أحدِّثكم عن العلاَّمة عبد العزيز القُوصي!
أحدِّثكم عن العلاَّمة عبد العزيز القُوصي!
محمد عبد الشافي القوصي
بعدما فرغتُ من تأليف كتابي "سقوط الحداثة" تخوَّفَ الناشرون من طبعه؛ حتى لا يصطدموا ب(اللوبي العلماني التغريبي اللاديني) الذي كانت له سطوة ومنعة، بلْ كان مرآةً للنظام السياسي السائد في البلاد آنذاك!
لكن الناشر والكاتب الأديب/ عبد الله الماجد- تجرأ على طبعه، بعدما عرف اسمي!! لدرجة أنه وقف مشدوهاً، وصاح بأعلى صوته: أأنتَ من بلد العلاَّمة الدكتور (عبد العزيز القوصي)؟!
قلتُ –مفتخراً- نعم!
فتهلَّلَ وجهه بالسرور، وظلَّ يسرد لي من مواقفه الجميلة، وأخلاقه الحميدة، وكان من جملة ما ذَكره عن تواضعه؛ أنه جاء إلى المكتبة بنفسه، يأخذ نسخ من كتابٍ له طبعته الدار .. ورفض رفضاً قاطعاً أنْ يحملها أحدٌ بدلاً منه!!
وفي كتابنا (أعلام الصعيد في القرن العشرين) ذكرتُ كثير من المواقف والحكايات التي تؤكد مكانة أستاذ الأجيال (عبد العزيز القوصي) عند زملائه وأصدقائه وتلامذته ومريديه؛ من ذلك أنه عندما عرفني شيخ المؤرخين، الدكتور/ حسين مؤنس- قربني منه كثيراً، وكان يقول لي: الحمد لله؛ أنك ذكَّرتني بالعبقري/ عبد العزيز القوصي!
أجل! إنه (عبد العزيز القُوصِي) أعظم علماء النفس في العالم العربي؛ الذي قال عنه البروفيسور/ فيليب فرتون –رائد علم النفس التعليمي بجامعة لندن: "يجب أنْ نحني رءوسنا للرواد الأوائل الذين ارتادوا حركة قياس القدرات الإنسانية مثل الدكتور القوصى"!
* * *
في كتابه (أعلام قوص) كتب صديقنا الأديب/ أسامة محمد أمين- يقول: كان "عبد العزيز القوصي" طموحاً منذ طفولته! لذا؛ فقد أوفدته "وزارة المعارف" في بعثة إلى إنجلترا، وهناك التحق بجامعة برمنجهام، حتى حصل على الدكتوراه في فلسفة علم النفس عام 1934، وحصل على زمالة جمعية علم النفس البريطانية، وقد توصل في رسالته العلمية إلى اكتشاف علمي سيكولوجي نشرته جامعة أدنبره، وأطلق على هذا الكشف اسم "عامل إدراك المكان" ويعرف باسم (القوصي) في جميع أنحاء العالم، يرمز لها عالميًا بحرف K إشارة إلى اسمه. وكان لهذا الكشف آثار ملموسة في جهود علماء النفس البريطانيين، مثل "طومسون"، والأمريكيين مثل "ثرستون"، حيث تابع العلماء طريقه، وبدءوا من حيث انتهى!
وفي ضوء هذا الاكتشاف؛ قامت "الهيئة القومية البريطانية" بتصميم الاختبارات النفسية لتصور العلاقات المكانية، كما قام عالم النفس البريطاني "قيرنون" بتصميم عدد من الاختبارات على أساس اكتشاف القوصي، وقد استخدمت هذه الاختبارات في عملية الاختبار، والتوجه المهني للمهندسين، والفنيين بالقوات المسلحة البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية!
هذا؛ وقد توصل (عبد العزيز القوصي) إلى نظرية حول تكوين بناء القدرات العقلية على أساس ثلاثة أبعاد، هي: (المضمون الأساسي -الوظيفة –الشكل) وأطلق عليها اسم نظرية الأبعاد الثلاثة .. وقد عرض هذه النظرية على مؤتمر عالمي لأسلوب التحليل العاملي في باريس عام 1955. وشارك معه رواد علم النفس العالميين، أمثال: جيلفورد وثرستون، وقد شهد له الجميع بالتميز العلمي والقدرة على التنظير!
لذلك؛ يقول الدكتور/ فؤاد الموافي-أستاذ علم النفس التعليمى، ووكيل كلية التربية بجامعة عين شمس-: "إذا كان مطلع الثلاثينات من هذا القرن قد شهد تمجيد ينبوع العبقرية في ذلك الشاب الذي لمْ يبلغ الثامنة والعشرين من عمره، فمنحته جامعة لندن عام 1934 درجة الدكتوراه الفلسفية في علم النفس؛ فإنَّ مطلع الثمانينات، قد شهد تتويج العبقرية في العالِم الأستاذ والمعلِّم الرائد لتيار المعرفة النفسية والتربوية في مصر والعالم العربي، وذلك لحصول (القوصى) على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، ذلك النموذج المتجدد للإبداع والموهبة الخلاَّقة في كل موقع عمل به".
أجل! لقد كان (عبد العزيز القوصي) عبقرياً؛ ولديه قدرة عجيبة على التحليل النفسي؛ ففي كتابه (علم النفس- أسسه وتطبيقاته التربوية) يؤكد أنَّ اللعب وسيلة من وسائل التربية، لفهم نفسية الأطفال، ومعرفة مفاتيح شخصياتهم، إذْ يقول: "يعتبر لعب الأطفال تعبيراً حقيقياً عن سلوكهم السويّ أوْ المضطرب، فالطفل أثناء لعبه يُعبِّر عن مشكلاته وصراعاته التي يعاني منها، فيُسقِط ما بنفسه من انفعالات تجاه الكبار على لعبه"!
وفي كتابه (أسس الصحة النفسية) الذي تُرجِمَ إلى العديد من اللغات، يعتمد على التأصيل النظري، والخبرة العملية في العيادة النفسية- ويروي قصة تؤكد أثر الإيحاء في العلاج، فيقول: "إنَّ أحد المصابين بالربو، سكن بفندق فخم، وذات ليلة فاجأته الأزمة، وشعر بأنه في حاجة إلى الهواء المنعِش، فراح يلتمس طريقه للنافذة حتى شعر بملمس الزجاج البارد، حاول فتحها فلمْ يستطع، فلفَّ يده بقميصه وكسر الزجاج، وأخذ يتنفس بعمق، ولمَّا استيقظ في الصباح، وجد النافذة سليمة ومغلقة! أمَّا الزجاج المكسور فكان لخزانة الساعة الموجودة بغرفته! ف(الوهم) هو الذي جعله يعتقد أنه يتنفس الهواء النقي، فتحسَّنتْ حالته!
* * *
لقد شارك (عبد العزيز القوصي) في العديد من المؤتمرات العالمية؛ لعرض اكتشافه أمام علماء النفس في مجال اكتشاف القدرات الإنسانية، ودعوته لإلقاء بحوث عديدة في المؤتمرات الدولية المهتمة بشئون التخطيط للتربية، والتعليم للصغار وللكبار، ومساهمته في رسم سياسة التعليم في عدد كبير من البلاد الأوروبية والعربية، والإشراف على رسائل الدكتوراه أوْ مناقشاتها في عدد كبير من البلاد الأوروبية والعربية، ومنحه عضوية كثير من الهيئات الدولية المهتمة بشئون التربية والثقافة. إلى جانب ذلك؛ فالدكتور/ القوصي- كان مشرفاً على تحرير عدد كبير من المجلات الدولية المتخصصة في علم النفس. وكثيرًا ما يُستشهد باكتشافاته في بعض البحوث النفسية في أنحاء العالم!
وقد تتلمذ على يديه العديد من علماء النفس البارزين في كل من إنجلترا، وسويسرا، والسويد.
أمَّا في مصر؛ فهو رائد علم النفس بلا منازع! وجميع أساتذة علم النفس والتربية يدينون له بالكثير من الفضل، خاصة خلال فترة عمادته لكلية التربية بجامعة عين شمس، وتأسيسه للعيادة النفسية بها. وقد تابع تلاميذه العمل في مجال دراسة القدرات العقلية والدراسات النفسية التي تعتمد على الإحصاء التجريبي، ومن بينهم الدكتور/ فؤاد البهي السيد، والدكتور/ أحمد زكي صالح، والدكتور/ عزت سلامة، والدكتور/ محمد عبد السلام، وغيرهم من التربويين المشاهير.
وفي هذا يقول الأستاذ/ محمد النوبى الشال –الوكيل السابق وزارة التربية والتعليم: "كان عبد العزيز القوصى –الشخصية القديرة المسئولة المتزنة الملتزمة بتقاليد المهنة وقدسيتها، يحمي حماها، ويزود عن حياتها، ويدافع عن قيمتها، ويرصد مفاهيمها، اضطلع بوظائفه أروع اضطلاع، وقام بأدواره خير قيام وظل دائماً العَلَم البارز بين الأعلام، والحارس الأمين لأخلاقيات المهنة، وقد عرفت مصر كلها فضل هذا الرجل الماجد الدكتور القوصى وجهده العظيم، وكفاءته النادرة وريادته التربوية المثالية فمنحه الرئيس/ أنور السادات– جائزة الدولة التقديرية في العلوم الإنسانية، فكانت لفتة كريمة سعد لها كل من عرف هذا العالم الجليل".
* * *
ينحدر (عبد العزيز القوصى) من أسرة عريقة، من عائلات قوص؛ الذين اتخذوا العلم سبيلاً للدنيا والآخرة، وقد تدرج في المناصب حتى صار عميداً، ثم مستشاراً لوزارة المعارف، وممثلاً لمصر في هيئة اليونسكو بباريس، حتى عُيِّنَ مندوباً دائماً للجمهورية العربية المتحدة لدى منظمة اليونسكو، وبفضل جهوده تقررت اللغة العربية لغة رسمية في هيئة اليونسكو عام 1961م!
وللدكتور عبد العزيز القوصى مؤلفات كثيرة، منها: (الإحصاء في التربية وعلم النفس، الاختبارات الحسية للذكاء، تيسير النحو، كتاب الأسس العامة للدوافع وسيكولوجية الجامعات، ومخاوف الأطفال، وأولادنا بين التعليم والتعلم، مشكلات وصور نفسية، قصة الحياة في جميع الأحياء، واللغة والفكر، التعليم في الوطن العربي، وغيرها من المؤلفات التي تدور في فلك التربية وعلم النفس). بلْ يُعدّ (عبد العزيز القوصي) أول من أدخل إلى اللغة العربية اصطلاح "الصحة النفسية"، وألَّفَ أول كتاب لها؛ لا يزال يعتبر مرجعًا أساسيًا.
استمع إلى (عبد العزيز القوصي) وهو يتحدث عن (فن الحياة) إذْ يقول: "فن الحياة لا يرتبط بمالٍ ولا جاه، ولا عِلم ولا سلطان، لكنه يرتبط بأحاسيس مرهفة، ونفس صافية كماء الغدير في هدأة الليل، وشفَّافة كالنسيم العليل .. فالحياة لا تقاس بطولها، ولا بعدد سنينها، قد يعمر بعض الناس، لكنْ لوْ قيست حياتهم بمعيار "فن الحياة" لكانت ساعة أوْ بضع ساعات! لذا؛ يُحكى أنَّ أهل بلدة كانوا يكتبون على قبورهم (العمر الفني) الذي عاشوه .. فترى على أحد القبور مكتوباً (عاش سنة) وعلى آخر (عاش ساعتين) وعلى ثالث (لمْ يعِش أبداً)!
ولعلَّ ذلك كله؛ هو الذي دعا الأستاذ الكبير/ أحمد بهجت- إلى القول: "الدكتور/ عبد العزيز القوصي– وجه مضيء من وجوه التربية وعلم النفس في مصر؛ فقد هاجم طريقة التعليم التقليدية، واعتبرها سبب أزمة للتعليم في مصر، وقد كان –القوصي- رائعاَ بحق، فهو رجل آتاه الله موهبة العلم والبساطة معاً، فهو يستطيع أن يحدِّثك عن علم النفس دون أن يصطدم سمعك بمصطلح يصدك عن الفهم أوْ يدفع الغموض إلى نفسك!
* * *
منذ سنينٍ خَلَتْ؛ التقيتُ المستشار/ توفيق حسن وصفي –أول مدير لمكتب جامعة الدول العربية بالقدس، والذي اعتقلته سلطات الإحتلال مع القناصل والدبلوماسيين العرب أثناء حرب حزيران 1967م- وسألني: أأنتَ من "قوص"؟ قلتُ: نعم.
فقال على الفور: ماذا تعرف عن عبد العزيز القوصي؟ قلتُ: مفخرة قوص بلا منازع!
فقال بغبطةٍ وسرور: بلْ مفخرة مصر كلها!
وكان كلما لقيني؛ يُحدِّثني عن عِلمه، وتواضعه، وكرمه. وهذا ليس ببعيد عمَّا قالته لي -مؤخراً- الدكتورة/ ليلى عبد العزيز القوصى: "كان بسيطاً متواضعاً، ومرحاً ومداعباً للجميع، كلماته تتسلل إلى القلوب؛ ببساطتها الخلاَّبة، ومداعباته وطرائفه، وذكرياته التي لا نهاية لها.
لذا؛ كان يأنس إليه الناس، لأنه كان يرفع الكلفة، ويزيل الفوارق، وكان متواضعاً، وفيًّا، كريمًا. ذلك الكرم الذي ورثته عنه كريمته المهندسة/ نجوى القوصي!
رحم الله عبد العزيز القوصي، ورحم الله أمير الشعراء- القائل:
وأعزُّ ما يبقى وِدادٌ دائمٌ إنَّ المناصب لا تدومُ طويلا !