مُفدِي زكريا
شاعر الثورة الجزائرية واللهب المقدَّس
بقلم: أحمد شبلول
أربعة كتب صدرت مؤخرا عن مؤسسة مُفدي زكريا بالجزائر، تفضَّل الدكتور سليمان الشيخ ـ سفير الجزائر السابق بالقاهرة ـ بإهدائها لي، قبيل مغادرته القاهرة للعمل في موقع آخر.
والكتب الأربعة، هي: مفدي زكريا شاعر مجَّد الثورة ـ حوارات وذكريات ـ لبلقاسم بن عبد الله. وتاريخ الصحافة العربية في الجزائر لمفدي زكريا جمع وتحقيق د. أحمد حمدي. وديوان أمجادنا تتكلم وقصائد أخرى، وهو ديوان لم يسبق نشره لمفدي زكريا، كتب تصديره فخامة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، وجمعه وحقَّقه مصطفى بن الحاج بكير حمودة. أما الكتاب الرابع والأخير فهو كلمات مفدي زكريا في ذاكرة الصحافة الوطنية من إعداد وتقديم د. محمد عيسى وموسى (واو العطف من صميم الاسم).
وقد لاحظتُ أن الكتب الأربعة يتكرر على غلافها الخلفي فقرة مهمة تلخِّص فكر الشاعر وآراءه، يقول فيها: "كل مسلم، بشمال إفريقيا، يؤمن بالله ورسوله ووحدة شماله، هو أخي، وقسيم روحي، فلا أفرق بين تونسي وجزائري ومغربي، وبين مالكي وحنفي وشافعي وإباضي وحنبلي، ولا بين عربي وقبائلي، ولا بين مدني وقروي، ولا بين حضري وآفاقي، بل كلهم إخواني أحبهم وأحترمهم وأدافع عنهم ماداموا يعملون لله والوطن، وإذا خالفت هذا المبدأ فإنني أعتبر نفسي أعظم خائن لدينه ووطنه".
كلمة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة
يقول الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ضمن كلمته عن هذه الإصدارات:
"إن إصدار آثار مفدي زكريا، وجعلها في متناول الأجيال، لهو واجب يدخل في صميم رعاية أنصع وأشرق ما نقشه المجاهدون والمجاهدات في ذاكرتنا الوطنية عبر العصور. إنها تمثل صفحات فريدة من نوعها في ثبت أمجاد الجزائر والأمة العربية، ذلك لأنها تجمع بين الشموخ والفداء والتألق في الإبداع الشعري والرفعة والسموق في الإباء والجهاد بالفكرة والكلمة في سبيل تحرير الوطن".
***
ومفدي زكريا (زكريا بن سليمان بن يحيى بن الشيخ سليمان بن الحاج عيسى) من مواليد يوم الجمعة 12 جمادى الأولى 1326 هـ الموافق 12 يونيه / حزيران 1908م. في بني يزقن بولاية غرداية الجزائرية. لقبَّه زميل دراسته الفرقد سليمان بو جناح بـ "مُفدي" فأصبح لقبه الأدبي الذي اشتهر به. تلقى تعليمه الأولي في بلدته، ثم التحق بالبعثة الميزابية بتونس، فواصل دراسته هناك، وبدأ يكتب الشعر، ونشر أول قصيدة له وهي "إلى الريفيين" في جريدة لسان الشعب التونسية بتاريخ 6/5/1925، ثم نُشرت في جريدة الصواب التونسية، فجريدتي اللواء والأخبار المصريتين.
وقد واكب مفدي زكريا الحركة الوطنية في شعره على مستوى المغرب العربي، واعتقل وسجن عدة مرات، وبعد الاستقلال أمضى حياته في التنقل بين أقطار المغرب العربي، وكان مستقره في المغرب، وبخاصة في سنوات حياته الأخيرة، وتوفي في تونس يوم الأربعاء 2 رمضان 1397 هـ الموافق 17 أغسطس 1977، ونُقل جثمانه إلى الجزائر ليدفن بمسقط رأسه بني يزقن.
إنجازات الشاعر
من أهم إنجازات مفدي زكريا في مجال الشعر، الدواوين التالية: اللهب المقدَّس 1961، وتحت ظلال الزيتون 1966، ومن وحي الأطلسي 1976، وإلياذة الجزائر في ألف بيت وبيت 1972. إلى جانب شعر كثير متفرق في الصحافة الجزائرية والتونسية والمغربية، ودواوين معدة للطبع (أو طُبعتْ بعد ذلك) منها: أهازيج الزحف المقدس (أغاني الشعب الجزائري الثائر بلغة الشعب). و"انطلاقة" ديوان المعركة السياسية في الجزائر من عام 1935 ـ 1954. و"الخافق المعذب" من شعر الهوى والشباب، ومحاولات الطفولة التي كتبها الشاعر في صباه.
وقد نجحت مؤسسة مُفدي زكريا أن تصدر عدة كتب منها ديوان "أمجادنا تتكلم وقصائد أخرى".
يقول الشاعر في قصيدة "أمجادنا تتكلم":
(بـجَايةٌ) يا قصّتي كفيْتِ شرَّ الأعينِ الحاسدةْ إن يـفخرِ الشعبُ بأمجاده فـأنتِ فيه الحكمةُ الرائدةْ أوْ كـانَ يحتاجُ إلى شاهدٍ فـأنتِ يا (بجَايةُ) الشاهدةْ ألـم يـكنْ يُبْهرُ منكِ السنا (أنْدلُسًا) في النكبةِ الحاصدةْ فِـرْدَوسُنا المفقودُ، أفواجُهُ ملءُ الحِمى: صادرةٌ واردةْ |
الخالدةْ
كتب مفدي زكريا الأناشيد الوطنية، ومنها النشيد الوطني الجزائري، ونشيد العلم الجزائري، ونشيد جيش التحرير الوطني، ونشيد المرأة الجزائرية، وغيرها من الأناشيد.
أيضا كتب مفدي زكريا النثر، واهتم بتاريخ الصحافة الجزائرية، كما كتب مسرحية بعنوان "الثورة الكبرى"، واشترك مع الأديب التونسي الهادي العبيدي في تأليف كتاب الأدب العربي في الجزائر عبر التاريخ (أربعة أجزاء)، وفي كتاب "أنتم الناس أيها الشعراء". كما شارك الأديب التونسي الحبيب شيبوب في تأليف كتاب "صلة الرحم الفكرية بين أقطار المغرب العربي الكبير". وبمشاركة المؤرخ التونسي محمد الصالح المهيدي كتب عن أقطاب الفكر المغربي على الصعيد العالمي. وغيرها من الأعمال المشتركة.
ومن أعماله النثرية الأخرى: نحو مجتمع أفضل، وست سنوات في سجون فرنسا، وحواء المغرب العربي الكبير في معركة التحرير، وقاموس المغرب العربي الكبير (في اللهجات المغربية) وعوائق انبعاث القصة العربية، وقصة اليتيم في يوم العيد، والجزائر بين الماضي والحاضر، وغيرها.
جوائز عدة
ولجهوده الكبيرة في مجالات الفكر والأدب والنضال الوطني، منحه عاهل المملكة المغربية محمد الخامس في عام 1961 وسام الكفاءة الفكرية من الدرجة الأولى. ومنحه الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة وسام الاستقلال ووسام الاستحقاق الثقافي، ومنحه الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد في عام 1984 ـ بعد رحليه ـ وسام المقاوم، كما مُنِحَ اسمُه وسام الأثير من مصفّ الاستحقاق الوطني من الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في 4/7/1999.
شاعر مجَّد الثورة
كتاب "مفدي زكريا شاعر مجَّد الثورة ـ حوارات وذكريات" لبلقاسم بن عبد الله، أهداه إلى ثورة أول نوفمبر المجيدة، وقدمه د. سليمان الشيخ (ابن الشاعر) في كلمة جاء فيها: "لقد منح مفدي زكريا الكثير لبلده الذي عشقه إلى درجة العبادة. ومع ذلك تعرض بعد الاستقلال لأنواع من الإهمال واللامبالاة والجحود، فاضطر إلى مغادرة وطنه الذي ضحَّى بالكثير من أجله، وعانى عذاب وصعاب السجون والاضطهاد. غادر مُفدى هذا الوطن المفدَّى ليتجوَّل بين أرجاء البلدان الشقيقة، بعيدا عن أهله وذويه، إلى أن أدركته المنية، وهو خارج وطنه".
لا يوجد شعر قديم أو جديد
في هذا الكتاب يُنشر أول حوار لصحيفة جزائرية مع الشاعر الراحل، وفيه يتحدث عن ميلاده، وتعليمه، ونضاله، وإنتاجه الشعري والأدبي بعامة، وموقفه من الشعر القديم والجديد أو الحر والعمودي، وفي هذه القضية الأخيرة يقول مفدي زكريا: "لا يوجد في اعتقادي، وفي مفهوم بني آدم، شعر قديم أو جديد، فأما شعر أو لا شعر، وكفى. وأنا أومن بالأصالة وبصلة الرحم بين المعاني والكلمات، وبالنبض الموسيقي المتجاوب مع نبضات القلب، وما عدا ذلك فسموه إن شئتم نثرا مجنحا، وأن خلا من البيان وأصالة الكلمة، فسموه رطانة ولغوا وهراء، وإذا شذ عن كل ذلك فسموه شعر الخنافيس، أو شعر الهيبي، أو شعر النايلون أو شعر الساندويتش، أو ما شاء لكم الخيال. والموضوع على بساطته يحتاج إلى كثير من الإسهاب، وفي برنامج يُذاع لي حاليا بإذاعة الرباط "الصراع بين الشعر الأصيل والشعر الدخيل" الجواب الكافي".
أيضا يتحدث في هذا الحوار عن واقع الحركة الأدبية بالجزائر، ومشاريعه الأدبية في المستقبل.
انطلاق الثورة الثقافية
وفي حوارات أخرى يتحدث عن انطلاق الثورة الثقافية، كامتداد طبيعي لعمق ثورة نوفمبر الخالدة، وعن التراث العربي الزاخر، وعن مدى مساهمة الأدب العربي في المشرق والمغرب على حد سواء في عملية تنوير ذهنية الإنسان العربي ليرتفع إلى مستوى مقتضيات العصر.
في باب الأصداء والانطباعات نقرأ للدكتور محمد ناصر عن هذا الشاعر الذي لا نعرف عنه الكثير. ويقدم الأمين بشيشي شهادته عن مفدي زكريا الذي عرفه، ويقول محمد قنانش عرفته مناضلا وطنيا وشاعرا مبدعا. ويتحدث الفنان عبد الرحمن عزيز عن مفدي زكريا والأغنية الوطنية. وبالكتاب مقالات بعنوان "بين مفدي زكريا والفيس بريسلي" و"بين مفدي زكريا ومصالي الحاج"، كما يوجد عرض لأطروحة جامعية عن شعر الثورة عند مفدي زكريا نال بها صاحبها يحي الشيخ صالح شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث من جامعة قسنطينة.
تاريخ الصحافة العربية في الجزائر
ومن ضمن إصدارات مؤسسة مفدي زكريا كتابه عن تاريخ الصحافة العربية في الجزائر، الذي جمعه وحققه د. أحمد حمدي (رئيس المجلس العلمي لكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر) وجاء في 194 صفحة، وفيه حديث عن ظهور الصحافة العربية في الجزائر، ومنها الصحف الأولى: المبشر، والنصيح، والحق الوهراني، والأخبار، وكواكب إفريقيا، والمغرب، والإحياء. ثم حديث عن صحافة المقاومة القلمية في الجزائر، ومعركة الصحافة الإصلاحية، ومجلة الشهاب ومعركة الانتماء، وصحيفة المنهاج ومعركة التحرير العربية، وصحافة الأفراد ومواصلة الإصلاح، وشيخ الصحافة ومقاومة المنع، وأخيرا قائمة الجرائد العربية أثناء الكفاح القلمي والمسلح.
كلمات مفدي زكريا في ذاكرة الصحافة الوطنية
أما المجلد الكبير في سلسلة كتب مؤسسة مفدي زكريا، فكان بعنوان "كلمات مفدي زكريا في ذاكرة الصحافة الوطنية" وجاء في 342 صفحة من القطع الموسوعي، أعدَّه وقدَّم له د. محمد عيسى وموسى، وطُبع على نفقة وزارة المجاهدين الجزائرية، ويحتوي هذا السفر على بعض أشعار مفدي زكريا، وإلياذته، وبعض المراجعات والمقابلات والشهادات والحوارات، وبعض أصداء الندوات والمتلقيات والجوائز ومواضيع أخرى منها (قصة الشاعر مع السجون، ووحدة المغرب العرب، وجمع إنتاجه، وحياته وبعض الطُّرَف). ولأنه عمل موسوعي أو مرجعي فقد كان هناك ثبت بالعناوين وأسماء الصحفيين والكتاب والجرائد التي تناولت مفدي زكريا، ومنها على سبيل المثال: مفدي زكريا شاعر الزحف المقدس لعلاوي عبد الحميد، وفي الليلة الظلماء ينير قمر الشعر لرويبي صالح، ومفدي زكريا واللغة العربية لبيوض أحمد، ومفدي زكريا بين ثورة الشعر وشعر الثورة ليوسف وغليسي، وأبجدية التحدي عند مفدي زكريا لسيروكان عمر بن موسى، ومتى تحول "إلياذة الجزائر" إلى أوبيرات؟"، وإلياذة الجزائر: قراءة دلالية لحسين خمري، وتأملات في إلياذة الجزائر، وغيرها من الموضوعات.
غياب أقلام المشرق العربي
هذه الكتب الأربعة عن مفدي زكريا، تكشف عن ملمح مهم جدا، وهو غياب معظم أقلام الأدباء والنقاد في المشرق العربي عن عالم هذا الشاعر العربي الكبير الذي سعدتُ بسماع صوته مسجلا، وهو يلقي بعض الأبيات في جلسة شعرية عقدت باسمه ضمن مهرجان الشعر العربي الثالث والعشرين بالجزائر، الذي عُقد بعد انتهاء فعاليات مؤتمر اتحاد الكتاب والأدباء العرب الثاني والعشرين بالجزائر في ديسمبر / كانون أول 2003.
قبلها كنت قد تعرفتُ على اسم هذا الشاعر من خلال إحدى مقالات الشاعر الكبير فاروق شوشة بجريدة الأهرام، والتي أعاد نشرها في كتابه "الشعر أولا والشعر أخيرا" فتحدث عنه باعتباره رمز الارتفاع عن قيد العرق أو الجنس، إلى سماء النزعة الوطنية والقومية والإسلامية، منفتحا على أفق إنساني رحب، وقيم سامية للخير والحق والجمال.
ولعل الكلمة الموحَّدة التي جاءت على ظهر غلاف الكتب الأربعة لمفدي زكريا، والتي سبق الإشارة إليها، تؤيد ما ذهب إليه فاروق شوشة في جملته السابقة.
اللهب المقدس في مصر
في شهر أبريل / نيسان من العام 2002 ظهرت في سلسلة "آفاق عربية" التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، طبعة جديدة من ديوان "اللهب المقدس" لمفدي زكريا، بمقدمة فاروق شوشة السابق نشرها في جريدة الأهرام، ثم في كتابه "الشعر أولا والشعر أخيرا"، أتاحت لنا في مصر التعرف على تجربة هذا الشاعر العربي الكبير، الذي لم ينل ـ بالفعل ـ حقه حتى الآن من الشهرة والذيوع والانتشار على مستوى وطننا العربي ككل. وصدق د. محمد ناصر في قوله عن هذا الشاعر: إننا لا نعرف عنه الكثير.
وبالإضافة إلى مقدمة شوشة، نُشر في الطبعة المصرية نص خطاب من سليمان ابن الشاعر إلى أبيه حرره يوم فاتح نوفمبر 1960 (يوم الذكرى السابعة لثورة الجزائر العتيدة) عنوانه "بين ابن جندي ثائر، وأب شاعر ثائر، مثال لما يفعله أبناء الجزائر".
وأعتقد أن هذه الكتب الأربعة التي أصدرتها مؤسسة مفدي زكريا، أسهمت إسهاما كبيرا في التعريف بالشاعر وبأعماله ومسيرته الشعرية والنضالية، ومن هنا أكرر شكري للدكتور سليمان الشيخ على هذه الهدية القيمة.
وكم أتمنى أن تصل هذه الكتب إلى كل مهتم بشعرنا العربي على مستوى الوطن الأكبر.
رسالة الشعر
يقول مفدي زكريا في إحدى قصائده عن الشعر:
رسـالـةُ الـشعرِ في الدنيا فـكـم هـتـكنا بها الأستارَ مُغلقةً وكـم جـلـونا بها الأسرارَ مُبهمةً وكم صرعنا بها في الأرضِ طاغيةً وكـم حصدنا بها الأصنام شاخصةً وكـم رفـعـنا بها أعلامَ نهضتنا |
مقدَّسةٌ
|
لـولا النبوءةُ .. كان الشعرُ وكـم غزونا بها في الغيبِ أكوانا وكـم أقـمـنـا بها، للعدلِ ميزانا وكـم رجمنا بها في الإنسِ شيطانا وكـم بـعـثنا من الأصنام، إنسانا فـخـلَّـد الشعرُ في الدنيا، مزايانا |
قرآنا
وأختم كلمتي باقتراح أن تطلق مؤسسة مفدي زكريا موقعا على شبكة الإنترنت، لأعمال ودواوين وألبوم صور الشاعر الراحل، لتصل أعماله، وما كتب عنها أو عنه، وصوره، إلى كل مهتم لا يستطيع الحصول عليها مطبوعةً على الورق، بسهولة.