاً متواضعاً رقيقاً ليِّناً يذكر الله في كل أحيانه وقيامه لليل لم ينقطع في مرضه الأخير، وما فتئ يذكر الله كثيراً ويجيب دعوة من دعاه، ويحضر أفراح المسلمين وجنائزهم ويغتنم الفرصة فيتكلم ويدعو، وكأن الناس على رؤوسهم الطير، وكان للغة العربية نصيب وافر في دروسه، كان يخصص يوم الخميس بعد صلاة العصر لمن يحب العربية، فقد كان الشيخ رحمه الله ذواقة للشعر والأدب.
قد يتساءل المرء كم كان يتقاضى أجراً على عمله وتدريسه العلوم الشرعية بالمسجد صباح مساء، وعلى إمامته وخطبته، فلا تعجب، إذا قلنا: إنه لم يأخذ أجراً دنيوياً لا درهماً ولا ديناراً بل كان يكتفي براتبه القليل الذي يأخذه من وزارة المعارف، لقد كان يتاجر مع الله سبحانه والتجارة مع الله رابحة أضعافاً مضاعفة، ويبارك الله له في القليل من ماله.
شهادة أهل العلم فيه
لقد سئل الشيخ محمد الحامد العالم الرباني الجليل شيخ حماة وفقيهها عن الشيخ عبد الرحمن فقال ما نصه: "إنه رجل صالح وطيب القلب".
وكان الشيخ سعيد حوّى لا يتكلم البتة في حضرة الشيخ ويقول: أيفتى ومالك في المدينة؟!.
وقد رأيت بعيني كيف قبَّل الشيخ سعيد حوّى يد الشيخ عبد الرحمن عندما كنا في زيارته، فحاول أحد تلاميذ الشيخ عبد الرحمن أن يقبل يد الشيخ سعيد فجذَبها فسأله الرجل: لم هذا يا شيخ سعيد؟ فقال بالحرف الواحد: "عندما نصلُ إلى مرتبة هؤلاء العارفين نسمح لكم بتقبيل أيدينا، الزموا شيخكم هذا واعرفوا قدره".
لم يؤلف الشيخ كتباً ولا سوّد صحائف ولكنه ألف قلوباً وربى رجالاً وعلم أجيالاً، فترك بصمات واضحة في قلوب الرجال وعقولهم، بل حتى النساء اللواتي بكين عليه أشد ما يكون البكاء.
إن خروج ما يربو على عشرة آلاف رجل توديعاً له وتشيعاً لجنازته هو رد للجميل وعنوان للمحبة وصدق الولاء لهذا الدين ولعلماء الدين، وهذا من المبشرات، فعلى الرغم من الكيد المستمر والعداء المنظم ولتسخير الإعلام المقروء والمسموع والمنظور للصدّ عن دين الله وعن علماء الأمة ودعاتها، ولتنفير الناس منهم ومن دعوتهم، على الرغم من كل هذا وذاك خَرَجَت هذه الجموع الغفيرة تعطي ولاءها لعلماء الأمة ودعاتها الصادقين حتى بعد وفاتهم، وهو دليل ومبشر على العودة الصحيحة والوعي السليم والحب العميق والإيثار الواضح لأهل الفلاح والتقى من الرجال الربانيين في زمن قلَّ فيه الرجال.
رحم الله الشيخ عبد الرحمن وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً.