علاّل الفاسي
العالم العامل، والمجاهد القائد
عبد الله الطنطاوي
مقدمة:
علاّل الفاسي شخصية عربية إسلامية كبيرة، وداعية إلى الله على بصيرة، كان وما يزال ملء السمع والبصر، علماً، وخطابة، وفصاحة، وأدباً، وشعراً، وجهاداً دؤوباً في سبيل الله تعالى، من أجل نصرة دينه، ورفع الحيف والظلم عن أمّة نبيّه، صلى الله عليه وسلم، ومن أجل تحرير وطنه المغربي، وسائر أوطان المسلمين الرازحة تحت نير الاستعمار الأوروبي الغاشم، وخاصة فلسطين التي كانت في قلبه وعقله وضميره، فلسطين التي اغتصبها الإنكليز أعداء العروبة والإسلام، ثم سلّموا جثمانها الطاهر المبارك إلى أوباش البشر، وأوشاب الخلق، بني صهيون.
علاّل الفاسي عالم مجدّد، وشخصية شمولية متعددة المواهب والجوانب، ومفكر إسلامي رحب الآفاق، بعيد الرّؤى، واضح الرؤية والأسلوب والتفكير والتنظير والتقدير، عليم بأبعاد الفكر الإسلامي وأطواره، وهو واحد من روّاد جيل العمالقة: حسن البنا، والمودودي، والندوي، والسباعي، وقطب، والنورسي، بنزعته الإنسانية، وتوجّهه الفكري، وأسلوبه العلمي الأدبي، وقدرته الفائقة على الخطابة والبيان، وبسلفيته الممزوجة بالحركة والسياسة والتنظيم.
ولكل ما تقدم، كان من الصعوبة بمكان، الإلمام بشخصيته الفذّة في مقال مهما طال، فقد كتب الكاتبون عنه كتباً ولم يوفّوه ما يستأهل من مكانة في سائر مجالي الحياة السياسية والجهادية والفكرية والدينية والاقتصادية والثقافية.
أسرته:
وُلد علال في مدينة فاس في كانون الثاني سنة 1910 من أسرة عربية مسلمة، تعتزّ بعروبتها وإسلامها وجهادها في سبيل الله، وهي أسرة عربية عريقة هاجرت من الأندلس إلى المغرب، واستقرت في مدينة فاس، وإليها انتسبت فقيل لها: الفاسي، وأحياناً: الفهري، نسبة إلى قبيلة بني فهر العربية المجاهدة. وهي أيضاً أسرة علم وفضل ودين، فأبوه عبد الواحد كان من كبار علماء المغرب، وكان مدرساً في جامعة القرويين، وكان قاضياً، ومفتياً، وكذلك كان أجداده من العلماء والقضاة والمجاهدين.
تعليمه:
بدأ حياته الدراسية على يد أبيه العالم الجليل أولاً، ثم أرسله إلى (الكُتّاب) فتعلّم فيه مبادئ العلوم العربية، وحفظ قسطاً من القرآن الكريم، ثم درس في القرويين إلى أن نال شهادة العالمية عام 1932، وكان فيها من المتفوقين، ذلك أنه لم يكتف بالكتب المقرّرة، وهي مهمة وكثيرة وكبيرة، بل أضاف إلى المقرّر ما كان يجده في مكتبة أبيه العامرة بالكتب، فيدرسها بعمق، حتى تحصّلت لديه ملكة علمية قادته إلى التضلع بعدد من العلوم العربية والتاريخية، والشرعية، والفلسفية، جعلت منه عالماً دقيقاً في أبحاثه، ومفكراً من كبار المفكرين الإسلاميين و خطيباً مفوّهاً ناصع البيان، شاعري الفكرة ، عذب الأسلوب.
المؤثرات في تكوينه
1- أبوه العالم المجاهد، وأسرته المتدينة، وأصوله العريقة في عروبتها وإسلامها وعلمها وجهادها..
لقد عُني أبوه بتربيته التربية العربية الإسلامية التي يرضى عنها الله تعالى، وتؤهلّه لخدمة دينه ووطنه وشعبه وأمته، ويكون بها ماجداً وعاملاً لاستعادة أمجاد أمته وإسلامه.. ربّاه على الشجاعة والإقدام وعدم الخوف إلا من الله العزيز الجبار، وربّاه على الجود والكرم أخي الشجاعة ، وعلى الجرأة في قول الحق، والاتزان في إصدار الأحكام بعد تأنٍّ ورويّة.. ورباه على الاستقامة في السلوك، والاستقامة في الفكر، وعدم الشطط في أيّ شأن من شؤون الحياة.. ورباه على الصدق.. صدق اللسان، وصدق اللهجة والعاطفة، وعلى عفّة اللسان والقلم واليد، وعلى الأمانة والإيثار وحبّ الناس، وخاصة الصالحين منهم، والحدب على الفقراء والمساكين، والتواضع لهم، وعلى البساطة في العيش، وسعة الصدر للأصدقاء والخصوم معاً، وعلى الدأب في العمل، وإتقان ما يوكل إليه منه..
ربّاه على حبّ الوطن، والجهاد في سبيل إنقاذه من براثن الاستعمار مهما كلّفه ذلك من ثمن، وعلى مقارعة الظالمين من المستعمرين وأعوانهم وعملائهم، وعلى الإخلاص في القول والعمل، وعلى سائر مكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام..
وكانت شخصية علاّل كالأرض العطشى تتشرب كل ما يُلقى فيها من غيث الله، فتشبّع الطفل والفتى والشاب علاّل وارتوى من كل هذه المعاني، وكان كما أراد له أبوه أن يكون، وكما تريده أمته أن يكون، وبذلك كسب رضى الله عزّ وجلّ، ورضى أبناء شعبه وأمته.
2- بيئته التي تنفّس فيها طفلاً، وفتى يافعاً، وشاباًَ نشأ بها في طاعة الله. بيئة (فاس) المدينة العربية المسلمة، وبيئة (القرويين) العلمية الأدبية المجاهدة التي كان يدرّس فيها أبوه، فتعاونت مع أبيه ومع علمائها الأفاضل على تكوين شخصية القائد والزعيم والعالم المجدّد، والمجاهد المقدام المستبسل في سبيل ما آمن به: علاّل الفاسي.
فعلاّل ابن (القرويين) وسليل أسرة علمية تعتز بإيمانها وإسلامها وعروبتها، وطالما كافح أبناؤها العلماء للحفاظ على عقيدة الأمة، ونشر الإسلام بمبادئه ومكارم أخلاقه.
3- عشقه للحرية عشقاً شاعرياً وعقلانياً، وكرهه للاستبداد والمستبدين، وحكم الحزب الواحد، والاستئثار بالحكم دون شورى وبرلمان وانتخابات..
4- التعاليم والأفكار التي نادى بها السيد جمال الدين الأفغاني، وكلّها أفكار ثائرة بالاستبداد والتخلف والجمود والرضوخ للإقطاع والحكام المستبدين.
5- الدعوة السلفية التي نادى بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم جاء الأفغاني لتتخذ "على يده صبغة جديدة تتسم بطابع الشمول لكل جوانب الفكر والروح والعمل، فأصبحت تهتمّ بالبناء إلى جانب اهتمامها بالهدم، وتبلورت في دعوة قوامها التجديد المطلق لكل مظاهر الحياة الإسلامية، للعقل والدين والعلم، وطريقة المعاش والحكم، وغير ذلك من المعاني".
العالم:
كثيرون هم الذين تخرجوا في جامعة القرويين، ولكن الذين كانوا مثل علاّل قلة قليلة.
وكثيرون هم خريجو الجامعات والكليات الشرعية، وأبناء العلماء والمشايخ، ولكن الذين كانوا مثل علاّل أقلّ من القليل، ذلك أن الرجل حباه الله من المواهب ما بزّ به الأقران منذ كان تلميذاً على مقاعد الدرس، بزّهم بعلمه، ومواهبه، وأخلاقه، وأسلوبه المنطقي الجذاب، وخطابته المؤثرة، فقدّموه على أنفسهم، وجعلوه رئيساً وقدوة لهم.
وعندما كبر، كبرت معه مواهبه، واتسعت علومه، وامتدت نظراته وطموحاته وتخطيطاته إلى بعيد، فكان العالم والمصلح والمفكر والزعيم السياسي، وموقد شعلة الكفاح المسلح من أجل الاستقلال.. وقد تكاملت عدّة شخصيات علمية وإصلاحية في شخصه المهيب.
نهل وعبّ من معين أبيه ومن علماء القرويين، ووقف طويلاً أمام سير عظمائنا الأولين والمعاصرين، وأفاد منهم ضروب العزة والكرامة والاستقلالية في الرأي والموقف.
اطلع على الدعوة السلفية في المشرق، وأحبّها، وأفاد منها في الحرب التي شنّها على الخرافات والبدع وكلّ ما ليس له صلة بهذا الإسلام الحنيف، ونقل الدعوة السلفية إلى المغرب الذي كان يئن تحت وطأة الخرافات والأساطير والمسائل البدعية، فدعا إلى التمسك بالكتاب والسنّة، من أجل صياغة الشخصية الإسلامية السليمة التي يرضى عنها الله ورسوله، ولتكون المؤهلّة لخوض غمار الحياة بثبات، ولمنافسة الآخرين بما امتلأت به وتمتلئ من معاني الإيمان، ومبادئ الدين القويم الصاعد في وجه الأعاصير، القادر على تأهيل الأمة من جديد، بتمسكها بعقيدتها الصافية من كل زيغ، وعملها بما يأمرها به إسلامها القوي العزيز، وباستمدادها من تعاليمه معاني الحرية والكرامة والعزّة العزيزة.
نقل الدعوة السلفية إلى المغرب، ولكنه أهمل منها بعض ما رآه غير مهم، وأضاف إليها ما رآه ضرورياً، وبهذا كانت سلفيته سلفية جديدة بعض الشيء. والذي يطالع كتبه يلحظ هذا، ويثني عليه.
وللأستاذ علاّل إنتاج غزير.. له أكثر من ثلاثين كتاباً في السياسة، والتاريخ، والشريعة، والتربية، وله مئات المقالات نشرها في الصحف المغربية، والمصرية، والسورية، والعراقية، وسواها.. ويا ليت بعض الدارسين المجتهدين من طلبة الدراسات العليا، يجمعون ما كتب، ويبوبونه تبويباً علمياً يكون بمثابة أطروحات ورسائل ماجستير ودكتوراه.. وأنا أعرف أن هذا يكلفّ جهداً عضلياً وفكرياً، ولكنهم سوف يفيدون علماً ومعرفة وثقافة متنوعة، لأنها كتابات عميقة هادفة جادّة، بعيدة الأغوار، تعطي صورة واضحة عن شخصية علاّل، بأبعادها النفسية والفلسفية، يطرح فيها مشروعاً نهضوياًُ ذا بعد مستقبلي.
ويطيب لي أن أشكر الذين بادروا إلى جمع بعض ما تفرق، من تلاميذه ومن رفاق دربه، وأن أعتب على المتقاعسين منهم، الذين يعرفون الكثير أو القليل مما كتب هذا العملاق الذي تناول العديد من الموضوعات الحيوية التي يحتاجها شعبه المغربي، وأمته العربية والإسلامية.
لقد جمع علاّل بين الثقافة العربية الإسلامية، وبين ألوان الثقافات الأجنبية، فقد كان نهماً في القراءة، في سائر مجالي الحياة الفكرية والثقافية والحضارية.. قرأ لعدد كبير من الأدباء والمفكرين والفلاسفة الغربيين، وقام بعملية فرز ميّزت الثمين السمين من الغثّ والهزيل، فمضغ الثمين وهضمه، ونبذ الغثّ ولفظه، فانضاف ما أخذه من الغرب إلى ما كان اختزنه من العلوم العربية والشرعية، ثم قدّمه شهياً لقرائه ومحبّيه وعشّاق الأصالة والتجديد.
ومن كتبه المهمة التي نرشّحها للقراءة والدرس:
1- مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها.
2- المدخل لدراسة النظرية العامة للفقه الإسلامي.
3- دفاع عن الشريعة.
4- عقيدة وجهاد.
5- الحماية الإسبانية في المغرب، من الوجهة التاريخية والقانونية.
6- المغرب العربي منذ الحرب العالمية الأولى.
7- مهمة علماء الإسلام.
8- الإسلام وتحديات لعصر.
9- هنا القاهرة(وهو الأحاديث التي أذاعها من إذاعة القاهرة، إبان وجوده في مصر).
10- بديل البديل.
11- تاريخ التشريع الإسلامي.
12- نضالية الإمام مالك ومذهبه.
13- منهج الاستقلالية.
14- دائماً مع الشعب.
15- الغرّة في أصول الفقه.
16- المدخل لعلوم القرآن والتفسير.
17- الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، وجاء في جزءين، كتبه وهو في القاهرة، بطلب من رئيس الدائرة الثقافية في جامعة الدول العربية الدكتور أحمد أمين الذي أراده أن يكتب فصلاً عن حركات التحرر العربي في المغرب، فألّف كتاباً كبيراً من جزءين عرّف فيه عرب المشرق والمغرب بحركات التحرر في أقطار المغرب العربي؛ الجزائر، وتونس، والمغرب. كتب عن كفاحها من أجل الاستقلال، ومن أجل الوحدة والنهوض.
18- النقد الذاتي. وهذا الكتاب من أ همّ كتبه، مع أنه كتبه في وقت مبكر من حياته، (صدر عام 1954)، أراده برنامجاً للحركة الوطنية، شرح فيه مبادئه وأفكاره، وتصوّراته، وعالج فيه قضايا فكرية، وثقافية، ودينية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية، ونفسية، وحياتية كثيرة، واستخدم في نقده معايير إسلامية، وأخلاقية، ووطنية، وسياسية، وعلمية، وظهر فيه عطاؤه الغنيّ المتنوع، وأنه مثقف عميق، ومؤلف غير عادي، وأنه قائد، ومنظّر عميق الأغوار، سبر الشخصية المغربية بمسبار القيم العربية الإسلامية، لأنها شخصية عربية مسلمة، عرف ما تحتاجه من غذاء روحي وفكري لتنطلق في هذه الحياة فاعلة، مبدعة، متميزة، تأخذ من تراثها ما يفيدها في حاضرها ومستقبلها، ولا تفضل عما يحيط بها من ألوان الثقافات التي تعينها في مسيرتها، بأخذ المفيد والخيّر منها، ونبد ما يتعارض مع عقيدتنا وقيمنا ومبادئنا.
كاتب أطفال:
لم يغفل الأستاذ العلامة، والمجاهد الكبير علاّل شؤون حبّات القلوب، أحبّائنا الصغار، فقد اهتمّ بهم، بتربيتهم وأدبهم وشعرهم، فنظم لهم من شعره الرقيق، وأخرج لهم ديوان (رياض الأطفال) شعراً سهلاً يستطيعون فهمه وحفظه وإنشاده، وزوّده بالرسوم المحبّبة للأطفال، ثم قدّم لهم شعراً قصصياً جميلاًُ فيه أساطير مغربية وأخرى معرّبة، ممّا يحبّه الصغار ويميلون إليه.. وهذا شأن العظماء الذين يرتادون كل روض، ليقطفوا من وروده وأزاهيره ما يفيد مجتمعاتهم وناسهم، ويربي صغارهم.
الشاعر:
والأستاذ علاّل شاعر مجيد، وله ديوان كبير من أربعة أجزاء، وشعره فيه كشعر سائر الشعراء الثائرين أصحاب القضايا الوطنية والتحررية والرسالية؛ إنه شعر خطابي استطاع به إلهاب العواطف، وإثارة لمشاعر نحو القضايا التي تهمّ الشعب والأمة... شعر ملتزم بالإسلام وقيمه، دعا إلى أن يكون الإسلام محور حياة الأمة، فهو صاحب رسالة في شعره، يوظّفه لحملها إلى الناس، وكان أداة ماضية في مسيرة الحياة، يعبّر عن همومه وأشجانه، وعن تطلعاته في مستقبل زاهر لهذه الأمة الماجدة التي نام عن أمجادها كثير من أبنائها الشعراء الذين باتوا يحلمون بالفراش الدافئ الوثير، مع غانية لعوب، وشعوبهم تضوى وتجوع وتعرى، وشبابهم وقود للثورات، ومع ذلك، ما كان كثير من أولئك الشعراء ليرتقوا عن المستوى الهابط، غافلين عما تعانيه أمتهم من لأواء الحياة، وفي مضامير الكفاح الدامي، وميادين العيش البائس التعيس.
لقد حفل شعر علاّل بقضايا أمته العربية والإسلامية وشعبه المغربي، فكان يفرح لفرح المسلمين، كفرحه باستقلال إندونيسيا، ويحزن لأحزانهم، ويرثي قادتهم العظام من أمثال: شكيب أرسلان، وأحمدو بيلو، وسيد قطب، وبعض شعرائهم مثل: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وسواهم، ويدعو إلى وحدة العرب والمسلمين، ويأسى لما أصاب فلسطين على أيدي الغربيين الذين قدّموها إلى اليهود لقمة سائغة؛ لقد بكى واستبكى ودعا المسلمين إلى ثورة فكرية وتحررية عارمة على أولئك الأنذال بحيث لا تبقي منهم ولا تذر، وتعيد الحقوق إلى أصحابها الشرعيين.
والشاعر علاّل اتباعي الأسلوب، ولكن (كلاسيّته) لم تمنعه من ارتياد رياض الشعر الحر، فنظم فيه، ولم يقف منه موقف العداء، مثل كثير من شعراء (الإسلامية) الذين نسوا أن أول من نظم واخترع هذا النمط الجديد من الشعر، هو الشاعر العربي الحضرموتي الإسلامي الكبير: علي أحمد باكثير، وليس سواه كما يزعم الزاعمون.
في المجامع العلمية:
ولأن علاّلاً بلغت شهرته ما بلغ الإسلام والعربية في المشرق، وطبّقت شهرته آفاقه، اختاره المجمع اللغوي في القاهرة، عضواً مراسلاً له، وكذلك فعل مجمع اللغة العربية بدمشق (المجمع العلمي العربي بدمشق).
في الإعلام:
كان الأستاذ علال عارفاً أهمية الإعلام بأساليبه الحديثة التي تمكّنه من حمل أفكاره ونقلها إلى عدد أكبر بكثير مما يستطيعه الكتاب، على أهمية الكتاب، وكان مما أتيح له من وسائل الإعلام، الصحافة والإذاعة، فلم يضيّع فرصة أتيحت له إلا اهتبلها وبادر إلى استخدامها، فكانت له أحاديثه الإذاعية في إذاعة القاهرة، أو الإذاعة المصرية التي شرح فيها قضية بلاده، وكل بلاد العروبة والإسلام بلاده، تحدّث عن القضية المغربية، وعن الاستعمار الغاشم الذي هو من جملة الحملات الصليبية، وامتداد لها في العصر الحديث، وعندما كانت تأتيه الفرص في الإذاعات العربية والإسلامية الأخرى، يسرع إليها، ويفضي إلى مستمعيه بما ينبغي للداعية والسياسي والمجاهد أن يفضوا به إليهم توعية لهم، وشرحاً لقضاياهم، وتوجيهاً.
كما كتب في الصحابة المصرية وغيرها من الصحف العربية والأجنبية، ولم يكتف بهذا ، بل عمد إلى تأسيس مجلة باسم (التضامن الإسلامي) شرح فيها فكرة التضامن بين الشعوب المغربية والعربية والإسلامية، والفوائد الجليلة التي تجنيها الشعوب منها. كما أسس جريدة (العلم) لتكون الناطقة الرسمية باسم حزب الاستقلال الذي أسسه ورأسه..
علال المجاهد:
منذ فتح الطفل علال عينيه على هذه الدنيا، ووعى ما يحيط به، رأى شعبه ينوء بثقل المستعمرين الغزاة الذين جاؤوا ليعتدوا على أرضه وكرامته ودينه، وينهبوا ثرواته، وينفّسوا عن أحقاد تاريخية دفينة أتاح لهم ضعف المسلمين التنفيس عنها، في مظالم قاسية لم توفّر دماً، ولا عرضاً ولا مالاً، ولا أخلاقاً، ولا شيئاًُ تطوله أيديهم وقواهم العسكرية الهمجية.
وعندما بلغ مبلغ الفتيان، وصار تلميذا نجيباً، بادر إلى تشكيل جمعية طلابية معادية للوجود الاستعماري على أرضه، وانتخبه الطلاب رئيساً لها، لما أوتي من صفات تؤهله للقيادة، فكان يقود المظاهرات ويشارك في المؤتمرات التي تندد بالاستعمار، وكان أبوه يحرّضه ويشجعه على النضال، ويرى فيه من الذكاء والصلابة ما يجعله زعيماً مجاهداً في قابل الأيام.
ثم شكّل كتلة العمل الوطني، وانتخب رئيساً لها، وعندما قرر الاستعمار إلغاءها سارع إلى تشكيل الحزب الوطني برئاسته أيضاً، وعقد مؤتمرات شعبية، خاطب فيها الجماهير الغفيرة، وشرح لها أهداف كتلة العمل الوطني، وأهداف الحزب الوطني، ولخصها بوجوب انسحاب الاستعمار الفرنسي من دياره، وبالاستقلال التام.
ومن أجل هذا الهدف النبيل، بادر إلى تشكيل جيش التحرير وهو في القاهرة، وزوّده بالرأي وبالمال والسلاح، فهو لا يرضى ولا يرتاح، إلا إذا رأى بلاد العرب والمسلمين تعيش الحياة التي ترتضيها لنفسها في جواء العروبة والإسلام، حياة عزيزة كريمة، كتلك التي كانت لأجدادها في العهود الزاهرة.
وكان يناضل الفرنسيين من أجل حماية الشخصية الإسلامية بالإسلام، من أخطار خطيرة، جاءت بها فرنسا المستعمرة، هي خطر الكهنوتية، وسلاح الإلحاد، وسلاح العهر والفجور والدعارة والخمور.. كان يقول للناس: فرنسا لا تريد لنا تقدماً إلا بالتفرنس والبعد عن العروبة والإسلام، وعن كل ما يمت إليهما بصلة من القيم والفضائل، وإلا باستبدال اللغتين: الفرنسية والبربرية باللغة العربية، وإحلالهما محلها.
كان يرى في الاستعمار أكثر من لون قاتم:
- فهناك الاستعمار السياسي المدعوم باحتلال عسكري غاشم.
- وهناك استعمار اقتصادي لعله أخطر من الاستعمار السياسي أو لا يقلّ عنه خطراً.
- وهناك الاستعمار الثقافي الذي يستهدف هوية الإنسان المسلم في دينه، وعروبته، وتاريخه، ولغته، وسائر قيمه.
لقد كان علاّل عدواً لدوداً للاستعمار بشتى أشكاله وألوانه، وخصماً عنيداً للمتعاونين معه والمهادنين له، وكان المستعمرون يعرفون هذا منه، ويقفون في وجهه بقوة، ولكنه ما كان يبالي بما يصيبه من أذى في سبيل تحقيق الهدف الرئيس له، ألا وهو الاستقلال.
الاعتقال والمنفى:
من أجل ذلك، تعرّض علال للاعتقال مراراً، وكان في كل مرة يخرج من معتقله أشدّ إيماناً بقضيته، واستمساكاً بها، ورفضاً لأيّ تفاوض مع المستعمر إلا بعد الجلاء والاستقلال.
في عام 1930 اعتقلته السلطات الاستعمارية، على أثر المظاهرات التي قاد بعضها، وشارك في بعضها الآخر، ضدّ مشروع (الظهير البربري)، وضربوه وعذّبوه، ثم نفوه إلى بلدة (تازة) وعندما أفرجوا عنه، عاد إلى مدينته (فاس) عام 1931 وحاول العودة إلى التدريس، فمنعته السلطات الاستعمارية، فصار يدرّس الناس في بيته، ويتابع دراسته في القرويين.
وفي عام 1937 أعادوا اعتقاله، ونفوه إلى الغابون في إفريقيا الاستوائية، وبعد أربع سنوات (1941) نقلوه إلى الكونغو خمس سنين أخرى، فكان مجموع سني نفيه تسع سنوات أمضاها مقطوعاً عن العالم الخارجي، فلا صحف ولا زيارات، ولا لقاء بأحد سوى سجّانيه الفرنسيين القساة العتاة الذين كانوا يمارسون ألواناً من التمييز العنصري، كما رأى الظلم الذي يوقعه الفرنسيون بالأفارقة السود.
وأفاد السجين المنفي علاّل من عزلته هذه، وانطلق يفكر في الأساليب التي يجب أن ينتهجها من أجل تحرير وطنه وشعبه من ربقة الاستعمار، وكان يهتبل فرصة وجود بعض الضباط السجانين والزائرين، ليشرح لهم قضية شعبه، ويحاورهم في ضرورة استقلاله بكل جرأة وصراحة ووضوح، فيلقى الصدّ والتعنيف حيناً، والاحترام والقبول حيناً آخر، وكان بعض أولئك الضباط والمحاورين ينقلون إلى رؤسائهم آراء علال، وكان بعضهم يتعاطف معه.
قال له المسيو لوارنسييه يوماً:
"إن وزارتي الخارجية، الإنكليزية والأمريكية طلبتا من الجنرال ديجول إطلاق سراحك رسمياً، وأن تدخل مع جيوش الحلفاء، مع قبول شرطك في إعلان الاستقلال... ولكن الجنرال ديغول غضوب مثلكم، فقد كان يريد وضع حل للقضية المغربية بالاتفاق معكم، ولكن طلب الإنكليز والأمير كان إطلاق سراحكم، وإعلان استقلال المغرب، أحدث في نفسه تخوّفات، وبعث فيه روح الرجل الذي لا يحب أن يعمل تحت الضغط".
وهكذا كان علاّل ملء السمع والبصر والعقل والقلب، يحاربه أعداؤه والمستعمرون، ويضيقون بأفكاره الوطنية والعربية والإسلامية، فيعتقلونه وينفونه، ويعذّبونه، ولكنهم يحترمونه، ويعرفون أنه الناطق الرسمي باسم الشعب الغربي، والممثل الشخصي له، وكلمته هي الكلمة الفصل، وحزبه هو الحزب الذي يجب أن يتفاوضوا معه، فمسيرة الرجل المجاهد علاّل، وشخصيته الفذّة، ومواقفه الصريحة الجريئة التي كلفته الكثير من الأذى، وأقنعتهم أن علالاً هو الرجل الجدير بالتفاوض والاحترام، لأنه ما كان يعمل لمجد شخصي، أو مصلحة ذاتية أو قبلية أو حزبية، وإنما كانت كل تلك التكاليف ثمناً لمبدأ آمن به وناضل من أجله، هو إنجاز الاستقلال لأرضه وشعبه.
أسفاره:
كان علاّل كثير الأسفار، وسيع الاتصالات والعلاقات بالحركات التحررية والاستقلالية والعربية والإسلامية، وكانت صلاته بالمشرق العربي وثيقة عميقة، وكنا، ونحن صغار، لا نكاد نعرف من المغرب العربي سوى علال الفاسي، يقيم في القاهرة، ويزور دمشق وبغداد، ويكتب في صحفها، ويحاضر في منتدياتها، ويتحدث في إذاعاتها، ويحاور قادتها، ويعقد الصداقات والمودات مع رجالاتها، فعرفناه معرفة جيدة وعن كثب، وأحببنا منطقه ولهجته المغربية، وحاولنا تقليده فيها، كما كنا نعرف ونقلّد ونحبّ مشايخنا: البشير الإبراهيمي، والفضيل الورتلاني من الجزائر، ومحيي الدين القليبي من تونس، وسعيد رمضان، وعبد الحكيم عابدين، وعبد العزيز علي، وعز الدين إبراهيم،وسعد الدين الوليلي من مصر.
زار العواصم العربية والأوروبية وأمريكا من أجل تحرير بلاده واستقلالها، ومن أجل تحرير سائر بلدان المسلمين، وخاصة فلسطين التي كانت تتمركز في عقله وقلبه، والقدس الشريف، فقد أولاهما جلّ اهتمامه، لأنهما قضية الإسلام والمسلمين في العصر الحاضر، ولا ينبغي للعرب والمسلمين أن ينشغلوا عنهما لحظة من زمن، ولا ينبغي لهم أن يقدّموا عليهما أيّ قضية أخرى، فهما الأولى في سلّم الأولويات.
لقد بذل علاّل كثيراً من أجل فلسطين والقدس، حتى آخر نفس من أنفاسه الطاهرة، فقد كان في بوخارست عاصمة بلغاريا ينافح عن فلسطين والقدس، عندما أصابته نوبة قلبية توفي على إثرها وهو يهتف بالعالم: فلسطين عربية مسلمة، وعاصمتها القدس الشريف.. كان ذلك يوم الاثنين في العشرين من شهر ربيع الثاني عام 1394هـ-الثالث عشر من أيار 1974، ونُقل جثمانه الطاهر إلى المغرب، وووري في مثواه في هذه الدنيا في مقبرة الشهداء في مدينة الرباط.
مع الجماهير:
كان علاّل زعيماً حقيقياً، نال الزعامة عن جدارة، فقد تجمّعت لديه كلّ مقوّمات الزعامة والقيادة، وجعلته يمتلك ناصية الشارع السياسي في بلاده، فكان الأبرز بين سائر الزعماء الوطنيين، وكان الأقرب إلى قلوب الناس، فأقبلوا عليه يستمعون له، ويتحاورون معه، ويخرجون من عنده وقد ازدادوا به ثقة، وله سمعاً وطاعة، فقد قرؤوا في عينيه وفي قسمات وجهه كلّ الصدق والإخلاص، ووجدوا عنده الدفء، الذي طالما افتقدوه لدى الوجهاء والعلماء.. كانوا يسمعون كلماته العذبة التي تحمل لهم جوانب من عقله الكبير، فتنفذ إلى عقولهم، وتلتقي قلوبهم قلبه الكبير العامر بالحنان والحبّ، فيرونه واحداً منهم، ولكنه يكبرهم فيحنو عليهم حنوّ الكبير على الصغير.
كان شعوره كشعورهم، يجلس إلى الفقراء والبسطاء منهم.. إلى العمال والفلاحين، ويستمع إلى همومهم ومشكلاتهم، ويسعى في حلّها كأيّ أخ كبير مع إخوته الذين يصغرونه.. يقدّم لهم العون، ويفرح لأفراحهم، ويترح لأتراحهم، ويتسع صدره لسلبياتهم وإيجابياتهم ويقدّم لهم من ذات نفسه وراحته وماله بأريحية ورضى لكل من الخصم والنصير.
المنظّم:
كان علاّل منظّراً ومنظّماً.. ظهرت هاتان فيه منذ صغره عندما أسس جمعية طلابية ضد الاستعمار الفرنسي،وتسلّم رئاستها، ثم في كتلة العمل الوطني، ثم في الحزب الوطني، ثم في حزب الاستقلال ثم في جيش التحرير، ثم في تأسيس نقابة للعمال، وعندما كان مدرساً في المدرسة الناصرية التي أسهم في تأسيسها، والتخطيط لمناهجها وبرامجها.
ثم وهو وزير للشؤون الإسلامية، ثم وهو وزير للعدل، ثم وهو رئيس للمجلس التأسيسي الذي وضع دستور المغرب عام 1960، وترك علاّل بصماته بوضوح عليه. ثم في مجلس النواب الذي اختير عضواً فيه عام 1963 وكانت بصماته ظاهرة في قراراته، ثم وهو رئيس منتخب لهيئة دائرة معارف المغرب، ثم وهو عضو في رابطة العالم الإسلامي.
حزب الاستقلال:
شكّل علاّل حزب الاستقلال بعد عودته من منفاه عام 1946 ودعا في دستوره إلى انضمام بلاده إلى الجامعة العربية الوليدة، بدلاً من (الاتحاد الفرنسي) الاستعماري.
وقد وضع لهذا الحزب نظامه الخاص، ووضح رؤاه للحاضر والمستقبل، ولعل أهم ما نادى به:
- الاستقلال.. فهو الشرط الأساسي لإقلاع المغرب، والنهوض به، وهذا الاستقلال يعني وحدة سائر التراب المغربي، وتحرره من الاستعمار البغيض.
- الحرية بسائر أشكالها الفردية والجماعية.. حرية التعبير، وحرية الاجتماع، وحرية العمل الحزبي.. الحريّة التي لا يحدّها سوى حدود حرية الآخرين،ولا تقف إلا عند تخومهم فلا تتعدّاها.
- وهذه الحرية جزء من الديمقراطية التي تتفق في بعض جوانبها مع مبادئ الإسلامي وتعاليمه، لأن المغرب عربي مسلم وجزء من الأمة الإسلامية.
- ولهذا طالب بدستور ديموقراطي يعترف بحقوق الإنسان.
- ورأي أن يُنصّ في الدستور على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وعلى أن الإسلام هو دين الدولة.
- وأن ينص على أن المغاربة متساوون أمام القانون، ولا امتياز لأحد على أحد.
- وأن يكون القضاء عادلاً مستمداً من الشريعة الإسلامية، ومن مبادئه رفعُ المستوى الأخلاقي للشعب.
- وأن يكون التعليم مجانياً وإجبارياً.
- وأن تكون الرعاية الصحية للجميع، وفي تحسّن مطّرد.
- وأن ينص على تحسين أحوال العمال والفلاحين وسائر الفقراء.
- وأن تكون السياسة الخارجية منسجمة مع المصالح العربية التي تربطنا بها روابط دينية وتاريخية وثقافية، وبالانضمام إلى جامعة الدول العربية، يبني المغرب مع العرب صرح سلام عالمي، يكون لصالح البشرية جمعاء.
الوحدوي:
كما علاّل داعية التحرير والاستقلال، هو داعية الوحدة والتوحيد، والوحدة عنده محصورة في أربع دوائر:
الأولى: وحدة التراب المغربي، أو الوحدة الوطنية، وكان علال رمزها الكبير، والمنافح عنها، والمستميت في سبيلها، المتصدّي لمن يعمل من أجل زعزعتها، استعماراً كان أومن أصحاب الأهواء والمصالح الشخصية الضيقة، أو المنافقين والعملاء في الداخل.
الثانية: الوحدة المغاربية التي تجمع وتوحّد الأقطار الثلاثة: المغرب، والجزائر، وتونس، بل إنه يجعل القطر المصري مشمولاً بهذه الوحدة، لأنه امتداد طبيعي وتاريخي لأقطار المغرب العربي.
دعا إلى هذه الوحدة بقوة، وعدّها ماهدة للوحدة العربية الكبرى.
الثالثة: الوحدة العربية الشاملة لسائر أقطار العروبة، ويعدّها مقدمة للوحدة الإسلامية. ويرى أن مقوّمات هذه الوحدة موجودة بقوة، وأهمها الإسلام، واللغة العربية، والتاريخ المشترك، وسواها من المقومات الطبيعية والبشرية.
الرابعة: الوحدة الإسلامية.
ألقى علاّل محاضرة قيمة ومرتجلة في (رابطة العالم الإسلامي) في مكة المكرمة في الرابع عشر من ذي الحجة عام 1388-5/3/1969م بعنوان: (نحو وحدة إسلامية) دعا فيها إلى الاتحاد الإسلامي، أو إلى التضامن الإسلامي الذي كان الشغل الشاغل للعديد من المفكرين والقيادات الإسلامية، كالملك فيصل، والرئيس أحمدو بيلو وسواهما، وكان علاّل من أشدّ المتحمّسين لها، الداعين إلى قيامها، وكان جمال عبد الناصر ومن معه من القوميين واليساريين والعلمانيين من أشدّ المعادين لها في تحركاتهم ومؤامراتهم وإعلامهم البذيء وهذه الدعوة أثمرت (منظمة المؤتمر الإسلامي) عام 1969 بعد إحراق المسجد الأقصى.
دعا إلى وحدة المصالح في الأمة، وإلى التضامن الإسلامي، فهو وحده الكفيل بتحرير الشعوب الإسلامية الرازحة تحت الاستعمار في فلسطين وكشمير، والفلبين، وتشاد، وسواها. ولهذا وقف بقوّة ضدّ مؤامرة فصل بنغلادش عن باكستان عام 1971.
وقد حدّد علاّل مقوّمات هذا الاتحاد أو التضامن بأربعة تواحيد:
1- وحدة العقيدة.
2- وحدة الربوبية. أي التزام الشريعة المنبثقة من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلقاء القوانين الوضعية، وهي قوانين أجنبية دخيلة.
3- وحدة المواطنة، بحيث يكون المسلم أخا المسلم حقيقة، فإذا أصيب مسلم أو بلد إسلامي، فالمسلمون كلهم مدعوّون إلى الجهاد في سبيل الله ، من أجل إنقاذه.
ووحدة المواطنة تعني حبّ سائر أقطار الوطن الإسلامي، وأن جميع المسلمين يتمتعون بجميع الحقوق، ويقومون بجميع الواجبات في سائر بلاد الإسلام، وكأنهم في أوطانهم الصغيرة.
4- وحدة اللغة: وهي اللغة العربية التي دعا إليها الإسلام، وجعلها من مقاصده، وأنزل بها القرآن، وهي لغة المسلمين جميعاً، وليست لغة العرب وحدهم. ولهذا يراها أكبر مقوّم من مقوّمات الوحدات الأربعة، بعد الإسلام.
5- وحدة الجنسية: وجنسية المسلم عقيدته، ولا فرق بين عربي وحبشي ورومي وصيني وفارسي إلا بالتقوى.
سمّى الأستاذ علاّل هذه المقومات والعناصر بتواحيد الإسلام التي يمكنها توحيد المسلمين ، إذا تحرّك القادة، وخلصت النيات.
أهم أفكاره:
1- إذا تعذر قيام الوحدة الإسلامية فلا أقلّ من وحدة الفكر، ووحدة الكلمة، ووحدة الموقف، فالله وحده يدعونا إلى هذه الوحدة التي لا تتعارض مع الوحدة الوطنية، ولا مع الوحدة العربية، والأفريقية، بل إنها تتلاقى في الأهداف والغايات، وتشترك في المنطلقات والمرتكزات. وكلها تعمل من أجل الإنسان وكرامته والنهوض به مادياً ومعنوياً. وهذه الوحدة إنما تقوم على أساس العقيدة النقية الصافية من أوشاب الخرافات والمصالح الشخصية، أما تمزّق الأمة، فأسُّ البلاء فيها.
2- يرى أن تستجيب الحركة الوطنية لحاجات الأمة ورغباتها "لأن الغاية من كل حركة وطنية، هي تحقيق الآمال التي تختلج بأفكار الشعب… وكل مجهود لا يتضمن هذه الغاية وإنجازها، هو مجهود لا قيمة له" لأن الشعب في مسيس الحاجة لمن يهتم بدراسة أمانيه الحقيقية كما يفكر بها، وكما يريدها في أعماقه.
3- كان يقول:
"ما أحوج المسلمين اليوم إلى الرجوع للدين كما أُنزل غضّاً طريّاً، وما أحوجهم للتحرر من عقدة النقص التي ركّبها المستعمر الأجنبي في بلادهم، حتى أصبحوا لا يفهمون ولا يقدّرون إلا بمقاييس المستعمرين".
وكان يندد بالغزو الفكري، والثقافي، والتأثر بالثورة الفرنسية، وبسائر الأفكار الأخرى، في تركيا العلمانية، وفي سواها من بلاد المسلمين.
4- يجب أن تكون السياسة في خدمة الدين، وليس العكس.
5- الإسلام هو الحل لسائر مشكلاتنا، فهو دين الحياة، ومن أجل الحياة، ونزعته الإنسانية تشمل الإنسان والحيوان والنبات.
6- يرى أن الاستعمار لم يحدث من الخراب في الأرض والأجسام، مثل ما أحدثه في العقول والقلوب والأفهام، فكان عاقبة أمرهم أن تسلطت عليهم هذه الحكومات البوليسية في كل مكان، تصليهم ظلماً، ولا تألوهم اضطهاداً وهضماً… وسيبقى المسلمون كذلك، ما داموا ينشدون العدل من غير الإسلام، والصلاح من غير القرآن.
7- يرى أنه لا بدّ من القدوة الذي يقتدي به الناس، ويهتدون بهديه فكرياً وسلوكياً.. ذلك الإنسان المسلم النقي الذي يكون فوق الشبهات، يزهد بما في أيدي الناس، يعطي ولا يأخذ، ويتسامى عن ألوان الحطام، الذي يقتتل حول الناس.
الخاتمة
هذا غيض من فيوضات هذا القلم العالم العامل المجاهد الذي افتدى دينه وشعبه وأمته بكل ما يملك من مال، ووقت، وراحة، وحرية، وكان من العلماء المجددين، تجاوزت سمعته الطيبة حدود المغرب، إلى المشرق، وإلى سائر بلاد المسلمين، فكان قطباً من أقطابهم في عصره، وما زال تأثيره في الأجيال التي تلته..
لقد كان الإسلام هو الحادي لمسيرته منذ نعومة أظفاره، إلى التحاقه برحمة الله تعالى، لم يحد عنه، ووقف شامخاً في وجه الأعاصير التي أرادت أن تعصف به، كفعل سائر المجاهدين الغيورين الشامخين بهذا الدين العظيم، لا يطأطئون لعاصفة هوجاء،ولا يرزحون لنير ظالم مستبد، جذوره ضاربة في أعماق أرضه، وهامته تناطح السحاب.
المصادر والمراجع
1- كتب الأستاذ علال الفاسي.
2- جريدة (العلم) المغربية- عدد 27/1/1420هـ.
3- النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين. للدكتور محمد رجب البيومي – المجلد الثالث.
4- ملامح من شخصية علال الفاسي. للأستاذ عبد الكريم غلاب.
5- رجال عرفتهم. للأستاذ أبي بكر القادري.
6- مثقف الحرية والإصلاح. للأستاذ محمد شكري سلام.
7- الأعلام. للأستاذ خير الدين الزركلي.