خمس وعشرون دقيقة

محمد فاروق الإمام

محمد فاروق الإمام

[email protected]

دخل فارس بك الخوري، ممثل سورية في الأمم المتحدة حديثة المنشأ، بطربوشه الأحمر و بذته البيضاء الأنيقة.. قبل موعد الاجتماع الذي طلبته سورية من أجل رفع الانتداب الفرنسي عنها بدقائق و اتجه مباشرة إلى مقعد المندوب الفرنسي لدى الأمم المتحدة و جلس على الكرسي المخصص لفرنسا.. بدأ السفراء بالتوافد إلى مقر الأمم المتحدة بدون إخفاء دهشتهم من جلوس (فارس بك) المعروف برجاحة عقله و سعة علمه وثقافته في المقعد المخصص للمندوب الفرنسي، تاركاً المقعد المخصص لسورية فارغاً.

دعوني أخبركم، أيها الأحبة هذه المعلومة عن فارس بك الخوري: فارس بك احد (مؤسسي الأمم المتحدة)، رغم معارضته الشديدة لصيغة مجلس الأمن، وأعتقد أن هذا يفسر سبب ذهول الوفود من تصرف فارس بك، يعني فارس بك أحد واضعي نظام الأمم المتحدة ولا يعرف بروتوكول المقاعد المخصصة ؟!

ومن المفيد أن نلقي الضوء – بإيجاز – عن سيرة هذا السياسي الألمعي السوري:

ولد في قرية الكفير التابعة لقضاء حاصبيا في لبنان في 20 تشرين ثاني عام 1873م. تلقى علومه الابتدائية في مدرسة القرية، ثم بالمدرسة الأمريكية في صيدا، ولما كان متفوقاً على أقرانه فقد عينه المرسلون الأمريكان معلماً في مدرستهم الابتدائية في زحلة.

دخل فارس الكلية الإنجيلية السورية، والتي سميت بعد ذلك (الجامعة الأمريكية) ببيروت. ولكن المرسلين الأمريكيين لم يمكنوه من الاستمرار، فقد عينوه من جديد في مدرستهم بقرية مجدل شمس عام 1892م، ثم نقلوه إلى صيدا، وفي عام 1894م عاد للدراسة في الجامعة الأمريكية وحصل على شهادة بكالوريوس في العلوم عام 1897م، وكانت هذه الشهادة في ذلك الحين شهادة ثقافية عامة ليس فيها اختصاص في أحد فروع العلوم والآداب، دعاه رئيس الجامعة للتدريس في القسم الإستعدادي كمعلم للرياضيات واللغة العربية.

دعي فارس الخوري لإدارة المدارس الأرثوذكسية في دمشق، ولإعطاء بعض الدروس في مدرسة تجهيز عنبر. ثم عُين ترجماناً للقنصلية البريطانية (1902ـ 1908م) حيث أكسبته وظيفته الجديدة نوعاً من الحماية ضد استبداد الاتحاد والترقي الممسك بالحكم في استانبول.

لم يترك فارس الخوري الدرس والتحصيل، بل ظل منكباً على الدراسة والمطالعة فدرس اللغتين الفرنسية والتركية لوحده دون معلم وبرع فيهما، كما أنه أخذ يطالع الحقوق لنفسه، وامتهن المحاماة، وتقدم بفحص معادلة الليسانس بالحقوق فنالها. في عام 1908م انتسب لجمعية الاتحاد والترقي فكان هذا أول عهده بالسياسة.

انتخب سنة 1914م نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان العثماني. وفي سنة 1916م سجنه جمال باشا بتهمة التآمر على الدولة العثمانية، لكنه بُرئ ونفي إلى استانبول، حيث مارس التجارة هناك.

عاد فارس الخوري إلى دمشق بعد دخول الأمير فيصل بن الحسين إليها. وفي عام 1919م عُين عضواً في مجلس الشورى الذي اقترح على الشريف فيصل تأسيسه، كما سعى فارس مع عدد من رفاقه إلى تأسيس معهد الحقوق العربي، وكان هو أحد أساتذته، كما اشترك في تأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق.

تولى فارس الخوري وزارة المالية في الوزارات الثلاث التي تألفت خلال العهد الفيصلي. وعلى إثر احتلال الفرنسيين لسورية عام 1920م. انصرف الخوري إلى العمل الحر كمحام. ثم انتخب نقيباً للمحامين واستمر خمس سنوات متتاليات، كما عُين حقوقياً لبلدية دمشق، وعين أستاذاً في معهد الحقوق العربي لتدريس مادتي أصول المالية وأصول المحاكمات الحقوقية. لفارس الخوري ثلاث مؤلفات في القانون هي: (أصول المحاكمات الحقوقية) و(موجز في علم المالية) و(صك الجزاء).

أسس فارس الخوري وعبد الرحمن الشهبندر وعدد من الوطنيين في سورية حزب الشعب رداً على استبداد السلطة الفرنسية... ولما قامت الثورة السورية عام 1925 اعتقل فارس الخوري وآخرون ونفوا إلى جزيرة أرواد.

في عام 1926م نفي فارس الخوري إلى خارج سورية بسبب استقالته من منصب وزير المعارف في حكومة الداماد أحمد نامي بك احتجاجاً على سوء نوايا الفرنسيين.

شارك وعدد من الوطنيين في تأسيس الكتلة الوطنية، وكان نائباً لرئيسها يضع القرارات ويكتب منشوراتها، وهذه الكتلة قادت حركة المعارضة والمقاومة ضد الفرنسيين، وكانت من أكثر الهيئات السياسة توفيقاً وفوزاً مدة تقارب العشرين عاماً.

على أثر الإضراب الستيني الذي عم سورية عام 1936م للمطالبة بإلغاء الانتداب الفرنسي تم الاتفاق على عقد معاهدة بين سورية وفرنسا، ويقوم وفد بالمفاوضة لأجلها في باريس، فكان فارس الخوري أحد أعضاء هذا الوفد ونائباً لرئيسه.

انتخب رئيساً للمجلس النيابي السوري عام 1936م ومرة أخرى عام 1943م، كما تولى رئاسة مجلس الوزراء السوري ووزيراً للمعارف والداخلية في تشرين أول عام 1944م...

في عام 1945م ترأس فارس الخوري الوفد السوري الذي كُلّف ببحث قضية جلاء الفرنسيين عن سورية أمام منظمة الأمم المتحدة، التي تم تأسيسها في نفس العام، حيث اشترك الخوري بتوقيع ميثاق الأمم المتحدة نيابة عن سورية كعضو مؤسس.

‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍انتخب عضواً في مجلس الأمن الدولي (1947ـ 1948م)، كما أصبح رئيساً له في آب 1947م، وقد اهتم بالقضية الفلسطينية اهتماماً خاصاً، وأكد رفض الدول العربية إقامة دولة لليهود فيها. كما شرح القضية المصرية وطالب بجلاء الإنجليز عن أراضيها، وأكد على السلام العالمي وطالب بإنهاء تنافس الدول الكبرى، وحذر من وقوع حرب ذرية مدمرة. ولطالما ضجت هيئة الأمم بخطبه ومناقشاته باللغة الإنجليزية من أجل نصرة الحق في القضية العربية.

عاد فارس الخوري إلى بلاده بعد انتهاء عضوية سورية في مجلس الأمن الدولي، وكان قد انتخب رئيساً للمجلس النيابي لعام 1947م عندما كان يمثل سورية في مجلس الأمن. ولكن عندما حل هذا المجلس على أثر الانقلاب الذي قام به حسني الزعيم ثابر فارس الخوري على عمله في الحقل الدولي، وترأس الوفود السورية إلى هيئة الأمم متابعاً نضاله ودفاعه عن القضايا العربية.

في عام 1954م طلب رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي من فارس الخوري تشكيل حكومة سورية، لكنها لم تستمر سوى أشهر معدودة.

اعتكف فارس الخوري في منزله.. يذهب مرة كل عام إلى جنيف ليشترك في جلسات لجنة القانون الدولي التي هو عضو فيها. وأقيمت الوحدة بين سورية ومصر ولم يكن للأستاذ فارس الخوري أي رأي بقيامها أو بانهيارها.

في 22 شباط 1960م، أصيب فارس الخوري بكسر في عنق فخذه الأيسر بغرفة نومه، وكان يعاني من آلام المرض الشديد في مستشفى السادات بدمشق، حينما منح جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية من قبل الرئيس جمال عبد الناصر بناء على توصية المجلس الأعلى للعلوم والفنون.

وكانت وفاة فارس الخوري مساء الثلاثاء 2 كانون الثاني 1962م، في مستشفى السادات بدمشق.

المهم دخل المندوب الفرنسي، ووجد فارس بك يحتل مقعد فرنسا في الجلسة.. فتوجه إليه و بدأ يخبره أن هذا المقعد مخصص لفرنسا ولهذا وضع أمامه علم فرنسا، وأشار له إلى مكان وجود مقعد سورية مستدلاً عليه بعلم سورية ولكن فارس بك لم يحرك ساكناً، بل بقي ينظر إلى ساعته. دقيقة، اثنتان، خمسةاستمر المندوب الفرنسي في محاولة (إفهام) فارس بك: يا حبيبي، يا روحي، (مونامور)، (مون شيري).. هون محل كرسي بتاع فرنسا، محل كرسي بتا ع سورية هنيك، (سيفوبليه) قوم انقلع من هون بدنا نقعد و لكن فارس بك استمر بالتحديق إلى ساعته: عشر دقائق، أحد عشرة، اثنا عشرة دقيقة .. وبدأ صبر المندوب الفرنسي بالنفاذ: يا.... قوم انقلع يا عربي يا متخلف هون مطرح فرنسا الحرة. ولكن فارس بك استمر بالتحديق بساعته، تسع عشرة دقيقة، عشرون، واحد وعشرون.. واهتاج المندوب الفرنسي، ولولا حؤول سفراء الدول الأخرى بينه وبين عنق فارس بك لكان خنقه. وعند الدقيقة الخامسة والعشرين، تنحنح فارس بك، ووضع ساعته في جيبه، ووقف بابتسامة عريضة تعلو شفاهه وقال للمندوب الفرنسي:

(سعادة السفير، جلست على مقعدك لمدة خمس وعشرين دقيقة فكدت تقتلني غضباً وحنقاً، سورية استحملت سفالة جنودكم خمس وعشرين سنة، وآن لها أن تستقل).

وفي هذه الجلسة ، نالت سوريا استقلالها.