مي زيادة كاتبة صقلتها المعاناة
د. حبيب بولس
مي زيادة في سطور:
تحتفل الأوساط الأدبيّة بمرور مئة وخمسة وعشرين عاما على ميلاد الأديبة الكبيرة مي زيادة، ومي زيادة كما هو معروف لنا جميعا ولدت في الناصرة عام "1886" لأب لبناني هو "الياس زخور" من قرية "شحتول" قضاء كسروان، ولأم نصراوية هي "نزهة معمر".
قضت مي في النّاصرة ثلاث عشرة سنة، وما إن أطلّ عام 1900 حتى تركتها طلبا للعلم في مدرسة "عينطورة" في لبنان، حيث أقامت هناك مدّة خمس سنوات.
أنهت مي دراستها في الثّامنة عشرة من عمرها وعادت إلى الناصرة عام 1904.
في النّاصرة سيطر عليها الفراغ فأغرت والديها بالرّحيل إلى مصر حيث تتوفّر هناك الإمكانيّات المفتوحة. إستجاب الوالدان لرغبتها وهاجر ثلاثتهم إلى مصر ولاقى الوالد هناك نجاحا إذ عمل محرّرا في صحيفة المحروسة التي أصبحت فيما بعد ملكا له. وفي مصر وجدت مي ضالتها، فعكفت على القراءة والمطالعة والدّرس والكتابة في الصّحف، إلى أن صدر ديوانها "أزاهير" حلم عام 1911، فلمع اسمها في سماء الأدب واشتهرت، وبدأ المفكّرون والأدباء يتقرّبون من الأديبة النّاشئة ويتبادلون معها الودّ والإعجاب.
بعد أن اشتهرت مي وأصبح اسمها معروفا فتحت بيتها لاستقبال المفكّرين والأدباء، فكانت لصالونها الأدبي شهرة كبيرة إذ أنه أصبح منتدى يؤمّه معظم روّاد الحركة الأدبيّة والثّقافيّة والفكريّة والإجتماعيّة في مصر، حيث هناك كانوا يتلاقون لتبادل الآراء والنّقاش في أكثر المسائل إلحاحا في ضمير العصر. وكانت مي الشّابة اللاّمعة اللّبقة المثقفّة المفكّرة الّتي تدير تلك النّدوات بمهارة محطّ إعجاب الجميع كمصطفى الرافعي، وطه حسين، وأنطوان الجميّل، وإسماعيل صبري، وسلامة موسى وغيرهم.
وهكذا لعب صالون مي الأدبي دورا مهمّا في الحياة الأدبيّة والفكريّة في بداية العصر.
ويكون أن تتعرّف مي بواسطة المراسلة وبمبادرتها على الأديب جبران خليل جبران فيقع كلاهما في حب لم يثمر. وفي خضم شهرة مي تتعرّف على قادة الحركة النّسائيّة في حينه كهدى شعراوي وملك حفني ناصف وغيرهما وذلك من خلال دراستها في الجامعة المصريّة، فتنخرط مي في هذه الدّعوة حتّى النّخاع، ولكن في أواخر العشرينات ومطلع الثلاثينات يموت والدها وتموت أمّها ومن ثمّ يموت جبران، فتكبس على مي أزمة نفسيّة حادّة أدّت إلى إصابة أعصابها. فتترك مي مصر لتتعالج في مشفى في لبنان هو "العصفوريّة" مشفى الأمراض العقليّة والعصبيّة، وتقضي هناك فترة من أصعب فترات حياتها، حيث وقفت على طمع أبناء عائلتها في ثروتها وعلى معاملتهم السّيّئة لها.
غادرت مي مشفاها بعد أن ثبت شفاؤها وعادت إلى مصر واستمرّت في مزاولة نشاطها ولكن في عام 1941 أصابها مرض فارقت على أثره الحياة وهي في قمّة عطائها.
بموت مي تنقضي حقبة زمنيّة مهمّة من الحقبات الفكريّة والأدبيّة في تاريخ حضارتنا الجديدة. وليس اهتمامنا بمي لكونها نصراويّة فقط، بل لأنّها ذات شخصيّة ثقافيّة متعدّدة الجوانب فقد كانت كاتبة وشاعرة وخطيبة ومترسّلة وناقدة اجتماعيّة وصحفيّة وصاحبة صالون أدبي. أي أنّها كانت شخصيّة ذات أثر كبير في الحياة الثقافيّة المصريّة في النّصف الأوّل من هذا القرن، كما أنّها كانت أحد الأسماء البارزة في حركة التّجديد الاجتماعي والأدبي وعلما بارزا من أعلام النّهضة النّسائيّة التّحرريّة.
في هذا المقال سنحاول الوقوف على الجانب الأدبي فقط من جوانب نتاج مي زيادة المتعدّدة، لنرى أهمّيته وأثره على النّهضة الأدبيّة العربيّة الحديثة.
مي زيادة الأديبة:
الألم زيت العبقريّة، والمعاناة فتيلها الملتهب، فحين يتعمّد الإنسان في جرن من الألم حين يتمسّح بميرون المعاناة ويتسربل في سكونيّة الوحدة، حين يتم كلّ ذلك، يتخاصم مع العالم ولا يتصالح معه أبدا إلاّ إذا أفرز حزنه وألمه قطعا فنيّة ليس مهمّا نوعها، عندها يعود فيتصالح مع العالم من جديد وترتدّ إليه حالته الطّبيعية، يبسم ويضحك ويستقبل الدنيا هاشا باشا، وتكتنفه السّعادة، إلى أن تأتي السّاعة فتنعاد الكرّة مرّات ومرّات. "ومي زيادة لم تستطع أن توفّق في شيء قط، بين واقع الحياة وما تتطلّع إليه من هناءة، ولا تحلّلت قط من القيود والأغلال الّتي تنسجها العاطفة داخل الذّات مع الأيّام، فعاشت أيّامها مغلولة، قلقة، معذّبة، وسرت مرارة الواقع في بدء وعيها إلى كيانها فعطّلت بهجة الوجود في عينيها، وشوّهت صورة الحياة في نفسها، وراحت إزاء هذه الحالة تتخبّط ولا تحسن الخروج مّما ارتطمت به على كرّ الأيّام، ومرّ الأعوام، حتّى أصابها ضرب من الخبال"(1).
ولأنّها كانت كذلك أصبحت فنّانة تتقن التّعامل بالأحرف فتأتيها الكلمات طائعة منقادة، فتزيل ما علق بها من شوائب، وتغربلها وتنتقي منها الطّيب والجميل وتضبطها في نغمات لا أحلى ولا أجمل، وتلفها بشريط من قطيفة حمراء دافئة ناعمة، وترشّها بماء الورد فإذا هي قصائد ومقالات، رسائل وخطب، أبحاث ومذكّرات، قصص وحكايات وهي في كلّ ما تكتب تحلّق بنا في مناخات أدبيّة وفكريّة نلامس فيها الأقمار، فيكون حب، ويكون دفء ويكون في النّهاية تطهير.
إذن مي زيادة فنّانة صاغها الألم والحزن وصقلتها المعاناة وفجّرت عطاءها الكآبة. فما هي العوامل الّتي أثّرت عليها كأديبة؟ وما هي أنواع هذا الأدب؟ سماته ومميّزاته؟
في الواقع عوامل عديدة تضافرت في تكوين شخصيّة مي الأديبة، ونحن إن أردنا تقصّي هذه العوامل علينا أوّلا أن نهتمّ في العصر الّذي فيه عاشت لأنّه ما من أديب يعيش في فراغ، إنّما هو نبت عصره، ينفعل بما فيه، يتأثّر ويؤثّر، أي هو ليس نبتا شيطانيّا منبتا عن عصره، مبتورا عنه فما هي إذن سمات هذا العصر الّذي عاشت فيه أديبتنا مي زيادة.
كانت لحياة مي في مصر أهميّة خاصّة، ففي مطلع القرن العشرين جاشت بمصر حركة وطنيّة فكريّة تدعو إلى نهضة على جميع الأصعدة، وذلك على أثر الصّيحة الّتي أطلقها قاسم أمين ولطفي السيّد وآخرون في حينه.
وقد شاع بمصر آنذاك اتّجاه عقلاني أوقع قطيعه مع الاتّجاهات السّابقة، دعا إلى الموضوعيّة فكان من ثمراته إنشاء الجامعة المصريّة في مطلع هذا القرن. كما عاشت مصر جوّا من الصّراع بين القديم والحديث خرج منه التيّار المتطوّر الصّاعد غالبا، فتغلغلت الأفكار الأوروبيّة واصطبغت الحركة الفكريّة والاجتماعيّة بدعوات التّجديد الّتي كان من مشجّعيها معظم من عاشرتهم مي في صالونها من الروّاد كلطفي السيّد وسلامة موسى، طه حسين، وأنطون الجميّل وآخرين.
وكان من الطّبيعي إذن أن ينتشر في مصر مناخ فكري جديد وتربة صالحة أفادت منهما مي كلّ الإفادة. فها هي تقول:"إلى أن انتهت الحرب الكبرى وقامت الحركة الوطنيّة المصريّة، هنا كانت يقظتي الأدبيّة الصّحيحة والخلق الجديد الّذي أمدّتني تلك الحركة بروحه." (2) أضف إلى ذلك ما كانت تكنّه مي زيادة للشّرق من حبّ وحماسة صادقة في تغييره مخلصة في ترقيته وإعلاء شأنه يقول أنيس المقدسي:" كانت مي تجمع في حبّها للشّرق بين حماسها لماضيه، وتبشيرها بأمجاده القديمة، وبين أسفها الشّديد لما تراه من تأخّره في مضمار العلم والحضارة. إنّها لم تكن عمياء عن عيوبه ونقائصه. فقد رأته مغلولا بتقاليده القديمة، وشاهدت فيه تفاوت الطّبقات، وحزّ في نفسها ما كان يسوده من اختلال في الأحكام واستبداد الأقوياء بالضّعفاء. ولكنّها لم تيأس، ولم يتلاش إيمانها بما في الشّرق من قوى روحيّة كامنة، فكرّست قواها لإثارة هذه القوى، وأطلقت لسانها وقلمها منشدة له أناشيد العلى، ولم تر بأسا في مستقبل النّهضة المرتجاة من أن يقتبس أساليب العمران الحديثة، وأن ينتفع بما توصّل إليه الغرب من تطوّر في الحياة العلميّة والاجتماعيّة".3
إذن كان عصر مي وحبّها لشرقها عاملين أثّرا فيها أبلغ تأثير.
عامل آخر لعب دورا في تكوين شخصيّة مي، هو كونها وحيدة أبويها. ونحن من خلال استقرائنا لحياة مي ونتاجها، نجد أنّ هذا الشّعور بالوحدة سيرافقها مدي حياتها. فقد كانت مي متوحّدة، بمعنى أنّها بعيدة عن الاندماج بمن حولها، وهذا الأمر جعلها كئيبة تشعر بالمرارة وبالنّفرة من الوجود تقول مي:
" دعوني أيّاما، فإنّي لا أودّ أن أسمع إلاّ الحفيف الموسيقي الحنون الّذي تتنفّس به هذه الجبال، ألا ابعدوا عنّي، ولو حينا أصوات البشر التي تتبطّن الحسد والحقد والغل (4).
ولعلّ عاملا مهمّا آخر لعب دورا كبيرا في حياة مي هو لأدب الفرنسي الرّومنطيقي، فقد كانت مي زيادة مولعة بهذا الأدب وبأعلامه مثل: "لامرتين" و "مدام سفينيه" و "مدام دي ستال" و "جورج صاند" و "شاتوبريان وغيرهم"، وما هذا الولع إلاّ لأنّها وجدت في أدبهم ما يشبه نفسيّتها الكئيبة الحزينة المتألّمة. يقول د. جميل جبر:" تتلمذت مي على الرّومنطيقيّة في كلّ أجوائها ولا سيّما بيرون، ولامرتين، وموسيه وشلي وغوته وشاتوبريان وجبران... والمعرى، فألفت تعاطفا بينها وبينهم فغبت من معينهم على غير ارتواء". (5).
عامل آخر كان له التّأثير الكبير على شخصيّة مي وأدبها هو الهيام بالطّبيعة. فمي قضت فترة من شبابها في لبنان، فكان من الطّبيعي أن تأخذ الطّبيعة مكانة هامّة في تكوين شخصيّتها وأدبها. فقد كانت مي نزاعة إلى الطّبيعة، وقد كان في الأدبين: العربي والفرنسي، ما يشدّها إلى جمالها، وحبّ الطّبيعة والهيام بها، كما هو معروف أساس من أسّس الرّومنطيقيّة الّتي نشأت عليها مي في الكتب وغذّتها في نفسها طبيعة الأنوثة تقول:" إنّي أحبّ أن أراقب السّماء كلّ مساء، وأنظر إلى النّيران السّاطعة، وأرحّب بالهلال الذّهبي البادي كأنّه منجل يحصد الكواكب الوهّاجة الّتي نراها تنسلّ خفية في الرّقيع الأزرق الشّاسع فوق رؤوسنا الصّغيرة... إنّي لأشغف بسماع تغاريد الطّيور قرب وكناتها وأهوى أنغامها الغراميّة بين الأوراق الخضراء" (6).
وثمّة عامل آخر كان له هو الآخر أثر كبير على أدب مي، هو القرآن الكريم بسحر بيانه وإعجازه، وقد علّمها القرآن وتفسيره أستاذ الجيل لطفي السيّد، فمن القرآن اكتسبت مي لغة عربيّة متينة، وبيانا قويّا.
ولعلّنا نقف مشدوهين أمام عامل آخر، من العوامل الّتي أثّرت على مي زيادة، هو عامل معرفة وإتقان العديد من اللّغات. فقد أتقنت مي تسع لغات هي: الفرنسيّة، الإنكليزيّة، الألمانيّة، الإيطاليّة، الإسبانيّة، اللاّتينيّة، اليونانيّة، السّريانيّة هذا طبعا إلى جانب لغتها العربيّة.
هذه الظّاهرة تجعلنا نفهم ميّزة الشّموليّة الّتي اتّسم بها نتاج مي.
وعامل أخير يجدر بنا أن نذكره لأنّه ترك هو الآخر بصماته على شخصيّة مي وأدبها. ذلك هو الاضطراب الّذي تحلّت به نفسيّتها. "لقد عاشت مي في صراع مع عالمها، فكانت تعيش بالفكر في عالم وبالواقع في عالم آخر، وعجزت أن تنقل فكرها إلى واقعها أو أن تنقل واقعها إلى ما يطمئنّ إليه فكرها، وهكذا سيطرت عليها الكآبة" (7).
وقد توّج حزنها موت والديها وثمّ موت جبران خليل جبران، فأخفقت والتفّ ذهنها بضبابيّة وتسربل بظلام قاتم، فغرقت في دوّامة الاضطراب، وقد لاحظ عبد اللّطيف شرارة في دراسته حول مي أن نفسيّتها كانت مزدوجة وإنّ أدبها نفسه اتّسم بتلك الازدواجيّة نلمس هذا في عناوين كتبها الّتي تقع بين النّقائض فنجد مثلا: "ابتسامات ودموع" "ظلمات وأشعّة" "بين المدّ والجزر".
وهكذا أصبحت مي مع الزّمن شغوفا بتلمّس الجانب المؤلم من الحياة فلا يخالجها الشّعور بالحياة حتّى تفكّر بالموت، ولا يغمرها الصّباح حتّى يخيّم على ذهنها شبح المساء، ولا يؤاتيها الحب حتّى تلمح في مطاويه عذاب البغض (8).
تقول مي: " كنت أكتئب لغيرما سبب، وأكتئب للعوامل الدّافعة بالاجتماع، حتّى إذا احتميت بحمّى الطّبيعة وألقيت عليها اتّكال روحي، رافقت الكآبة حبّي واتّكالي".
إذا كانت جميع هذه العوامل على كثرتها قد أثّرت في تكوين شخصيّة مي، فمن الطّبيعي إذن أن ينعكس ذلك في إنتاجها. والدّارس لنتاج مي تلفت نظرة سمة رئيسيّة اتّسم بها، هي سمة الموسوعيّة فنتاجها غزير متنوّع تنتقل فيه من شعر إلى قصّة ومن ترجمة إلى خطبة ومن دراسة إلى بحث فكري أو إجتماعي، تاريخي أو فلسفي، ومن رسائل إلى مقالات ومن مذكّرات إلى محاضرات.
يقول سلامة موسى معلّلا هذه الوفرة وهذه الموسوعيّة "ففي مي شيء كبير من عمق الإحساس وبسطته فهي تفهم بنبوغها عقليّة الرّجال كما تفهم بطبعها عقليّة النّساء، ومن هنا ندرك اهتمامها بجملة موضوعات أدبيّة واجتماعية (9).
مهما كان نتاج مي غزيرا ومتنوّعا وموسوعيّا سنحاول باختصار استجلاء مكنونة واستبطان خباياه، فلنبدأ أوّلا بالشّعر:
تركت لنا مي زيادة في الشّعر ديوانا واحدا نظمته بالفرنسيّة، كان باكورة إنتاجها سمته- أزاهير حلم- تقول:" في مشاهد لبنان الجميلة حيث هناك تقبع الجنائن المزدانة بمحاسن الطّبيعة الضّاحكة، والجبال المشرفة بجلالها على البحر المنبسط، عند هاتيك الأكمام الوادعة، كنت أسرح الطّرف بين عشيّة وضحاها وأنا طفلة صغيرة بمدرسة عنيطورة، فكانت توحي إلى نفسي معاني الجمال، فتفيض بها شعرا في أوقات الفراغ وأثناء الدّرس حتّى اجتمع لي منه مجموعة بالفرنسيّة سميتها- أزاهير حلم- ونشرتها بإمضاء إيزيس كوبيا سنة 1911، في مصر" (10).
نفهم ممّا تقدّم أنّها نظمت ديوانها في سنّ مبكّرة، أي في فترة شبابها الأولى، لذلك من الطّبيعي أن تفوح من أشعار ديوانها رائحة تشبه رائحة قصائد الرّومنطيقيّين في القرن التّاسع عشر، وطبيعي أيضا أن نرتطم في الدّيوان، بالأحلام المحلّقة. والدّموع السّاخنة، والعواطف الملتهبة، والخيال المجنح، والتأمّلات الضّبابيّة.
" لقد ضرج الخريف أوراق الشّجر، بقبلته المريضة الحرّة. ونسيمه الرّخو يردّد أنغامه محاولا تخفيف الكآبة. السّماء تبكي على الغاب، والعصفور يحنّ إلى الشّاطئ والعشب يرتعش فوق الجبال وكأنّه ارتعاش الجدول كلّ حين" (11).
إنّ أوّل ما يلفت النّظر في شعر مي حضور شخصيّتها سواء كان ذلك في وجودها الحسّي أم في إنعكاسات ذاتيّتها. والقارئ يستجلي نفسيّة الشّاعرة وأجواءها وذلك في تفاعل تلك النّفسيّة مع مشاهد الطّبيعة:" يا هذه البريّة! يا هذا الخلاء في لبنانّ إنّي لألقي على كلّ صخر من صخورك، تحت كلّ شجرة من أشجارك، في كلّ مذهب من مذاهب اوديتك، نثرات من كياني: أنثر الابتسامات والزّفرات، والأحلام والأغاني، والآمال والإعجاب والتّأمّل" (12).
وما يميّز ديوانها هذا على غرار الرّومنطيقيّين الكآبة الإنسانيّة والحزن والألم. فقد شكّلت الطّبيعة بمشاهدها مرآة تعكس كآبتها وتتمثّل بها وتتعايش معها:" حزينة اليوم روحي، وحزنها القاتم مؤلمي، فعلام الإكتئاب؟ أيّها الإله لماذا وضعت في عيني الإنسان هذه العبرات وقضيت بألّا تجف ولا تنضب" (13). وكأبة مي تحمل في طيّاتها الألم العميق، فكآبتها والألم يشكّلان ثنائيّا في شعرها ولكنّه ثنائي يتحلّى بالصّبر:" ما أشرفك أيّتها النّفس الّتي تجرّدت من الثّروة! وأنت أيّتها النّفس الجبّارة الّتي لا تحطّمها أحداث الدّهر وما أسمى شموخ الأنف الّذي لا يذلّه الفقر! وما أنبل القلوب الّتي تثقلها الآلام ولا تخنع" (14).
كلّ ما جاء من وصف للطّبيعة في ديوانها استوحته مي من طبيعة لبنان الفاتنة، تلك الطّبيعة الّتي شغفت بها حتّى النّخاع:" إنّنا قاصدون لبنان فهلمّ إليه. وانتظرت السّفر بفارغ الصّبر طوال أسابيع. دقّ قلبي ليذوب حنينا إلى المياه وإلى الجبال، بل إنّ قلبي فارقني وأخاله أفلت من صدري وسبقني إلى اليم الفسيح ليتلاشى بين أمواجه المضطربة" (15).
هذه هي مي زيادة في شعرها فنّانة محلّقة في أجواء سحريّة، تعرف كيف تجعل لفظها أنيقا تفوح منه العاطفة ويعبق بالألم والكآبة وترشح منه الأنوثة.
يقول أنطون الجميّل عن هذا الشّعر:" إنّ شعرها مجموعة أزهار عطريّة نبتت في رياض من الأحلام الجميلة" (16).
كما ويقول الشّاعر الكبير خليل مطران عن "أزاهير حلم" :" قرات أزاهير حلم فتمثّل لدي قفص من الذّهب يتحرّك في داخله ويتنقّل بين أسلاكه اللّامعة عصفور صغير ملوّن الرّيش، مرح كلّ المرح كأنّه يضرب بأجنحته الصّغيرة جوانب هذا القفص الذّهبي ليفلت من قيود أسلاكه وينطلق منه إلى الجوّ الفسيح لأنّه لا يطيق الاحتباس ولا يقدر أن يكون سجينا في مكان ضائق بأمانيه في الحياة" (17).
لقد كان الشّعر في عصر مي يتشكّل بأشكال الكلاسيكيّة ويقلّد في معظمه شعرنا القديم مبنى ومعنى ويدور في غالبيّته على مواضيع بعيدة عن أرضيّة الواقع وتخلو من ذاتيّة الشّاعر وكان لمي زيادة مع روّاد الحداثة دور في إنتشال هذا الشّعر من دائرة التّقليد والارتفاع به إلى التّعبير عن ذاتيّة الشّاعر وإزالة كلّ ما علق به من شوائب ودسم وورم. وكفى مي هذه المشاركة في تطوير شعرنا العربي في حقبة كانت حاسمة في حياته. وإذا كانت هذه هي مميّزات شعر مي، فماذا مع فنونها الأدبيّة الأخرى؟
إذا قرأنا كتاب مي "سوانح فتاة"- أي كتاب مذكّراتها. نعثر على أفكار متشعّبة تكشف جوانب شتّى من شخصيّة مي وذلك بعبارات أنيقة ولغة سليمة الصّياغة منتقاة الألفاظ، وأسلوب صحيح واضح شعري، للرومنطيقيّين أثر كبير عليه،كما إنّنا نلمس في الكتاب الرّوح النّسوي الصّادق العفوي في أسلوب بسيط سلس يخلو من العمق (18).
أمّا في رسائلها- وهي كثيرة- وأهمّها تلك الّتي تداولتها مع جبران خليل جبران الّذي يقول عن رسائلها إليه:" ما أجمل رسائلك يا مي وما أشهاها، فهي مثل نهر من الرّحيق يتدفّق من الأعالي ويسير مترنّحا في وادي أحلامي (19).
في رسائلها تأثّرت مي بالكاتبة الفرنسيّة "مدام دي سفينيه الّتي أخفقت في حبّها فلجأت إلى تحبير الرّسائل متنقّلة في أقطار أوروبا. وتمتاز رسائل مي في كونها تعتمد على عنصر التّشويق. ثمّ إنّ القارئ يلاحظ فيها حضور شخصيّتها، كما أنّها كانت تعمد دائما إلى إثارة قضيّة أو التّعريف بموضوع ثقافي أو أجتماعي في معرض الأخبار والتّندّر والأسلوب الممتع" (20).
لقد كانت رسائل مي عميقة بلا ثرثرة فارغة يقول عنها أنطون الجميّل:" رسائل مي يجب الاحتفاظ بها لأنّها نوع جميل من أدب الرّسائل في الأدب العربي، ففي الأدب الفرنسي رسائل لأمثال فلوبير وفولتير وغيرهما وفي هذه الرّسائل نستطيع دراسة الكاتب أكثر من دراسته في مؤلّفاته" (21).
أمّا في الخطابة الّتي لمعت فيها مي منذ الحداثة فقد عالجت مواضيع كثيرة: فكريّة وفلسفيّة وتاريخيّة وفنيّة، وما يميّز هذه الخطب النّزعة العلميّة والاطّلاع الواسع على الثّقافتين العربيّة والأوروبيّة، والمعرفة القائمة على الدّرس للفلسفة القديمة والحديثة كلّ ذلك جاء في خطبها في سياق منهجي بليغ وفي أفكار متجانسة متسلّلة، ومعاني واضحة غير معقّدة وألفاظ غير مقعّرة ذات جرس حلو وجمل متوازنة وكلمات أنيقة تشهد على أنّها فنّانة ذات ذوق رفيع. وهذا ينطبق أيضا على مقالاتها الكثيرة المتنوّعة. يقول د. جميل جبر:" كانت مي خطيبة سليمة الذّوق تشخّص الدّاء قبل أن تصف الدّواء. وتوجّه إلى الجمهور بلسان الجمهور. أمّا كلامها فكان يخلو من معرة اللحن، وإشاراتها كانت عفويّة رشيقة، وصوتها لم يكن بالأجش الخشن ولا بالضّعيف أو الحاد، بل كان حارّا رخيما يحمل سرّ مغنطيسيّتها الشّخصيّة. وعيناها كانتا تتأجحان عند الكلام حمية فتفرضان الانتباه كلّ الإنتباه" (22).
كما يقول أنيس المقدسي:" في مواقفها الخطابيّة فإنّ لمي ما يشهد بما وهبته من قدرة على التّصوير والإقناع وسعة في الاطّلاع، وجاذبيّة في الإلقاء، وحسن ذوق في اختيار العبارات والمواضيع" (23).
ويلخّص داوود قربان سمات خطبها بقوله: " إنّ خطب مي تتميّز بِ: 1. سلامة الذّوق 2. معارفها الكثيرة 3. نفسها العالية 4. إشاراتها الرّشيقة وعيناها السّاحرتان 5. صوتها النّاعم الجميل 6. قوّة التّصوّر فيها 7. مغناطيسيّتها الشّخصيّة 8. إخلاصها لما تقول (24).
وموضوع آخر يجدر بنا أن نقف عنده من نتاج مي زيادة، هو النّقد الأدبي والبحث الجاد. لمي زيادة باع طويلة في المعرفة والثّقافة، ومن جملة ذلك اطّلاعها على الأدب المقارن وأنواع الفنون الأدبيّة الكثيرة، ممّا هيّأ لها الفرصة لتكون ناقدة أدبيّة جادّة يهاب قلمها الكثيرون.
يقول أنيس المقدسي:" لا شكّ أنّ لمطالعاتها الواسعة في مختلف اللّغات أثرا بيّنا في توسيع آفاق الحياة الأدبيّة أمامها. يقول أمين الرّيحاني: أمّا شغفها بالمطالعة فقد كان كثيرا لا حدّ له. ولعلّ هذا هو السّر في اتّساع آفاق تفكيرها وانفساح المدى أمامها. كانت شهوة المطالعة عندها لا تقف عند حد ولا تنتهي إلى غاية" (25).
ومن الكتب الّتي انتقدتها مي كتاب جبران "المجنون" الّذي عابت عليه تأثّره بآراء الفيلسوف الألماني فردريك نتيشه شارحة آراءه الّتي تمقتها. وفي نقدها كانت قلما تتسرّع في الحكم على أمر فلا تبدي رأيا إلاّ بعد أن يقتنع عقلها بأن ما تبديه منسجم مع الصّدق وأصول الذّوق السّليم. على رأي أنيس المقدسي.
يقول الجميّل:" كانت رفيعة في نقدها رقيقة في مخالفة رأي غيرها، فما آذت شعورا ولا جرحت إحساسا (26).
ومن الأبحاث المهمّة الّتي كتبتها مي أبحاث عن عائشة التّيموريّة، وعن اليازجي، وعن باحثة البادية. وكانت مي أبدت إهتماما كبيرا في المرأة ونضالها من أجل التّحرّر وذلك بعد ان تعرفت على رائدة الحركة النسائية في مصر هدى شعراوي، وبعد أن كوّنت لها آراء خاصّة بالنّسبة للنّهضة النّسائيّة وتحرّر المرأة (27).
هذا الاهتمام بالمرأة قادها إلى تعريف القرّاء في عصرها بالأديبات الثّلاث المذكورات سابقا وفي أبحاثها اعتمدت مي زيادة أسلوبا علميّا رصينا تحليليّا ولغة سهلة خالية من التّعقيد (28).
ويعتبر النّقّاد والأدباء بحثها عن باحثة البادية بحثا أصيلا جادّا. يقول أفرام البستاني:" لقد بلغت مي في كتابها عن باحثة البادية من التّحليل أعمقة ومن تصوير العواطف أقصاه كاشفة لنا بفضل الشّخصيّة المركّبة نواحي من باحثة البادية لم يكن يسهل كشفها إلاّ لامرأة مثقّفة بثقافة الرّجال" (29).
لكن بحثها ونقدها أحيانا كان يصعب عليهما الخروج من دائرة الذّات في تقدير المواقف وتقييم المعاني والحوادث والأشخاص، فتغلب عليه الرّوح النّسويّة والعاطفة، على رأي العديد ممّن كتبوا عن مي زيادة خاصّة فاروق سعد.
وأخيرا لقد كان أسلوب مي زيادة "رشيقا بارز الشّخصيّة" إنّي أكره التّقليد الّذي يشوّه المقلّد ويمسخ المقلّد وأحبّ أن أكون أنا أنا في كتاباتي فيه تعابير مولدة وضعتها مي لنفسها بعيدة عن التّصنّع وفيه نبرة خطابيّة شجيّة تظهر بين الحين والحين وفيه خاصّة عذوبة الحسّ الأنثوي الرّهيف وهي مميّزات قد تعوّض عن ضيق نفسها وضآلة الإبداع (30).
لقد كانت مي شاهد عصرها الأمين عاشت مشاكله وجسّدت نفسيّته وعكست أمانيه في صفحات، أن أعوزها طول النّفس ورصف البناء فلم يعوزها لا الشّعور العميق ولا حرارة التّعبير. على حدّ رأي د. جميل جبر (31).
ومهما قلنا في هذه العجالة عن نتاج مي الأدبي سنظلّ مقصّرين، إذ أنّ نتاجها غزير لا يمكن أن نحيط به في مقالة واحدة كهذه. ولكن الهدف من هذا المقال كان جلو بعض الأمور وتعريف القارئ بهذه الكاتبة والأديبة الفلسطينيّة الأصيلة واستفزازه لقراءة ما أبدعته قريحتها في مطلع هذا القرن حتّى الأربعينات منه.
الاشارات:
1- عبد اللطيف شرارة:مي زيادة, دار صادر, بيروت,1965,ص6-7
2- فاروق سعد: باقات من حدائق مي,دار زهير بعلبكي,بيروت,د. ت. , ص123
3- انيس المقدسي: الفنون الادبية واعلامها, دار العلم للملايين,بيروت,ط 2 ,1978, ص476
4- شرارة, ص21
5- جميل جبر: مي زيادة في حياتها وادبها, المطبعة الكاثوليكية, بيروت,1960, ص14
6- شرارة, ص30
7- ن,م ص56 +جبر ص17
8-ن,م ص57
9- ن,م ص75
10 – سعد ص4 +جبر ص 15
11- شرارة ص80-81
12- ازاهير حلم.ص34
13- ن,م ص14
14- ن,م ص71
15- ن,م ص54
16- سعد ص40-41
17- جبر ص15
18- ن,م ص42
19- سعد ص119
20- ن,م ص104
21- جبر ص49
22- ن,م ص22
23- المقدسي ص481
24- سعد ص155-156
25- المقدسي ص483
26- جبر ص48
27- عن النهضة النسائية وعلاقة مي زيادةبها راجع المقدسي ص476-478 وجبر ص46-47
28- جبر ص41
29- سعد ص128
30- جبر ص48
31- ن,م ص49
د. حبيب بولس
ملاحظة: قرأت في صحيفتنا الاتحاد يوم الجمعة 23-12-2011 خبرا عن هدى شعراوي رائدة تحرر المرأة في مصر في بدايات العصر المنصرم فردني الخبر الى الاديبة اللبنانية الفلسطينية مي زيادة وذلك للعلاقة التي جمعت بينهما وللاثر الكبير الذي تركته هدى على مي ولان حق مي قد اغمط في الكثير من المحافل ارتايت ان اعيد الى الاذهان ما قامت به بلدية الناصرة عام1986 بالاحتفال بمئوية مي وذلك من خلال المحاضرة التي قدمت في حينه في المركز الثقافي برعاية رئيس البلدية الشاعر القائد المرحوم توفيق زياد وباشتراك عدد كبير من المهتمين بالادب وبالتراث عل هذا النشر يسهم بتعريف الاجيال الناشئة على علم من اعلام نهضتنا عامة والنسوية خاصة.