مع الرافعي
محمد علي الكاتبي
الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وأجرى لسانه بالفصاحة وسقاه من نميرها السلسال، والصلاة والسلام على من تبوأ من الفصاحة سنامها فتبلجت في الحديث الشريف فهو القائل: أنا أفصح من نطق الضاد وصدق حيث يقول: ".. وأوتيت جوامع الكلم" صلى الله عليه وآله وصحبه أطواد البلاغة ومثاقيل الحكمة والفصاحة. وبعد..
فإن الأدب وإن عظم في الشرف شأنه وسما على سائر العلوم الدنيوية قدره، إلا أن علم البيان هو أمير فروعه وواسطة عقوده فلولاه لم تر لساناً يحوك الوشي من حلل الكلام وينفث العبق فيفتق براعم الأزهار من الأكمام..
وصاحبنا في هذا المقال رجل أحب اللهُ سبحانه أن يبوئه من عالم البيان مكانة أقر له بها الجميع ولم ينازعه فيها أحد حتى خصومه وهم كثر.. ذلكم هو مصطفى صادق الرفعي.. رحمة الله عليه.
رجل كبعض من ترى من الناس لا تلمح له امتيازاً في الخلق يدل على نفسه أو عبقريته.. تلقاه في الطريق بيده عصا لا يعتمد عليها ولكنه يهزها في أمام ووراء..متأبطاً بيسراه عديداً من الكتب والصحف والمجلات ماشياً على حيد الطريق(1).
لكن الذي يغوص داخل نفسه تتجلى له ملحمة طويلة في الجهاد والعراك ومن قلب هذه الملحمة تألق أدب وتسامي بيان.
نشأ الرافعي في أسرة سورية وفد جدها على مصر لولاية القضاء بها فأبوه وأجداده وأعمامه كانوا يتناوبون قضاء مصر.. ولأجل ذلك فهم يُنشِّئون أبناءهم ويعدونهم لاستلام هذا المنصب الذي يحتاج إلى علم وثقافة عالية..
فحفظُ القرآن الكريم والحديث الشريف والكثير من متون الفقه والأدب واللغة حري أن يتم ولما يبلغ الصبي العاشرة ليكون قادراً على المناقشة والتلاحي وعلى ذلك النهج نشأ الرافعي..
ونحن عندما نكشف عن هذه البيئة الفقهية الشديدة التمسك فإنما نكشف عن بعض أصول النزعة الأدبية عند الرافعي ونعني بها البيان والصلة بين اللغة والدين..(2) فإنك "لا تجد ذا دخلة خبيئة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة.."(3).
وقد أصيب الرافعي في يفاعته بحمى تركت أثرها في سمعه فأبطلته وكفت الرافعي عن مواصلة العلم الرسمي فانقطع للمدرسة التي أنشأها لنفسه إذ وجد في مكتبة أبيه وجده زاداً كبيراً من كتب الدين واللغة والأدب فأكب عليها إكباب النهم فلا تراه إلا وفي يده كتاب يطالعه.
أما نوع الثقافة التي أخذ الرافعي نفسه بها فهي ثقافة عربية صرف.. فهو لم يتابع فرنسيته التي أخذ أولياتها من المدرسة فكان انقطاعه عن الثقافة الغربية عاملاً قوياً في إجادة العربية وتمكنه من أسرار بيانها ولا أدل على ذلك من كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية.." وقد ألفه في سن مكبرة وهو أول كتبه النثرية فقد كان الرافعي قبله صاحب شأوٍ رفيع في الشعر شهد له شيوخ الشعر وقتئذ" عبد المحسن الكاظمي ومحمود سامي البارودي وقدماه على شعراء عصره ثم جدت في حياته أمور صرفته عن الشعر إلى النثر بعد أن ترك عدة دواوين شعرية أهمها ديوان الرافعي في ثلاثة أجزاء ما بين سنة (1319 - 1323هـ) وديوان النظرات.. وغيره وعشرات القصائد مبثوثة في حنايا كتبه وما ترك من مخطوط.
وأعود لأقول: إن السبب في تأليف تاريخ آداب اللغة العربية هو ثورته على المناهج الجامعية في ذلك الوقت وعدم رضاه عن كل ما يلقى في تلك الجامعة من دروس في اللغة والأدب.. ذلك الكتاب الذي يشم القراء منه رائحة أجدادهم العطرة ويرون فيه أسلوب آبائهم..
ويشاء الله أن يكون عصر الرافعي عصر تعاضد الدول والقوى المعادية للدين واللغة والشرق فهيأ الله الرافعي لفضح هذه المؤامرات وهتك أستارها.. مهما تلفعت ببريق الأسماء الخلابة كتجديد الأدب وتطوير اللغة.. وتسهيل الكتابة وتوضيح الإعراب إلى ما هنالك من أسماء براقة تبطنت بالكيد للغة العرب وأدبهم وتراثهم..
وهو عصر الصراع الناشب في مختلف مناحي الحياة عامة والثقافية والأدبية بخاصة.. فترى المحافظين والمجددين وهؤلاء المجددون على مذاهب فمنهم من ينكر التراث العربي كله ولا يرى غير الفكر الأوروبي وحضارته أساساً للإصلاح وقد تبنى هذا الرأي سلامة موسى في كتابه "اليوم والغد" والدكتور طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر..".
ومنهم من راح يخلط بين التراث العربي والحضارة الغربية.. وكانت مشكلة القديم والجديد وكثر الكلام فيها وشغل الرأي العام بالمعارك العنيفة التي دارت بين أنصار المذهبين..
وبعد هذه اللمحة يمكن أن نلم ببعض عناصر شخصية الرجل وملامح تكوينه..
نشأ نشأة إسلامية فيها اعتداد مورث بالقيم الدينية - واللغة وآدابها أصل من أصول هذه القيم. وبيئة لغوية وثقافية عامة بلغ الرافعي في حداثته من رقيها أيما مبلغ ثم.. ثم عاهة باعدت بينه وبين الناس "فانقطع عن شواغل الناس بالسمع.. فأصبح عالم المكتبة العربية وسلم لسانه وذوقه من مزالق العامية إلى الحد الذي صار فيه قاموساً.. كما يقول الزيات(4).
وبهذه المناسبة يروي لنا العريان طرفة: هي أن الرافعي إذا احتاج إلى كلمة عامية يستعملها في بعض كلامه لتكون ذات دلالة.. لجأ إلى العريان ليترجم له من الفصحى إلى العامية.. وهذا ما نلاحظه في بعض مواضع من كتابه "على السّفّود"(5) وأخيراً تأتي الموهبة لتربط بين تلك الملامح وتخرج من ذلك كله عند الرافعي بمنهج واضح المعالم والحدود هو المنهج البياني.."
وسر هذا المنهج يرجع إلى طبيعة العربية التي هي لغة مجازية في أصولها تقوم على الفعل الذي هو رمز الحركة فتفرع عنه الكثرة من المشتقات. وهذه خصيصة تقضي على الجمود والتعقيد وتفتح باب الاشتقاق إذا كانت هناك مناسبة.. "وقد كان العرب أصحاب أذهان حديدية وكانوا لا يكتبون فاضطرهم ذلك إلى الإبداع في ألفاظهم وطي المعاني الكثيرة في الكلمات القليلة والاكتفاء باللمحة الدالة والإشارة الموجزة والكناية الرائعة والتفنن في أساليب القول.. على وجوه شتى ومذاهب كثيرة" (6).
إذن فطبيعة اللغة لا تحجر على الأديب وإنما تملي له التصرف وإدارة الكلام على مشتهاه، ولكن ضمن ما سماه الرافعي بـ (نصاب اللغة) فاللفظة في يد الأديب كمادة الألوان في ريشة الفنان.. ذلك بأن يستعمل كل الطرق المشروعة في العربية من استعارة ومجاز..
وليست الألفاظ وحدها عماد (البيان).. بل الأهم طريقة السبك أو الصياغة التي تمسك المعنى.. المختلج بالنفس لتخرجه للقارئ على الصورة المحسوسة ومنزلة الأديب مرتبطة بقدرته على جلاء ما في نفسه للناس بثوب بياني قشيب فالبيان عنده "بقية من منطق الإنسان اختبأت في زاوية النفس فما زالت الحواس حتى وزنتها على ضربات القلب وأخرجتها بعد ذلك ألحاناً بغير إيقاع" ونتساءل هل ملك الرافعي هذه الأداة؟ وهل تصرف بها كما يشتهي؟. والجواب على ذلك تجده أولاً في أسلوب الرجل وثانياً فيما قاله فيه أدباء عصره ونقاده..
فأما الأول فهو ما نراه حقاً في أدب الرافعي إذ قلما تتبدى معانيه في غير ما نوع من استعارة أو صورة من تشبيه أو غير ذلك من عناصر البيان وهذه هي أخص نزعاته الفنية وما تعني به من صنوف المجاز.." على حد تعبير الدكتور علي حلمي مرزوق(7).
ولولا خشية الإطالة لوقفت هنا بالتحليل لنماذج من أدبه..
كما نجيب على ذلك بإجابات أدباء ونقاد عصره أيضاً.. فالزيات صاحب الرسالة يقول: "بلغ علم الرافعي -رحمة الله عليه- بالعربية حد الاجتهاد بالرأي فكان يقف في التحليل والاستنباط من ثقاتها ورواتها موقف الند.. وقد يتعاظم أحياناً فيقف منهم موقف الأستاذ.. فهو في أدبه مطلق الحرية مستقل الإرادة في حدود المأثور من بيان العرب"(8).
وهذا هو الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد: وهو للرافعي خصم لدود لا يملك إلا أن يقر له بهذا المقام الرفيع فيقول: "إنه ليتفق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما لا يتفق مثله لكاتب من كتاب العربية في صدر أيامها"(9).
ويقول أحمد لطفي السيد: "أما أسلوبه - يعني الرافعي- فإنه سليم من الشوائب الأعجمية التي تقع لنا في كتاباتنا- نحن العرب المتأخرين - فكأني -وأنا أقرأ له- أقرأ من قلم المبرد."(10).
ومن أجل ذلك كان اختلافه مع أدباء عصره ممن تسموا بالمجددين وكانت الواقعة بينه وبينهم في معارك أدبية تأبط فيها الرافعي منهجه البياني مع جملة خصائصه وملامح تكوينه يتصدى لمثالب التجديد ودعاته.
ولعل مصدر الخصومة هذه هو عدم وضوح الرؤية والمقصد المحدد منها لدى المجددين فانقض الخصوم بعضهم على بعض.. فطه حسين يؤازره هيكل وسلامة موسى ثم ينقض بعضهم على بعض فتشتد الخصومة بينه وبين هيكل ثم بين طه حسين وبين زكي مبارك ولقد كان هذا الأخير من أخلص المقربين لطه حسين فما لبث أن انقلب عليه. يقول مبارك: أما طه حسين "فما أدري والله ما ذنبه حتى يهاجم مني أعنف هجوم..." (النثر الفني) وإذا ذهبنا إلى معسكر العقاد، رأيناه مع المازني وشكري يداً واحدة على أننا لا نلبث أيضاً حتى نرى العقاد والمازني قد التحما معاً دون شكري وبدأ الهجوم عليه حتى حُطم فسقط نفسياً، وبعدها ينقلب العقاد على المازني فيعتزل المازني الأدب لينخرط في الصحافة(11).
والرافعي رحمه الله يخوض المعركة من الميدان الذي حذقه.. ميدان اللغة والبيان فيثور على كل من أراد أن ينال منها أي منال.. ويعرض المشكلة ببساطة كبيرة يقول: فالقديم إذن أن تكون اللغة لغة العرب في أصولها وفروعها وأن تكون هذه الأسفار التي تحويها لا تزال حية تتنزل من كل زمن منزلة أمة من الفصحاء وأن يكون الدين (الإسلامي) لا يزال هو كأنما نزل به الوحي أمس لا يفتننا فيه علم ولا رأي وأن يأتي الحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين.. ولكن ما هو المذهب الجيد أنأخذ بالمقابل فنقول: إذا كانت الفصاحة وإذا كان الحرص على ميراث التاريخ وإذا كان القانون الطبيعي للفضيلة الاجتماعية وإذا كنا نولد بجلود كجلود آبائنا فالركاكة. وإهمال التاريخ والتراث والتحلل من قيود الواجبات والإنسلاخ من الجلد لأنها ليست أوروبية كل هذا جديد لأن كل ذلك قديم..(12)." تلك هي المشكلة عند الرافعي تتصل اتصالاً وثيقاً بثقافته ونشأته كما نرى فاللغة عنده ليست من صنع فرد.. وإنما هي روح الأمة وقرائح أجيالها المتعاقبة فهو لهذا يرد على جبران معاير في قوله - أين جبران - "لكم لغتكم ولي لغتي" فيقول الرافعي: "فمتى كنت يا فتى صاحب اللغة وواضعها ومنزل أصولها ومخرج فروعها وضابط قواعدها ومطلق شواذها.. إنه لأهون عليك أن تولد ولادة جديدة. من أن تلد مذهباً جديداً أو تبدع لغة تسميها لغتك.. وإن ما تحدثه على خطأ لا يبقى على أنه صواب ولن يبقى أبداً إلا كما تبقى العلة فلا يقاس عليه أمر الصحيح.."(13).
على أن الرافعي -رحمه الله - لا ينكر التصرف فيما تجري به الألسنة والأقلام ضمن (سلامة الأصل..) يقول: ولو أنهم فقهوا سر العربية وجاذبوا من أزمتها.. لعرفوا كيف يتسببون للإصلاح اللغوي الذي ينشدونه.." ولا يحمل هذا على الألفاظ وحدها فلكم شدد الرافعي على إصلاح الصياغة والأسلوب فليس عنده من وجود الخطأ: ".. أكبر ولا أعظم من أن يظن امرؤ أن اللغة بالمفردات لا بالأوضاع والتراكيب.." فإن الخاصية من فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها ولكن في تراكيب الألفاظ كما أن الهزة والطرب ليس في النغمات ولكن في وجود تأليفها وهذا هو الفن كل الفن في الأسلوب.." ومن هذا الباب يذهب سفّوده بشعر العقاد ومعركته تحت راية القرآن تطيح بلغة طه حسين فيرميه بالركاكة ويأخذ عليه التكرار..: يقول الرافعي "ثم كان - يعني طه حسين - أول من استعمل الركاكة في أسلوب التكرار كأنه يمضغ الكلام مضغاً فلا يأتي بالجملة الواحدة إلا انتزع منها الانتزاعات المختلفة ودار بها ودارت به تعسفاً وضعفاً وإخلالاً بشروط الفصاحة وقوانين العربية" ولعل الرافعي أول من دل على عيب التكرار في أسلوب الدكتور طه حسين.. ولنسمع طرفاً من مناقشة بينهما يقول الرافعي "غير أني - حفظك الله - رجل قد جعل الله فيما جعل من محنتي وبلائي أني دائب على الاستقراء لهذه اللغة والتتبع لأساليب الكلام فيها مما يسمح أو يلتوي ومما يأبى أو ينقاد.. ولكني في كل ما قرأت من بدء اتصال الرواية بالعرب إلى اليوم.. لم أصب مثل هذا الأسلوب الذي تكتب به كقولك في صدر قصة المعلمين التي نشرتها السياسة (14) اليوم "نعم قصة المعلمين فللمعلمين قصة وللمعلمين قضية. وكنا نحب ألا تكون للمعلمين قصة وألا تكون للمعلمين قضية، لأننا نربأ بمقام المعلمين أن تكون لهم قصة أو أن تكون لهم قضية.. ولكن أراد الله ولا مرد لما أراد الله أن يتورط المعلمون في قصة أو يتورط المعلمون في قضية. ليست قضية المعلمين أمام المحاكم وإن كانت أوشكت قضية المعلمين في يوم من الأيام أن تصل إلى المحاكم وليست قصة المعلمين مفزعة مهلعة.. وإن كانت قصة المعلمين أوشكت في يوم من الأيام أن تكون مفزعة مهلعة.." انتهى كلام طه حسين.
فهذه سبعة أسطر صغيرة دار بـ "المعلمين" فيها عدد أيام الحسوم وحكيت "القصة" سبع مرات وكان "للقضية" سبع جلسات غير ما هنالك من مفزعة ومهلعة قد أفزعت وأهلكت مرتين.. وغير ما بقي مما هو ظاهر بنفسه ولا ريب أن الأستاذ "طه" إما أن يكون قد نحا بهذا نحواً لا نعرفه وقصد إلى وجه لم نتبينه، فهو يدلنا عليه لنجريه فيما أجرينا من أساليب البلاغة ونؤرخ له في الذوق الحديث.. وإما أن يكون عند ظننا به في اعتبار هذه الألفاظ رقى وطلاسم للتسخير بقوتها وروحانيتها.. فإذا قرأ المعلمون هذه المقالة عشر مرات انحلت المشكلة وجاءهم الرزق وهم نائمون..." انتهى كلام الرافعي(15).
فمن أجل ذلك مما سمعنا ربما كان نبذه لهذا الجديد والتجديد المختل وشدته على دعاته الذين "يعتلون لمذهبهم الجديد بالفن والمنطق والفكر العصري.. وبكل شيء إلا الفصاحة.." وهذا لا يعني ما فسره بعض أصحاب الأهواء والأغراض من أن الرافعي عدو لكل جديد.. ولقد شاعت هذه التهمة مع الأسف بل الحق أن الرافعي عادى الفسولة والركاكة وضعف الصياغة - كما رأينا- والخروج عن اللغة.. وما عدا ذلك فلقد رحب به الرافعي - رحمة الله عليه- أيما ترحيب بل إنه دعا إليه يقول: إن أرادوا بالمذهب الجديد العلم والتحقيق وتمحيص الرأي والإبداع في المعنى على أن تبقى اللغة قائمة على أصولها.. فإننا لا ندفع شيئاً من هذا.. ولا ننازع فيه بل هو رأينا بل هو رأي الحياة.. ولكننا نزيد عليه أن الأصل في كل ذلك سلامة الأصل وسلامة اللغة.
وإن أرادوا بالمذهب الجديد أن يكتب الكاتب في العربية منصرفاً إلى المعنى والغرض تاركاً اللغة وشأنها متعسفاً فيها..آخذاً ما يتفق كما يتفق..إن أرادوا بهتاً أو أشباهه مما يسمونه بالمذهب الأدبي الجديد-قلنا:لا.ثم لا.ثم لا ثلاث مرات(16) بل إن الرافعي دعا إلى التجديد في الإحساس بالحياة والنفس فقدم شعر حافظ لأنه تناول موضوعات اجتماعية معاصرة.. "وعلينا أن نضيف إلى محاسن لغتنا محاسن اللغات الأخرى من غير أن نفسدها أو نتحيفها أو نبيعها بيع الوكس.. ومتى كان الشعر -ويعني به الشعر الجديد بأفكاره وإحساسه - رصيناً محكماً جيد السبك رشيق المعرض كان في نهاية الرقة والإبداع.. ويستحسن الرافعي التجديد في بعض الشعر والقوافي لإحساس أصحابه بالحياة كما فعل الأندلسيون.. يقول فلا بد لهذا النوع في لغتنا من وضع جديد حتى يحمل الألفاظ والمعاني معاً فيتعلق فيه الشعر بالنفس، ويمتد السياق على الحس كما فعل الأندلسيون في وضع الموشحات لحاجتهم التي بعثتهم عليها والعصر يومئذ لهو وترف.."(17) بل إن الرافعي قد يستحسن بعض الشعر المهجري إن سلمت لغته لما فيه من الغرابة والحسن.
وبعد هذا فهل يمقت الرافعي كل ما هو جديد ويرفضه أم أنه ينبذ كل ما هو منحط ركيك بعيد عن نصاب اللغة العربية الشريفة "القائمة على أصل خالد وهو القرآن الكريم وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته - فإذا كان المعجز في لغة من اللغات بإجماع علمائها وأدبائها هو من قدميها خاصة فهل يكون الجديد فيها كمالاً يسمو أم نقصاً يتدلى..".؟؟
إذن فالنزوع إلى التجديد له حد لا ينبغي الخروج عليه (وهو روح لغتنا الشريفة) كل ذلك كان شأن الرافعي مع النثر والمقالات النثرية مع النثر الفني وإن بعض من قرأ للرافعي حسبه كاتباً أجاد صنعته وحسب ولم يعرف الكثير من آراء الرافعي النقدية، ونظرته إلى الشعر..
ولقد تناول الرافعي أشعار الكثير من الشعراء فقبل منها ما قبل، ورد ما رد فرماها.. فعلى أي أساس أخذ ورمى.
فقبل كل شيء لا يرضى الرافعي للشعراء أن ينظموا نظماً وإنما يطلب من الشاعر أن يخرج شعره من نفسه وأن يمزجه بعاطفته وأحاسيسه ويزينه بروح عصره.. ولا تحكم على القدامى من خلال معطيات عصرنا.. و "لو كان الشعر هذه الألفاظ الموزونة المقفاة لعددناه ضرباً من الإغراب". بل إنه ينعى على الذين لا يرون في الشعر إلا الزخرفة والأوزان وجفاف الروح والرونق.." ويرميهم بالجاهلية "فإن كان الأولون سموا جاهلية لعبادة الأوثان فهؤلاء لعبادة الأوزان." والبراعة والفحولة أن يكون شعر الشاعر دفقة من إحساسه ومشاعره وأن يخرج من داخله "فجماع القول في براعة الشاعر عنده – أن يكون كلامه من قلبه..(18) كما يدعو إلى تفرد الشاعر وذاتيته وألا يكون نسخة عن غيره فالشعراء كالمصابيح ما على أحد أن يتألق بنور غيره ويتألم لمن حاله غير ذلك يقول: "غير أن أكثر مصابيح اليوم كهربائية يستوي الجميع في الأخذ منها وفي الاستمداد من مصدر واحد.. وفحول القدماء.. إنما نبغوا وذاع صيتهم لأن كل واحد منهم انفرد بمزية لا تجدها عند الآخر.. "فمن سلك في الشعر ببصيرة المعري وكانت له أداة ابن الرومي وفيه غزل ابن أبي ربيعة، وصبابة الأحنف وطبع ابن برد وحنين ابن زيدون وله اقتدار مسلم وأجنحة ديك الجن ورقة علي بن الجهم وفخر أبي فراس وأنفة الرضي "وخطرات ابن هانئ وفي نفسه من فكاهة أبي دلامة ولعينيه بصر ابن خفاجة بمحاسن الطبيعة وبين جنبيه قلب أبي الطيب.. فقد استحق أن يكون شاعر دهره وصناجة عصره.." (19).
وهكذا نرى الرافعي – رحمه الله – مع الشعراء كما الأدباء لا يرضيه منهم على السواء إلا الإتقان ونشدان الكمال الأدبي ما أمكن..
كما أن هذا النص النقدي أو حكم الرافعي – إن شئت – على هؤلاء الشعراء يظهر بصر الرافعي بالشعر والشعراء.
ولا يصل الشاعر عند الرافعي إلى هذا الحد حتى يكون على "رقة في الحسن وطبع في النفس وصفاء في الذهن وانتباه في الخاطر..".
ولذا كان "أول الشعر – عنده- اجتماع أسبابه وإنما يرجع ذلك إلى طبع صقلته الحكمة وفكر جلا صفحته البيان.. فما الشعر إلا لسان القلب إذا خاطب القلب وسفير النفس إذا ناجت النفس.. ولا خير في لسان غير بيِّن ولا سفير غير حكيم..".
فالشعر عند الرافعي قائم على عناصر ثلاثة:
أولاً: الطبع المدرب والموهبة التي صقلتها الحكمة.
ثانياً: القلب، أو قل العاطفة، فما الشعر إلا لمسات القلب.
ثالثاً: ولا يعطي هذين العنصرين حقهما عنده إلا فكر جلى صفحته البيان وهو شرط أول لا يكون الشاعر شاعراً إلا به.. فلا خير في سفير غير حكيم ولا لسان غير مبين فالأسس الثلاثة للشعر هي: الطبع والفكر والقلب يجليها الشكل البياني وتتفرع هذه الأصول إلى فروع – منها علاقة الشعر بالحياة الموضوعية والصدق الأدبي ومنها الخيال، وهو روح الشعر و"ليس بشاعر من إذا أنشدك لم تحسب أن سمعه مخبوء في فؤادك وأن عينيك تنظران في شغافه..
فإذا تغزل أضحكك إن شاء وأبكاك إن شاء.. وإذا تحمس فزعت لمساقط رأسك وإذا وصف لك شيئاً هممت أن تلمسه حتى إذا جئته لم تجده شيئاً وإذا عتب عليك جعل الذنب لك ألزم من ظلك.. وإذا نثر كنانته رأيت من يرميه صريعاً لا أثر فيه لمدية ولا قذيفة، وإذا مدح حسبت الدنيا تجاوبه وإذا رثى خفت على شعره أن يجري دموعاً.. وإذا وعظ استوقفت الناس كلمته وزادتهم خشوعاً.."(20).
وبعد فلقد وصل الرافعي بالنقد إلى مرحلة جديدة بالنسبة لعصره حيث ارتفع بالنقد عن الذوق المطلق وأقامه على أسس كبيرة من الثقافة والمعرفة وإن صدرت عنه بعض الأحكام الذوقية فإنه هو الذوق الفني المعلل ولا يصح عنده أن يكون الناقد عليماً فحسب ولا أديباً وكفى وإنما يجب أن يتوفر فيه العلم والمعرفة والثقافة العالية فضلاً عن الموهبة والذوق الفني ولا ينبغي أن يتصدى للنقد من لم تتوفر فيه هذه الشروط.. "من الإحاطة بتاريخ الآداب وتقصي حقائقها والذوق الفني المهذب المصقول.. وليس يمكن أن يتأتى له هذا الذوق إلا من إبداع في صناعتي الشعر والنثر.. ثم يجمع إلى هذين (أي الإحاطة والذوق) تلك الموهبة الغريبة التي تلف بين العلم والفكر والمخيلة، فتبدع من المؤرخ الفيلسوف الشاعر العالم شخصاً من هؤلاء جميعاً هو الذي نسميه الناقد الأدبي..(21).
والنقد إنما هو إعطاء الكلام لساناً يتكلم به عن نفسه كلام متهم في محكمة ليقيم حجة أو يزيح شبهة أو يقرر حقيقة أو يبسط معنى أو يكشف خافياً أو نقيصة أو يظهر إحساناً وبالجملة فهي نقض السيئة والحسنة ووقوع أدلة العلم والفن والذوق مواقعها.
ولا يتأتى أن يكون الناقد ناقداً إلا إذا كان على أسمى درجة من دقة الحس ولطف النظر والاستشفاف وقوة التأثير بمعاني الحياة وسموّ الإلهام والتجربة وبذلك يجيء النقد الصحيح بياناً خالصاً منخولاً.
أما طريقة الرافعي في نقد الشعر فتقوم على ركنين هما:
الأول: البحث في موهبة الشاعر وفي هذا يتناول نفس الشاعر وإبداعه وحوادثه..
الثاني: البحث في فنه البياني حيث يتناول نفس الشاعر وسبكه وطريقته في القول..
"فإذا لم يستطع الشاعر أن يأتي في شعره بالروي المونق والنسيج المتلائم والحبك المستوي والمعاني الجيدة ورأيته يأتي بالشعر الغليظ والألفاظ المستوخمة الباردة والقافية القلقة النافرة والمجازات المتفاوتة المضطربة والاستعارات البعيدة الممسوخة فاعلم أنه رجل قد باعده الله من الشعر وابتلاه مع ذلك بزيغ الطبيعة. وبعدُ فإذا كان من نقد الشعر علم فهو علم تشريح الأفكار وإذا كان منه فن فهو فن درس العاطفة وإذا كان منه صناعة فهي صناعة إظهار الجمال البياني في اللغة.
ومذهب الحس بالكلام هذا وإن صح أن يكون من بعض معاني النقد فلا يتهيأ أن يكون هو النقد بمعناه الفلسفي والأدبي وهو في جملة أمره كقولك حسن حسن وردئ.. ردئ.. أما كيف كان حسناً أو رديئاً وبماذا فذلك ما لا سبيل إليه من مذهب "ذوّاق" ولا وسيلة له إلا العلم المستفيض.. ذلك لأن حافظ إبراهيم وصف للرافعي مرة شعر إسماعيل صبري رحمهم الله أو أراد أن يبالغ في دقة تميزه وحسن بصره بالشعر فقال له: (ذواق يا مصطفى) (22).
أنت تقرأ شعر العقاد فتجد فيه شيئين متباينين.. الأول بعض أبيات حسنة لا بأس بها وباقي الأبيات غير ذلك سواء في المعنى أو الفن أو في البيان فعلام يدل ذلك.. يدل ذلك بلا شك أن النوع الأول (الأبيات الحسنة) جاءت من قريحة أخرى وطبيعة غير هذه فإن الشاعر القوي لا بد أن يتسق كلامه في الجملة على حذو الألفاظ ومقابلة المعاني فإذا نزل كلامه لعارض ما لم ينزل إلا طبقة واحدة.. أو ما دونها.. ونحن الآن نفتح ديوان العقاد كما اتفق وننظر قوله:
يا من إلى البعد يدعوني ويهجرني أسكت لساناً إلى لقياك يدعوني
أسكت لسان جـمال فيـك أسمعه في كل يوم بأن ألقاك يغريني
هذان البيتان لا بأس بهما ولننظر في الشطر الأول غلط ككلام الجرائد والروايات حين تقول: "دعاه إلى أن يبتعد" فلا معنى لكلمة دعاه هنا لأنها تفيد الإقبال وهو يريد ضده وكان الأفصح أن يقول فيهجرني ليكون الهجر مرتباً على رغبة صاحبه في إبعاده فيصور أجزاء المعنى بألوانها..
والبيت الثاني كله تكرار لنصف البيت الأول.. وقد تجوَّزَ العرب في قولهم: نطقت الحال بكذا.. على اتساع الكلام.. لأن المنظر كالمنطق (ويعللون مثل هذا بقولهم: أذنت الحال بأن لو كان لها جارحة نطق لقالت كذا..) فالمجاز قريب شائع ولكن البرود كله أن تقول: سمعت وجهك يقول كذا أو سمعت لسان جمالك يقول كذا.. فإذا هذا يقتضي نطقاً حقيقياً فيما لا ينطق إلا توهماً ومجازاً وبهذا ينحط المعنى.. وإذا كان للجمال في هذا الحبيب لسان فلا يعقل أن يكون اللسان في غير قم فإن هذا يحضر صورة هنا خصوصاً بعدما قال أسمعه وإذن فقد صار هذا الحبيب (مخلوقاً) عجيباً في ظاهر أعضائه أعضاء أخرى..
وما معنى قوله :أسمعه في كل يوم"؟.. إذا كان لسان الجمال ناطقاً أبداً فالصواب أن يقول في كل حين، وفي كل وقت، وإذا كان أخرس لا ينطق إلا مرة في اليوم فيكون تعبيره حينئذ صحيحاً وهذا غير ما يريده "العقاد" والله أعلم.. وغير ما هو حق المعنى..
وهل تريد الآن أن تعرف أصل هذا المعنى على أدق وأجمل ما يأتي في الشعر؟ انظر قول العباس ابن الأحنف:
أريد لأدعو غيرها فيجرني لساني إليها باسمها كالمغالب
فقلب (العقاد) المعنى وجعل الذي يغالبه لسان الجمال وبذلك سقط الشعر..
فابن الأحنف أراد أن الحبيبة هي غالبة على إرادته فيجره لسانه إلى اسمها إذا أراد أن يدعه إلى اسم امرأة أخرى.. وقد عبر أبو تمام أحسن تعبير عن هذا المعنى بقوله:
هي الشمس يغنيها تودُّدُ وجهها إلى كل من لاقت وإن لم تَودَّدِ
وإنما أخذ العقاد المعنى من الشاعر:
تكلفني هجرانها بلسانها ويدعو إليها حسنها بلسان
وهذا المعنى كثير جداً في الشعر العربي في الغزل والمديح...(23).
ويقول العقاد في قصيدة أخرى (معربة عن شكسبير):
ومالت على أذنيه كأنه ليسمعُ منها شجوها والتندُّما..
فما هذه اللام في "ليسمعُ" إن هذه اللام لا تأتي إلا زيادة في التوكيد.. وهنا كأن للتشبيه لا للتوكيد أي لم يسمع بل كأنه يسمع فلا توكيد في الكلام ولا محل لتلك اللام مطلقاً.. وفي البيت الذي يليه يقول:
تهدُّ قوى الثبت المريرة من جوى فتعرقه إلا مشاشاً وأعظما
فسَّرَ تعرقه بقوله عرق اللحم كشطه وأبقى العظام فإذا كان هكذا فمعنى البيت "تكشط اللحم وتبقي العظام إلا العظام..".
وفي قطعة أخرى بعنوان (العُقاب الهرم) يقول:
لعينك يا شيخ الطيور مهابة يفر بغاث الطير عنها ويهزم
فقال بغاث الطير ضعافها ومالا يصاد منها ومنه قولهم (إن البغاث بأرضنا يستنسر) يريد أن البغاث مع كونه ذليلاً عاجزاً.. لو نزل بأرضنا لا نقلب نسراً فأية قيمة "للمهابة" التي يفر منها ضعاف الطيور؟.. وهذا بيان لخلل المعنى.
ويستمر الرافعي في نقده لقصيدة من شعر العقاد حيث يقول في أحد أبياتها:
إني إلى الرعي من عينيك مفتقر يا ضوء قلبي فإن القلب مِدجان
يقول الرافعي: "فسّر (العقاد) (مِدجان) بـ غانم، ومدجان (مِفعال) صيغة مبالغة، فكيف تأتي المبالغة من الرباعي أدجَنَ؟
وقد أخبر بها عن مذكر، وهو القلب، وصيغ المبالغة لا تأتي من الرباعي إلا ألفاظاً مسموعة منها: حسّاس من أحسّ، ومعطاء من أعطى، ومعوان من أعان..
ولكن كل هذا إنما هو سماعي في أفعال لم تأتِ منها أوزان أخرى لتحقيق معنى المبالغة (وأدجن) وضعوا منه فعلاً خاصاً للمبالغة، وهو قولهم (ادجوجن) فلا ضرورة لارتكاب الضرورة.. إذن فمن أين جاء العقاد بالكلمة؟.. إنهم يقولون ليلة مدجان، أي: مظلمة، ولا يوصف بها إلا المؤنث، لأنها من الكلمات التي جاءت في نعت المؤنث بغير هاء، وشبّهت بالمصادر لزيادة الميم في أولها ومنها امرأة مِقتان ومِبهاج ومِعطار ومِئناث تلد إناثاً ومذكار تلد ذكوراً.. إلخ إلخ.. فظن العقاد أن الكلمة لمطلق الوصف فنعت بها المذكر (القلب) وهم لا يقولونها إلا في المؤنث خاصة.. ويشترط في استعمال هذه المادة أن يكون في الجو مطر أو أخفه، أي الضباب، ولذلك يقولون أدجن المطر فلم يقلع أياماً، ما دام عليهم.. فإذا كان الغيم وحده، ولا ضباب ولا مطر ولا جو ريان، خفّفوا الكلمة فقالوا: يوم دغَن (بالغين المعجمة) والغين أخف من الجيم، وهذا من مذاهبهم العجيبة التي تكاد تكون فوق العلم وفوق العقل، مما يدل على أن هذه اللغة قد أراد بها الله الذي ألهمها العرب أن يهيئها لمعجزة حقيقية، وهي القرآن وأنت ترى أن الغين أخف من الجيم لتدل على أن ظلمة هذه أقل من تلك، وهي أيضاً أجفّ منها.. (انظر كتاب تاريخ آداب العرب: للرافعي).
ثم إن كلمة (مدجان) ثقيلة.. ولا تكاد تصيبها بهذه الصيغة في نظم شاعر يذوق البلاغة، ويعرف مواقع الحروف وسحر تأليفها، ولما اضطر ابن الرومي إلى استعمال هذه المادة جاء بالمصدر منها:
كأنها وعنان الند يشملها شمس عليها ضبابات وإدجان
وكذلك فعل الشريف الرضي..
فانظر كيف جاءت الكلمة خفيفة ظريفة كأنها من النور لا من الظلمة.. ولكن أين من هذا العلم، وهذه الصناعة، وهذا الذوق، صاحب:
يا ضوء قلبي فإن القلب (مدجان)؟؟
ثم إذا كانت هذه المرأة التي ابتلاها الله (بمثل هذا الغزل).. إذا كانت (ضوء قلبه) وكان يعبر عنها بقوله: (يا ضوء قلبي).. فكيف يجوز له أن يقول: (إن القلب مدجان) وأين ذهب الضوء.. مع أن العبارتين في شطر واحد..؟؟
ومثل هذا المعنى الذي جاء به في هذا البيت المتهدم كثير في الشعر.. لأن الجمال نفسه ضوء، ولكن الشعراء يتفاوتون في رسمه وتصويره والحيلة على إبرازه، ويتفاضلون في ذلك بمقدار ما يختلفون في القوة والملكة والبيان، كحالهم في كل المعاني المشتركة، انظر مثلاً قول ابن نباتة السعدي:
عجبت له يخفي سراه ووجهه به تشرق الدنيا وبالشمس بعدَهُ
وتأمل قوله: (وبالشمس بعده) دقق النظر في التقيد لتعرف كيف يكون المعنى شعرياً. وكيف ينتقل مما يستطيعه كل إنسان إلى مالا يستطيعه إلا أفراد قلائل.. ثم اقرأ بعد ذلك قول العقاد:
إني إلى (الرعي) من عينيك مفتقر!! يا ضوء قلبي فإن القلب مدجان.
ألا تشعر أنك سقطت من علو ألف متر؟؟
وفسّر العقاد الرعي: بمعنى النظر، مع أنها بمعنى الحفظ وحده، يقال رعاك الله، أي: حفظك، ثم هناك معنى آخر توهمه كلمة (الرعي)!! أهكذا تكون الألفاظ الشعرية.."(24)؟
ولعل في النموذج التطبيقي السابق للنقد عند الرافعي خير بيان لرؤيته النقدية فالنقد ثقافة وعلم وفهم وموهبة وصنعة ودراية وحق وإنصاف ثم ذوق مصقول يلف أولئك كلهن.. ولعلنا ألممنا ببعض الخصائص الفنية في صحبتنا مع الرافعي يرحمه الله.
الهوامش:
(1) حياة الرافعي: محمد سعيد العريان.
(2) تطور النقد والتفكير الأدبي الحديث: د. حلمي مرزوق.
(3) تحت راية القرآن: مصطفى صادق الرافعي.
(4) وحي الرسالة: أحمد حسن الزيات، مجلة الرسالة مايو 1937م.
(5) حياة الرافعي للعريان.
(6) تحت راية القرآن للرافعي.
(7) تطور النقد: د. حلمي مرزوق.
(8) وحي الرسالة: للزيات.
(9) حياة الرافعي: للعريان.
(10) السابق.
(11) المعارك الأدبية: أنور الجندي.
(12) المعارك الأدبية: محمد جاد البنا.
(13) تحت راية القرآن للرافعي.
(14) السابق.
(15) جريدة أسبوعية كانت تصدر بمصر في أوائل هذا القرن يرأسها محمد حسين هيكل.
(16) تحت راية القرآن للرافعي.
(17) السابق.
(18) راجع تاريخ آداب العرب للرافعي.
(19) مقدمة ديوان الرافعي: ج1.
(20) السابق.
(21) السابق.
(22) السابق.
(23) وحي القلم: مصطفى صادق الرافعي.
(24) على السُّفود: مصطفى صادق الرافعي.
(25) من كتاب علي السفرد بتصرف.