رحيل قمة شامخة
أ.د. حلمي محمد القاعود
قبل عقد من الزمان تقريبا ، التقيت به في جناح لإحدى دور النشر بمعرض القاهرة الدولي للكتاب . كان اللقاء الشخصي الأخير ، يومها سلمت عليه ، وبدا أنه نسي اسمي ، فقلت له : أنا فلان ! فقال : " بتاع الاعتصام " ؟! وضحك ضحكة عريضة كان لها معناها ومغزاها !
كانت "الاعتصام" مجلة الإسلامية متواضعة الإمكانات ، ولكنها كانت تقود المعارضة الإسلامية والوطنية ، كأقوى ما تكون وخاصة في مرحلة السبعينيات ، وكان لي شرف الكتابة المتواضعة فيها منذ أوائل عهد السادات ، وكان الرقيب أيامها يقرأ كل كلمة تعد للنشر ، وكثيرا ما كان يؤجل بعض الموضوعات ، أو يعدل فيها ، وأذكر أن الدكتور عبد الصبور شاهين أيامها ، كان يقدم برنامجا في التلفزيون عن علماء الدين والشريعة ، لا أذكر اسمه جيدا ، واستضاف الشيخ الباقوري رحمه الله ، وبدا الشيخ متعاطفا مع السلطة ، وتكلم أن الناس درجات ، وأن القاضي في الزمن القديم يحق أن يكون له ركوبة أو بغلة ذات قيمة ، وعلى هيئة خاصة تقديرا لمكانة القاضي في الزمان القديم ... وخرجت الاعتصام بعناوين صارخة تنتقد الشيخ والدكتور عبد الصبور ، وترى في الحديث التلفزيوني تجاوزا لا يتطابق مع منهج الإسلام في التواضع والمساواة ! المهم أن لقاءات جرت فيما بعد بين المجلة والدكتور عبد الصبور ، وتمت تصفية سوء الفهم ، وصار الرجل ضيفا شبه دائم ، على دار الاعتصام بمؤلفاته ومقالاته ، وواسطة العقد في اللقاءات الفكرية التي كان يحضرها مفكرون عرب ومسلمون من العالم الإسلامي.
كان أول لقاء لي معه في دار العلوم بوصفي طالبا ، ودخلت مكتبه في المبني القديم لدار العلوم بالمنيرة أسأله عن نطق الجيم في بعض القراءات مثل الكاف ، وأجابني وضرب لي مثلا بقراءة بعضهم لقوله تعالى : " حتى يلج الجمل في سم الخياط "( الأعراف : 40) ، وقال لي إن هناك من يقرأها على النحو التالي : حتى يلك ، ويكتب فوق الجيم كافا . كان ذهنه حاضرا وساطعا ، وخرجت من هذا اللقاء لأعود إليه ليمتحنني بعد شهور الامتحان الشفهي للتخرج . ولأحظى بتقدير عال . كان رحمه الله يدرس لي في سنوات الليسانس علم اللغة والأصوات ، وكان شقيقه الدكتور عبد الرحمن يدرس لي النحو ، وظلت العلاقة بيننا موصولة طوال فترة الدراسات العليا ، وهي علاقة طالب بأستاذ ، وإن كنت قد تخصصت في قسم آخر غير علم اللغة واللغات الشرقية الذي كان رئيسا له في بعض السنوات .
في لقاء معرض لكتاب الذي أشرت إليه عاليه ، حكي لي قصة ترجمته لكتاب مالك بن نبي " الظاهرة القرآنية " ، وأسهب في الدرس الذي لقنه له العلامة الراحل "محمود محمد شاكر "، حيث عرض عليه الترجمة قبل تقديمها للنشر ، وقرأ شاكر الترجمة ، وراح يطابقها على الأصل الفرنسي ، والمترجم الذي هو الشاب عبد الصبور شاهين يجلس أمامه ويستمع ويتعلم كيف تكون دقة الترجمة من شاكر ، وظل الأمر على هذا المنوال من الصباح حتى الثامنة مساء تقريبا . يقول لي : إنه خرج من بيت شاكر في مصر الجديدة لا يرى الطريق ، وأنه لم يفكر في ركوب سيارة أو وسيلة مواصلات ، ولكنه كان يبكي وهو سائر في طريقه إلى السكن الذي يبعد عن بيت شاكر عدة كيلومترات ، ويقول : إنه عكف على إعادة الترجمة مرة أخرى ، ولم يخرج من البيت حتى أتمها ، وعاد بها إلى العلامة محمود شاكر ، الذي ابتسم له لأول مرة ، وكانت هديته إليه بعد أن جود الترجمة أن كتب مقدمة مسهبة تجاوزت خمسين صفحة لكتاب الظاهرة القرآنية ، وهي مقدمة لم يكتب شاكر غيرها لأحد ، وكان عبد الصبور بها حفيا ، ويذكرها في شتى المناسبات ، ويشيد بالدرس الذي تلقاه على يد شاكر في ضرورة الدقة والإتقان !
لقد مضى على ظهور الظاهرة القرآنية قرابة نصف قرن ، ومازال تأثيره قويا في كل من يطالعه ، فضلا عن كونه كان فاتحة خير بالنسبة للمترجم الذي ضاقت عليه السبل حين اعتقلته حكومة الثورة عام 1955 م في حملاتها ضد الإسلاميين عقب حادث المنشية الشهير . ثم أفرجت عنه في فبراير 1956، وكان المترجم طالبا في الليسانس ، فعاد إلى دار العلوم ليستكمل الفصل الدراسي الثاني ليتخرج أول الفرقة بلا منافس ، ويلتحق بعدئذ بكلية التربية لتأهيل المعلمين ، ويلتحق أيضا بالدراسات التمهيدية للماجستير بدار العلوم ، ولكنه كان يعاني من هم ثقيل لا يفارقه وهو توقع البطالة بسبب نشاطه الإسلامي ، فقد دعي لمقابلة مفتش المباحث في لاظوغلي عقب ما نشر عن فوزه على جميع المتسابقين في مسابقة الإذاعة عام 1957 ، فقد قال له المفتش بعد قليل من السخرية والاستعلاء "أنت عاوز تتسلل إلى الإذاعة من ورانا – اسمع يا واد أنت مالكش عمل في البلد دي – لا قبل التخرج من التربية ، و لا بعد التخرج . شوف لك شغلة بره "وضغط على الكلمة الأخيرة وكررها . وخرج الشاب عبد الصبور من لاظوغلي باكيا لا يملك دموعه .ولكنه أقسم ألا يترك البلد وسوف يعمل مترجما فهو يعرف الفرنسية وسوف يترجم منها ما يصلح للترجمة ، وذات يوم كان في دار العلوم فإذا شاب مغربي اسمه عبد السلام الهراس – صار رئيس جامعة القرويين في مراكش فيما بعد - يقول له : بترجم كتاب ؟ أي هل توافق على ترجمة كتاب ؟
وقعت عليه العبارة كالسحاب الثقال على الأرض الميتة . سأله عن الكتاب ، وعرف أنه كتاب " الظاهرة القرآنية " ووقعت عينه لأول مرة على العنوان الذي صار مفتاح المستقبل كله بالنسبة له (الظاهرة القرآنية ) . وكانت بداية اتصاله بمالك بن نبي المهندس الميكانيكي والمناضل الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر، وقد صار لاجئا سياسيا بعد أن هرب من مخالب الشرطة الفرنسية .
لقد طورد عبد الصبور في الإذاعة والتدريس ، ولكن كتاب الظاهرة القرآنية فتح له الأبواب المغلقة ، فترجم ثلاثة كتب في عام واحد ، وحظي كتاب مالك بن نبي بعد ترجمته بتقدير من كبار الباحثين وأهل الفكر ، ويكفي أن يقول عنه العلامة محمود محمد شاكر في مقدمته المسهبة بعنوان " فصل في إعجاز القرآن " :
" أحسبني من أعرف الناس بخطر هذا الكتاب ، فإن صاحبه قد كتبه لغاية بينها ، ولأسباب فصلها ، وقد صهرتني المحن دهرا طويلا ، فاصطليت بالأسباب التي دعته إلى اتخاذ منهجه في تأليف هذا الكتاب ، ثم أفضيت إلى الغاية التي أرادها ، بعد أن سلكت إليها طرقا موحشة مخوفة ...." .
ومن كلام شاكر عن الكتاب :
"هذا كتاب الظاهرة القرآنية
وكفي ، فليس عدلا أن أقدم كتابا هو يقدم نفسه إلى قارئه ، وبحسب أخي الأستاذ مالك بن نبي ، وبحسب كتابه أن يشار إليه .." .
وفي كل الأحوال فقد انفتحت الأبواب أمام عبد الصبور شاهين ( 1929 - 2010 م) ،في الترجمة وغيرها .
فقد ترجم مجموعة من أعمال مالك بن نبي الأخرى ، منها :
- وجهة العالم الإسلامي .
- فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج 1957م.
- مشكلة الثقافة .
- ميلاد مجتمع: شبكة العلاقات الاجتماعية .
- شروط النهضة، (بمشاركة عمر كامل مسقاوي ) .
كما ترجم في مجال تخصصه الدقيق ( علم اللغة ) :
- العربية الفصحى: دراسة في البناء اللغوي سنة 1966م لهنري فليش اليسوعي، وقد ترجمه وهو معيد في دار العلوم .
- علم الأصوات: لبرتيل لومبرج .
وفي مجال الدراسات الإسلامية فإنه ترجم كتاب الدكتور محمد عبد الله دراز ، الذي كان رسالته للدكتوراه في السوربون ، بعنوان - دستور الأخلاق في القرآن .
وبالإضافة إلى هذه الترجمات فقد ألف في مجال تخصصه عددا من الكتب المهمة ، منها :
- القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث .
- أثر القراءات في الأصوات والنحو العربي: أبو عمرو بن العلاء .
- عربية القرآن .
- في علم اللغة العام .
- في التطور اللغوي .
- العربية لغة العلوم والتقنية .
- دراسات لغوية .
- المنهج الصوتي للبنية العربية: رؤية جديدة للصرف العربي .
هذا بالإضافة إلى كتب أخرى متنوعة ، في مجال الدفاع عن الإسلام والتعريف به والدراسات القرآنية ، منها : مفصل لآيات القرآن في عشرة مجلدات، وتاريخ القرآن ، ومجموعة "نساء وراء الأحداث ، وموسوعة "أمهات المؤمنين" و"صحابيات حول الرسول"ويبقى مؤلفه الأشهر "أبي آدم" الذي أثار ضجة كبيرة .
وبالمناسبة فقد نسبت له الصحف توليده وتعريبه لمصطلح حاسوب وهو المقابل العربي لكلمة كمبيوتر وقد أُقر هذا المصطلح من قبل مجمع اللغة العربية .
خلف عبد الصبور شاهين إنتاجا علميا غزيرا وصل إلى سبعين كتابا بين مؤلف ومترجم ومحقق .
*** ***
لقد صار عبد الصبور شاهين أستاذا جامعيا في دار العلوم ، بعد أن تخصص في علم اللغة ، وصار من أشهر الدعاة الإسلاميين في مصر والعالم الإسلامي. وكان خطيب مسجد عمرو بن العاص أكبر وأقدم مساجد مصر .وأتيح له أن يعمل خارج مصر ، فعمل أستاذاً بقسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن فترة من الزمن. فضلا عن زيارة العديد من الدول العربية والإسلامية وإلقاء المحاضرات بها ، والمشاركة في الندوات التي دعي إليها هناك .
بقيت الإشارة إلى دوره الدفاعي عن الإسلام ، الذي تمثل في البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي شارك فيها ،ومقالاته وتصريحاته للصحف التي رد فيها على كثير من الخصوم الذين حاولوا النيل من الدين الحنيف ، في غمرة بعض الأحداث المؤسفة ، التي كان يستغلها هؤلاء الخصوم للتشويش على الإسلام ، والعمل على إلغائه . لقد كان يدلي بأحاديث صريحة قاطعة في الانحياز إلى الإسلام ، وعدم الانسياق وراء موجات الهجوم المدعومة من جهات الشر والفساد .. ويلاحظ أنه كان صلبا أمام الهجمات العاتية التي قادها بعض المنتسبين إلى النخب الموالية للغرب ، والكارهة للإسلام .
لقد استغلوا تقريره الذي كتبه بعد فحص أعمال نصر أبوزيد ، وأثبت فيه الخلل المنهجي والقصور العلمي ، والكراهية الشديدة من جانب أبوزيد للنصوص القرآنية والنبوية ، وإنكار المصدر الإلهي للقرآن الكريم، والهجوم على الصحابة، والدفاع عن الماركسية والعلمانية وعن سلمان رشدي وروايته (آيات شيطانية)"، ورفعوا فزاعة التكفير والوكالة عن الله ؛ لإرهابه وإرهاب غيره ، ولكنه ظل راسخا لم يتزعزع، ولم يتأثر .
لقد قال كلمة الحق في مواجهة أخطبوط بشع يتسلح بخدمة السلطة البوليسية الفاشية ، ويهيمن على وسائل التعبير والإعلام ، ولم يتورع عن ظلم العشرات من الباحثين وطالبي الترقية الجامعية ، ظلما فاحشا لم يستطيعوا الحديث عنه كما تحدثوا هم عن الباطل الذي صنعوه ..
حين اصدر أبوزيد كتابا رخيصا يتناول فيه عبد الصبور ، ويتهمه بأنه يكفر من يفكر ، فإن عبد الصبور تسامى على منطق الشتائم والتجريح الذي يجيده الشيوعيون ، وطرح القضية من خلال المعضلة الحقيقية التي تواجهها الأمة ( قصة أبو زيد وانحسار العلمانية ) .. وبالفعل فقد عرف الناس أخطار الجريمة التي يخطط لها العلمانيون لتحويل مصر والبلاد العربية عن الإسلام ، وترسيخ فكرة التبعية والاستسلام للغرب الاستعماري ، ومن المفارقات أن بعضهم وهو يستعرض تاريخه العلمي بمناسبة وفاته ، بدا شامتا لأن القوم كانوا يحتفلون قي الوقت نفسه بتأبين نصر في الأوبرا المصرية ، ويزعمون أن مصر كانت هناك !
بضعة أفراد من الشيوعيين وأشباههم صاروا مصر ، ولم يذكروا شيئا عن جنازة عبد الصبور الضخمة المهيبة التي حضرها الآلاف من طلابه وأحبابه وعامة الناس!
كان رحمه الله قد ذكر لي في لقائي الذي أشرت إليه في بداية كلامي ، أنه ينشئ مركزا إسلاميا في منطقة الأهرامات في قطعة الأرض التي اشتراها هناك . وقال لي : إنه سيقيم مسجدا ، ومكتبة عامة يضع فيها مكتبته الخاصة لخدمة الباحثين والقراء ، بالإضافة إلى مكتب تحفيظ للقرآن ، ومسكن يطل منه على المركز ، ودعاني لزيارته ، وللأسف لم تسعفني ظروفي بالزيارة ، وإن كنت قد علمت أن المركز تم إنجازه قبل سنوات ويتردد عليه كثير من الناس .
لقد كان عبد الصبور شاهين عالما مجاهدا بقلمه وصوته وماله ، وكان منحازا للإسلام على مدى حياته ؛ في شبابه وشيخوخته ، وظل يبحث ويعمل من اجل الدين الحنيف حتى لقي ربه .
رحمه الله وأنزله منازل الأبرار والصالحين .