ابن عابدين
صاحب الحاشية
محمد فاروق الإمام
هومحمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد، الذي ينتهي نسبه إلى زين العابدين بن الحسين بن علي رضوان الله عليهم جميعاً. وعرف بابن عابدين، وهي شهرة تعود إلى جدّه محمد صلاح الدين الذي أطلق عليه اللقب لصلاحه.
ولد الشيخ محمد أمين بدمشق بزقاق المبلط في حي القنوات سنة1198ه/1748م ونشأ في رعاية أبوين معروفين بالصلاح والتقوى، وكان والده تاجراً.
قرأ القرآن الكريم وجوده وحفظه على الشيخ سعيد الحموي شيخ القرّاء بدمشق. وكان سبب تلقيه القرآن وحرصه عليه أنَّه جلس مرة في دكان والده يقرأ، فمرّ به شيخ سمعه فقال له: لا يَحسن أن تقرأ القرآن الكريم هنا لأنك تبتذله في مكانٍ لا ينصت إليك فيه النّاس ، وقراءتك ملحونة أيضاً، فيجب يا بنيّ أنْ تتعلم القرآن الكريم صحيحاً.
فلزم على أثر ذلك الشيخ سعيداً، وقرأ عليه مع القرآن القراءات بوجوهها وطرقها، وحفظ عليه الميدانية والجزرية والشاطبية وأتقنها وتعلمها، وتلقى عنه طرفاً من النّحو والصّرف والفقه الشافعي وحفظ (متن الزّبد) ثمّ لزم الشيخ شاكر العقاد وبذلك تنتهي مرحلته الأولى التي تلقّى فيها ثلاث إجازات وتبدأ مرحلته الثانية.
بقي ابن عابدين يتردد على الشيخ العقاد سبع سنوات قرأ فيها عليه المعقولات، وألزمَه التَّحول إلى المذهب الحنفي، وتفقه عليه وأخذ عنه الفرائض والحساب والأصول والحديث والتفسير، وقرأ عليه من الفقه: الملتقى والكنز والبحر لابن نجيم والوقاية لصدر الشريعة والهداية والدِّراية وغير ذلك، وأخذ عنه الطريقة القادريّة والتّصوف.
وكان شيخه العقاد يتفرس فيه الخير ويحبه حباً جماً ويكرمه ويقول له : أنت أعزّ عليّ من أولادي وقال فيه:
حبيب لقد أهدى إليَّ مدائحا ألذّ على قلبي وأشهى من الشهد
عقود صاغها فكر بارع خبير بتنظيم الفرائد في العقد
أديب أريب ألمعي سميدع نبيل نبيه لوذعي عطر النّد
فصن ذاته من حاسد ومعاند ويمم به سبل المسرة والمجد
وحين رجا مني القبول تخضعا تلقيتها بالشكر منه وبالحمد
وأحضره الشيخ العقاد دروس أشياخه، فصحبه إلى درس شيخه العلامة محمد الكزبري واستجاز له فأجازه سنة 1216ه/1801م ، وكذلك أحضره مرّة درس شيخه العلامة أحمد العطار واستجازه له فأجازه في السنة ذاتها، وقرأ على الشيخ أحمد العطار الأربعين العجلونية إلى الحديث الثلاثين ثم أتمّها على الشيخ شاكر سنة 1218ه/1803م، واستجاز له من الشيخ نجيب القلعي يوم عيد الفطر سنة 1220ه/1805م فأجازه، وأحضره عند الشيخ محمد عبد الرسول الهندي النقشبندي خليفة الشيخ عبدالله الدهلوي واستجازه له فأجازه مع أخيه الشيخ عبد الغني عابدين.
واصطحبه الشيخ العقاد مرة لزيارة الشيخ محمد عبد النّبي الذي قدم من الهند زائراً، فلما دخلا عليه وجلس الشيخ العقاد وبقي ابن عابدين في العتبة واقفاً بين يدي شيخه حاملاً نعله بيده كما هي عادته مع شيخه. فقال الشيخ للعقاد: مُرّ هذا الغلام السيد فليجلس فاني لا أجلس حتى يجلس، فإنّه ستقبَّلُ يده وينتفع بفضله في سائر البلاد، وعليه نور آل بيت النّبوة.
عرض عليه الشيخ العقاد أن يزوجه ابنته ولكن أباه عارض وقال: أخاف عليك من غضب شيخك وعقوقه إن أغضبت ابنته يوماً.
وشجعه الشيخ العقاد على تحرير المسائل وجمع الرسائل ليتقوى على الممارسة في التأليف فكتب حاشية على شرح الشيخ سعيد الأسطواني أحد زملائه في الطلب على نبذة الإعراب، وشرح أيضاً الكافي في العروض والقوافي وكان عمره يومئذ سبع عشرة سنة.
وأجازه الشيخ العقاد نظماً ونثراً ومنها قوله:
وكان ممن جدّ في ذا الشأن السيد المفضال ذو الإتقان
محمد أمين بن عمرا من جده بعابدين اشتهرا
لازمني في مدة مديدة قراءة لكتب عديدة
ما بين فقه وحديث شافي وعلم نحو وبيان صافي
ومنطق وعلم آداب حلا وضع عروض والقوافي قد تلا
ثم شرع في قراءة (الدّر المختار) على الشيخ العقاد مع جماعة منهم الشيخ سعيد الحلبي، وتوفي الشيخ العقاد سنة1222ه/1807م ولم تتم قراءة الكتاب. فأتمّه على الشيخ سعيد الحلبي أكبر طلاب الحلقة. وبذلك تبدأ المرحلة الثالثة من حياته وهي الأخيرة.
قرأ على الشيخ سعيد ولزمه واستجازه فأجازه بخطه وختمه، ونظم ابن عابدين قصائد في مدحه ومنه قصيدته التي مطلعها:
ركبنا جواد الفكر في مهمة البر وخضنا بفلك العمر في لجج البحر
وغصنا بصافي اللبّ تيارعمقه إلى أن تحلّينا من الكنز بالدّر
وعدنا وقد أوفى لنا الدّهر وعده وزاحت سحاب الهم عن أفق الصدر
ورعيا لشيخ العصر سيدنا الذي رقى ذروة التحقيق أوحد العصر
وفاق على أهل الفضائل كلّهم بخفض جناح النّفس مع رفعة القدر
وفي حياة هذا الشيخ شرح ابن عابدين الدّر المختار (حاشية ابن عابدين)، ولمّا مات أسِفَ عليه أسفاً شديداً.
واتصل ابن عابدين رحمه الله بالشيخ خالد النقشبندي فلقَّنه الطريقة وأجازه، ودافع عنه ضدّ خصومه وكتب في ذلك رسالة بعنوان (سلّ الحسام الهندي في نصرة مولانا خالد النقشبندي).
وبالإضافة إلى الإجازات السابقة، أجازه الشيخ إبراهيم وعبد القادر حفيدا الشيخ عبد الغني النّابلسي، وصالح الزجّاج، وهبة الله البعلي، وصالح الأمير المصري، وصالح الفلاّني المدني، وهذان الأخيران أجازاه كتابة.
تولى رحمه الله أمانة الفتوى في عهد المفتي حسين المرادي، وحج سنة 1235ه/1820م، وتحرَّى في حجه الطعام غاية التَّحري مع قلة تناوله له.
ولابن عابدين رحمه الله شعرٌ حسنٌ جميل، منه قصيدة في مدح النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال في مطلعها:
لبيك يا قمرية الأغصان فلقد صدعت القلب بالألحان
لبيك يا من بالبكا أشبهتني لكن بلا فقد من الخلان
نوحي فنوحي في بحار مدامعي تعلو سفينته لدى الطوفان
وترنَّمي وأحبي فؤاد معذب بتذكر الأحباب في نيران
إن رمت كتمان الهوى متكلفاً هيَّجت مني بالبكاء أشجاني
حتى حكت مني الدموع سوافحاً غيثاً همى بدعاء ذي عرفان
يا صاحبي أليس يعذر بالبكا صبٌّ كئيب نازح الأوطان
يقضي الليالي بالهموم وبالأسى مكسور قلب زائد الأحزان
إي والذي هو عالم بضمائري لَيَحِقُّ لي أن أبكي مدى الأزمان
فلقد مضى عمري القصير ولم أفز بزيارتي أرض اللوى والبان
بالله هل تريانِ أسعد لحظة وأخوض رمل أولئك القيعان
وأشم نفح الطيب من أرض الحبيب وترجع الأرواح للأبدان
وقال في وصف الربيع:
مرّت مواشط نسمة الأسحار كيما ترِجّلَ جُمّةَ الأشجار
والقطر جللها بسندس برده وتزينت بلآلىء الأزهار
والنهر صفق والطيور ترنمت في غصنها من نغمة الأوتار
ولابن عابدين مؤلفات كثيرة أهمها وأشهرها (الحاشية) وهي بعنوان (ردّ المحتار على الدّر المختار شرح تنوير الأبصار).
بدأه من باب الإجارة حتى أتمها ثم عاد من أولها فتوفي في أثناء ذلك فبقيت مخرومة من أول ثلثها الأخير تقريباً. وأكمله ولده من بعده.