رحلتي مع الكتاب

رحلتي مع الكتاب

أتذكر أبي وهو يحتضن كتاب عنترة

فاضل السباعي

أول قارئ لكتاب رأيته في حياتي كان أبي. أذكر، ولي من العمر أربع سنوات أو نحوها، أني رأيته يصعد في البيت إلى غرفة "المربع" (كما نسميها في حلب، وهي العليّة)، ويغيب وقتاً فصعدت الدرج إليه مرة، فرأيت في حضنه كتاباً يقرأه وهو في إطلالته من النافذة على صحن الدار، فيما بعد عرفت أن الكتاب هو قصة عنترة بن شداد!

في المدرسة التي كان أهلنا يودعوننا إياها أيام الصيف تخلصاً منا، قرأ علينا المعلم الشاب يوماً إحدى قصص كامل الكيلاني: "سكة الجان" فأخذ بمجامع قلوبنا نحن الصغار المشاغبين، وصار يعدنا بأننا إن "قعدنا عاقلين" فإنه سيقرأ لنا قصة "مخبر الجريدة"!

في صف الشهادة الابتدائية (السرتفيكا)، دأب أحد التلامذة، واسمه عبد الفتاح، على أن يُعيرنا كتب أطفال يقتنيها، كل قصة لليلة واحدة بفرنك، بخمسة قروش سورية، فتعودت القراءة، وأنا في تلك السن، على يد هذا الفتى النشيط، الذي أصبح في ما بعد مدرساً للتاريخ! وبعد إغلاق المدرسة أوائل الصيف، وأنا في تطلعي إلى القراءة، قدم لي رفيق الحارة "نزار" - الذي يصغرني بسنتين - مجلداً معفراً، قال إنه الجزء الأول من قصة طويلة سوف يعيرني سائر أجزائها، ورأيته ورقاً أصفر، وحروفه تخلو من الشكل، ولكن شدتني إليه عوالمه العجيبة، وبذاءة فيه أحياناً! سألته عما إذا كان قد قرأ الكتاب؟ قال "لا، إن أبي ينصحني بأن لا أقرأه إلا بعد أن أصبح كبيراً!!"، لقد كان نزار (وأبوه من كبار المربين بحلب) مهذباً أكثر مني! وأما الكتاب بمجلداته الخمسة فهو "ألف ليلة وليلة"!

ماذا أقول، بعد؟

بنت الجيران - واسمها أمل - عرفتْ فيَّ حبي للمطالعة، فأعارتني رواية.. رحت أقرأها، وأحزن لمعاناة بطليها الشابين المحبين، ولما همّت الصبية التي تناهزني عمراً - بأن تعيرني رواية أخرى للمنفلوطي نفسه، اعتذرت عن عدم قراءتها، لأن الرواية الأولى وإن لم تدمع عيناي في أثناء قراءتي لها، فإن قلبي كان يبكي! تلك كانت "ماجدولين" أو "تحت ظلال الزيزفون"!

في تلك السن، تم تعارف من نوع آخر بيني وبين الكتاب، أحد أقاربي، وكان من مقتني كتب الأدب، أتاح لي أن أتصفح كتاباً عنده حمل عنوان "عمر بن أبي ربيعة، حياته وشعره"، تأليف زكي مبارك، فنازعتني الرغبة في التقليد، إلى أن أبدأ بقراءة ما يطلقون عليه كلمة "أدب"، واتفق، في تلك الآونة أن صدر في القاهرة العدد الأول من مجلة أدبية رفيعة المستوى اسمها "الكتاب" يحررها شاعر (عرفت في ما بعد أنه سوري الأصل، حلبي، متمصر)، هو عادل الغضبان، فاشتريت عددها الأول، وواظبت على اقتناء أعدادها: أقرأ ما أستسيغه وأدع الباقي!

وانفتحت أمامي آفاق الأدب والمعرفة. فكتبت المقالات الصغيرة ونشرتها في مجلة مدرسية، ونظمت الشعر المقفى، وحاولت مرتين - قبل مغادرتي الثانوية - أن أكتب الرواية! وفي صف البكالوريا أقنعت مدير "ثانوية المأمون" الشاعر الراحل عمر يحيى، بأن تصدر المدرسة "مجلة" فكنت فيها "أمين التحرير"، وأصدرنا عددين وعدداً ثالثاً في شتاء وربيع عام 1950، هي اليوم في محفوظاتي.

من الأدباء الذين قرأت لهم في عهد الفتوة: إبراهيم عبد القادر المازني ويوسف السباعي ومحمود تيمور (الذي أثر فيّ بأسلوبه اللغوي والفني)، ولم أقرأ نجيب محفوظ، لأنه - وإن ظهر في ثلاثينيات القرن العشرين - لم يبرز إلا في مطلع الخمسينات.

أريد أن أختم كلتي بأن أبي (1907 - 1989)، الذي كان ذلك الكتاب في حضنه أول ما وقعت عليه عيناي من الكتب - لم أعد أراه، بعد عشرين سنة، محباً للكتاب، ولا مشجعاً لابنه البكر على الكتابة!

إن الأمر الذي أراه مفارقاً، أني بعد أن تخرجت في الجامعة وأمسيت محامياً متدرباً، كنت - ولغرامي بالكتابة - أمتنع بعض الأمسيات عن الذهاب إلى مكتب المحامي الذي أتدرب عنده، فأقبع في البيت - بيت أبي - أكتب قصة قصيرة تؤرقني. فكان أبي - المكافح في عمله من الصباح حتى المساء - عندما يعود إلى البيت متعباً، يكون أول ما يفعله أن يفتح باب غرفتي، فيراني مكباً على الطاولة أكتب ما يدرك أنه قصة. فيقول لي في لهجة المعاتب المشفق:

"يا ابني! يكفيك قصص ودواوين! روح شوف لك شغلة تاكل منها!".

فأتألم من قوله، وأستحضر في خاطري صورة الأب شاباً وهو يحتضن كتاب عنترة!