صلاح الشربيني
تعلمت من:
أ.د/
جابر قميحةمضى على رؤيتي هذه ما يزيد على نصف قرن , ناظرا إلى المنصورة التي تعد من أهم العواصم المصرية, وأنا آنذاك طالب في المرحلة الثانوية , وجندي من إخوان المنزلة دقهلية . المنصورة كانت تضم آنذاك عددا طيبا من الدعاة ذوي التأثير القوي، والقدرة على التعبير والإقناع :
ومن هؤلاء الأساتذة: محمد العدوي، وعلي فودة نيل، ومحمود حجر، ومن هؤلاء وأظهرهم صلاح الشربيني.
صلاح الشربيني:
عرفته وأنا طالب – أواخر الأربعينيات من القرن الماضي – في السنوات الأربع من المرحلة الثانوية , بين مدرسة المنزلة ومدرسة أحمد ماهر بالمطرية دقهلية , وازدادت معرفتي به , واقترابي منه بعد التحاقي بمدرسة طلخا الثانوية طالبا بالصف الخامس ( شعبة أدبي ) التي تنتهي بمنح (شهادة التوجيهية ) , وقد سميت بعد ذلك : شهادة إتمام الثانوية العامة . أو ما يقرب من هذا الاسم . وقد اختارني الطلاب الإخوان بالمدرسة نائبا للرئيس وهو الطالب عبد الكريم سليم(ابن تمي الأمديد ) . وقد عمل بالصحافة بعد تخرجه , وكان آخر مناصبه - قبل وفاته - : " نائب رئيس تحرير صحيفة الجمهورية " . وأذكر من زملائي من طلاب الإخوان في هذه المدرسة : عادل غنيم " من قرية نشا " – عبد الغني غنيم وشقيقه حسن " من نبروه " – عبد الحليم فصادة " من بيلا " – السيد الدمناوي " من شربين " .
* * *
والأستاذ صلاح الشربيني من " كفر الجنينة " – وهي قرية تبعد عن مدينة " طلخا " قرابة خمسة أميال . وكان يعمل مدرسًا للمواد العلمية في المعهد الديني بالمنصورة. كان خفيف الوزن، ذكيًا حاضر البديهة، قديرًا على الحركة والتصرف، وكان محدثًا بارعًا قوي الإقناع يجمع بين الفكر، والعاطفة في مزج فائق.
ما جالسناه إلا وشدنا إلى حديثه بصوته الخفيض الهادئ. وكان في إقناعه يستعين بأمثلة من الواقع المعيش. وما وضع حلاً لمشكلة إلا وكان هو أنجع الحلول وأوفاها. وكان يتميز بسماحة الداعية ومرونته.
كنا في بيته ذات يوم (وكان الخميس الأول من أحد الشهور) , فسأل أحد الطلبة زميله:
فغضب أحد الإخوة، وقال: عيب يا أخي، أم كلثوم إيه.. وبتاع إيه؟؟
فاعترض الأستاذ صلاح، وقال:
ـ لا ياأخي سيبه يسمع أم كلثوم, يا أخ اسمع أم كلثوم..لكن بجانب ذلك اسمع الشيخ رفعت. وكان واسع الصدر، وعنده لكل نقد أو سؤال جوابه الشافي ومن أمثلة ذلك:
- أنني وجدت منه اهتمامًا خاصًا بعلية القوم، وذوي الغني والحيثيات لجذبهم للدعوة. وكان يعطي اهتمامًا كبيرًا بسعد الشناوي، وهو من أغنى أغنياء المنصورة. فقلت له:
يا أخ صلاح: إن الله سبحانه وتعالى يلوم نبيه قائلاً: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)) (سورة عبس: 1-4). ويقول: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ....) (الكهف: 28).
فأجاب : هذا صحيح، ولكن الله في عشرات من الآيات تحدث عن المحسنين وعن الجهاد بالنفس والمال.. ولا يقدر على ذلك إلا الأغنياء، فالدعوة قامت على أكتاف أمثال أبي ذر، وابن مسعود، وبلال بن رباح، وكثير من المجاهيل الذين لم يذكرهم التاريخ، وكذلك علىأكتاف أثرياء مثل: عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، الذي جهز منماله الخاص جيشًا كاملاً هو جيش العسرة.
ومن طبيعة المجتمع الإسلامي أنه كان يعيش على التكامل فقد ضم القائد الفذ كخالد بن الوليد، وحافظ القرآن كابن مسعود، والإداري البارع كعمر بن الخطاب، وعالم الأنساب كأبي بكر، وراوي الحديث كأبي هريرة.. تخصصات متعددة تكاملت فصنعت نسيج المجتمع الإسلامي، ولو كان المجتمع من القادة العسكرية العباقرة لفسد المجتمع.
- وهناك واقعة تدل على الحكمة، وبراعة التصرف خلاصتها:
أننا كنا جلوسًا في شعبة "ميت حدر" بالمنصورة، وكان للإخوان سيارة برمائية في شكل قارب، ركنها الأخ صلاح خارج الشعبة. وأخذ بعض الأطفال يعبثون "بكلاكس" السيارة، فإذا خرجنا إليهم ولوا هاربين.. كانوا قرابة ستة ما بين العاشرة، والثانية عشرة، ويظهر عليهم أثر الفاقة والتشرد وأخذوا يعيدون الكرة: ضرب الكلاكس بصوته المزعج.. نخرج إليهم.. يولون هاربين.
ولم ينفع تهديدنا لهم.. كل ذلك والأخ صلاح، داخل الشعبة مع مجموعة من طلاب الأقاليم. سألنا: إيه الحكاية.. فأخبرناه بما يحدث.
والحل؟
ـ مفيش فايدة.. لا بد أن يجلس واحد منا في السيارة.
ـ تعالوا معي .. وانظروا كيف سأحلها لكم.
وخرجنا مع صلاح.. وأشار إلى أكبر الأولاد سنًا، وأرثهم هيئة، وكان هو الذي يقود الأولاد في عدوانهم.
ـ تعال متخافشي.. أنا شايف أنك أجدع ولد في الأولاد.. لذلك ستكون العربية تحت مسئوليتك أنت.
وأجلسه الأخ صلاح في السيارة. وعدنا إلى الشعبة، ولم نعد نسمع للكلاكس صوتًا.
ـ شفتم إزاي حلتها لكم في دقيقة.
ـ لكن يا أخ صلاح كيف نستعين بولد قذر مثل هذا؟
ابتسم وقال: أما سمعتم الحكمة الخالدة "إن الله قد ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر".
وكان كريمًا كرمًا حاتميًا. وأذكر في هذا السياق، أننا كنا نتدرب تدريبًا عسكريًا شاقًا في معسكر على ضفة النيل في طلخا.. للتوجه بعد ذلك لضرب الإنجليز في القناة. كنا قرابة ثمانين أخًا من شعب الدقهلية، وختمنا التدريب بعملية بالذخيرة الحية استغرقت ساعة كاملة.. كانت الساعة الواحدة صباحًا. وأصر الأخ صلاح على أن نتناول طعام الإفطار عنده في "كفر الجنينة" التي تبعد عن طلخا بقرابة سبعة أميال، وسيرا على الأقدام وصلنا مع مطلع الشمس. واستيقظت القرية لإكرام ضيوف الأخ صلاح: القشدة، والعسل، والبيض، والجبن، والخبز الساخن، كل ذلك بكميات كبيرة...لقد كانت أمتع وجبة تناولناها في حياتنا.
- وقد أخبرني أحد الإخوة ممن كانوا ألصق اتصالاً بصلاح، أنه أراد أن يتنازل عن كل الأرض الزراعية التي يملكها لصالح فلسطين، والقضية الفلسطينية، ولكن الإمام الشهيد رفض هذا العرض.
فلما ظهرت بوادر المحنة بعد قيام الميمونة سنة 1952م، هاجر إلى السعودية، وهناك تزوج، وأنجب، ولقي ربه في أطهر بقعة ـ يرحمه الله ـ.