صفحاتي السياسية(1)
صفحاتي السياسية(1)
الدكتور فاروق المواسي
صفحاتي السياسية !!!
لماذا أكتبها؟ ألكي أدُل على علاقاتي ونشاطاتي في السياسة ومع السياسيين؟ أو حتى أدِل بها؟
أم أكتبها لأنها جزء من مسيرتي وسيرتي؟
فلتكن هذه أولاً وقبلاً ؛ لأننا انطلقنا بدءًا من أن ترجمة حياة الكاتب هي سيرة مرحلة، وهي حكاية الفرد التي تعكس بصورة وأخرى مجموعًا، وهي نص له علاقة بكتابة من يكتب، وهي أضواء عليَّ وظلال، وهي مثار التساؤل في كل توجّه ، وهي وجهة نظر؛ وثمة من قال: الإنسان موقف.
لن أزعم أنه كان لي موقف منهجي ، أو أنني التزمت بنمط سياسي مُبَرْمَج واحد وموحد . ولعلي أعترف أنني لست سياسيًا ناجحًا، ولذا لم أنجح بإقناع أحد أن أُرَشََّح لمنصب سياسي، ولم أحاول أصلاً أن أقوم بذلك، فكم من فكرة سياسية أو طرح أثبتت الأيام صدق ما أقوله – لم أكن أفلح في إقناع أحد به، ويبدو أن القيادة تحتاج إلى مهارات لم أحظ بها، فإذا ناقشت أحدًا في أية مسألة سياسية فغالبًا ما يتفوق علي من يحاورني - إما بصوته ، أو بدعم جماعة حوله يهزون رؤوسهم بالموافقة ، أو بالقوة الاستهزائية ، أو بالاستعلاء المعرفي الذي ينتهي غالبًا بالغضب وكيل الاتهام لي ولمعرفتي ، وكثيرًا ما كنت ألوذ إلى الصمت طلبًا للسلامة وحفاظًا على العلاقة ، وراحة لحنجرتي.
حدثتكم في محور طفولتي عن نشاطاتي الأولية في خلية الحزب الشيوعي في قريتي ، وفي مشاركاتي الفعالة ضد الحكم العسكري ،كما حدثتكم عن هذه النشاطات في محور علاقتي المتواضعة مع إميل حبيبي وتوفيق زياد.
بالإضافة إلى ذلك كنت أحضر ندوات كان يقيمها حزب العمال الموحد (مبام)، الذي كان يقدم لنا ندوات في معنى الاشتراكية ونظام الكيبوتس والقومية والوجودية. ويبدو أن ذلك كان بقصد إبعادنا عن الفكر الشيوعي الذي كان يتبنى في أوائل الخمسينيات بعض طروحات من الفكر الناصري، وبالتالي فقد كان هذا الحزب يمتص الطاقة القومية لدى شبابنا.
عبد الناصر:
كنت في الخمسينيات متحمسًا كأبناء جيلي لأفكار جمال عبد الناصر الثورية الحماسية. أنتظر خطبته وأتلهف لمضامينها، لكنني – فيما بعد - ولأسباب لغوية محضة أخذت أرفض هذه اللغة العامية على لسانه، وهذا اللحن الكثير الذي كان يشيع في خطبه ؛ إذ كنت أقول في نفسي - إن ترتيب اللغة هو ترتيب أفكار، وترتيب الأفكار يترتب عليه تنظيم الواقع والإطار ، وبالتالي هو تنظيم للواقع الحقيقي كما يراه صاحبه.
وكنت أتضايق لأنني لا أستطيع أن أقنع أحدًا بضرورة الاهتمام باللغة – حتى في الأمور السياسية المصيرية . كان عبد الناصر مقدسًا لدى مجتمعنا - عامة - ، ولذا يحظر عليّ الدخول إلى حرمه أو حرم كلماته.
ثم أخذت أشك في المبالغات ، و كنت لا اقتنع بها وبما تصنع "الثورة" ، وكذلك في هذين " القاهر " و" الظافر" - اللذين نراهما في التلفزيون ، وهما صاروخان أثبتت الأيام أنهما وهميان.
كما كنت غاضبًا لما قام به عبد الناصر من إغلاق مضايق تيران ، لأنني اعتقدت جازمًا أنه لا يستطيع أن يتحدى إسرائيل وأمريكا، فأجد الجميع ممن يتحلقون حول التلفزيون يرمقونني شزرًا ، بل يكيلون لي كل اتهام .
كنت على يقين أن شر الهزيمة سيلحق بنا ، وهكذا كان.
ولكن الصدمــة العنيفة لم أتحملها، فقد كان هذا الزلزال – لا مجرد صدمة - فوق ما يمكن أن يُتوقع. كنت أرقًا قلقًا في الأيام الستة إلى حد بعيد، استمع إلى نشرة الأخبار كل نصف ساعة .
وكنت أتابع الأخبار باللغة العبرية، ذلك لأنني أيقنت مدى الكذب والدجل في إعلامنا وفي إذاعاتنا العربية . وكنت - من بين القلائل جدًا - من يصدق الأخبار في الإذاعة الإسرائيلية، فالكل من حولي يقولون: لا تفتح على إذاعتهم ، فما يروجونه دعاية ، والحقيقة ستبين بعد أيام ، وهي أن الجيش الإسرائيلي انهزم شر هزيمة ، وسترى.
عندما دخل الإسرائيليون القدس بلغ قهري الزبى، وفي رحاب الأقصى أخذ الراب غورن قائد الاحتياط ينفخ البوق ، ثم شرع يقرأ آيات من المزامير.. فلم أتمالك نفسي من البكاء ، فإذا بي أرمي بالمذياع بقوة صوب بوابة الدار لألقيه متناثرًا على مبعدة مني. (ومن العجيب أنه ظل يواصل إذاعته القاهرة والظافرة ).
لا يمكن أن أنسى هنا أنني فقدت صوتي طيلة أسبوع كامل ، فكنت أخاطب الناس بالإشارات وبالإيماءات ، ومما زادني قهرًا وموتًا أنني استمعت من الإذاعة الإسرائيلية إلى تسجيل للرئيس عبد الناصر وهو يخاطب الملك حسين:
" أنت حتطلع بيات وحنا حنطلع بيان" !!!
ولم يكن البيان إلا تمويهًا وقلبًا للهزيمة بحيث تكون انتصارًا حققته الأمة العربية الماجدة.
ومع ذلك رحبت مع الجماهير الحاشدة بعودة عبد الناصر، ولم يكن يهمني فيه إلا الرمز .
حاولت الامتناع عن القدس وزيارة أقصاها ، فلن أدخلها إلا محررة ، ولا بد من رد هذه الإهانة ، وأية إهانة ؟ إذ " ظلت النكسة تذروني هزائم وتمائم : - كما قلت في قصيدة لي - .
وآليت على نفسي قسمًا لم أستطع الإيفاء به ، فوجدت نفسي في رحاب الأقصى أصلي ، وأخذت أطوّف في مكتباتها ، وخاصة مكتبة المحتسب ، وقد حدثتكم عن ذلك في الجزء الأول من أقواسي .
عندما افتقدنا عبد الناصر ، وأعلن نعيه كنت أستمع إلى النعي وأنا حزين ( وهل كلمة حزين تكفي ؟ ) ، بل أزعم لنفسي أنني أول من كتب له قصيدة في الرثاء، أنجزتها بعد ربع ساعة من سماع الخبر ، وكتبتها على نفَس واحد، وجعلتها تحت عنوان "القصيدة الأولى في الرثاء"
قلت فيها:
طافَ في كُلِّ البُيوتْ
دَيْدَبانًا لا يَموتْ
طاف في كُلِّ القُلوبْ
***
أيُّ حُزْنٍ سَوفَ يَجتاحُ الفِراخْ ؟
أيُّ رَوْعْ ؟
جَفَّ دَمْعْ
***
أحْمَدُ اللَّهَ لأنِّي
عِشْتُ في وَقْتٍ أَثيرِ
عَصْرِ عِمْلاقٍ كَبيرِ
ونبيُّ العَصْرِ إنسانْ
يَصْنَعُ الْخَيْراتِ لليوْمِ الأَخيرِ
أيُّ قَولٍ لا يَفيهْ !
كُلُّ قَوْلٍ لا يَفيهْ
هُوَ دَرْسٌ قَدْ ثَقِفْناهْ
هُوَ حُبٌّ وَشَرِبْناهْ
أطْفأَ الْمَوْلى الْمَنارهْ
واصْطَفى الْمَوْتُ الكِرامْ
وأقمنا في كل القرى العربية مواكب جنازات شيعنا فيها أمل الجماهير العربية عامة ، والفلسطينية خاصة - الرئيس العظيم جمال عبد الناصر.
وعندما كحلت عيني برؤية القاهرة في أوائل الثمانينيات كانت زيارتي لضريح عبد الناصر في سلم الأولويات، وما إن دخلنا الحجرة التي يرقد فيها ، وألقينا نظرة على صورته الضخمة التي على الجدار حتى تخيلته بأبهته وقامته وعنفوانه حبيبًا قريبًا إلى القلب، وأذكر أنني حزنت ووجمت أمام هذا الرجل العظيم. تقدم إلي الحارس ، وسألني : حضرتك فلسطيني ؟!
- نعم ، وكيف عرفت ؟
- هذا الحب وهذا الخشوع أمام الضريح .
ومن العجيب أنني في زيارة لاحقة لمعرض الكتاب ، وقد تسنى لي أن أقرأ من قصائدي ، لاحظت أن حب عبد الناصر ليس عميقًا في قلوب المثقفين المصريين. فما إن قدمت بعض التمجيد لشخصه، وكيف أننا في الجليل والمثلث والنقب نحبه و نرى فيه موئل العرب وعنوان كرامتهم ، فإذا بالجمهور في القاعة يعرض عن كلماتي – بصورة أو بأخرى - ، ولم أسمع أي تصفيق كما كنت أتوقع .
لكن أحد محرري صحيفة (العرب) وهي صحيفة ناصرية أحب أن يجري معي حوارًا لمناقشة مقال كتبه عصمت سيف الدولة عن الناصرية، وقد ظنني ذلك المثقف السياسي المتابع ، فاعتذرت لسببين: أولاً أنني لا أعتبر نفسي مفكرًا سياسيًا، وثانيًا لأنني لم أقرأ المقال .
حركة الأرض:
نشطت حركة الأرض بقيادة صالح برانسي ومنصور كردوش، وكنت ممن يرى في صحافتها "الأرض" بأسمائها المختلفة ( حتى لا تُصادر ووفقًا للقانون ) بذرة طيبة وصالحة، ولكني كنت أخشى عليها مغبة التطرف.
ومع ذلك فحين عقد مهرجان جماهيري حاشد يوم 20/4/1964 في قريتي باقة الغربية أحببت أن ألقي كلمة ، فطلبت من عريف الاحتفال الناشط السياسي الوطني إبراهيم فريد غنايم أن يفسح لي مجالاً بأن أكون على المنصة. وأنا اليوم لا أذكر إن كنت قد أعددت الكلمة أم لا، وماذا يمكن أنني قلت أو سأقول فيها.
لكني أذكر أن إبراهيم أبى أن أشارك، وقال لي بالحرف الواحد: أنت معلم بيننا، وقد تم مؤخرًا فصل معلمين، فلا تشاركنا بإلقاء كلمة ، لأن مصيرك الفصل ، خاصة وأنت معلم جديد غير مثبّـت، ونحن بحاجة إليك كي تخدم الأجيال ، فهذا هو دورك التثقيفي والسياسي .
كنت ألح عليه بالطلب، وهو يلح علي بالرفض.
وصدق حدس إبراهيم. فما إن انتهى المهرجان حتى اعتقل المتحدثون ومنهم خيري الشاعر صديقي وجاري وقريبي، كما اعتقل محمد مصاروة (الذي أصبح فيما بعد محاميًا فرئيس مجلس فسفيرًا) وأحمد كيوان (الشاعر الذي ظل يؤمن بخطه الناصري بشكل متواصل) وغيرهم.
ومن الطريف أن أذكر أن المحكمة التي عقدت لهم كانت القضية فيها هي تهمة " التجمع غيرالقانوني " .
ومن حيثياتها أن القاضي سأل إبراهيم غنايم عريف المهرجان عن تصريحه في أثناء إلقاء كلمته : " بالأمس كان لنا قائد هو خالد ، واليوم لنا قائد هو أبو خالد " ( كنية عبد الناصر ) ، فهل قلت ذلك ؟
أجاب إبراهيم : نعم
فوقف رئيس المجلس - يومها - السيد فارس حمدان وقال للقاضي :
هل يأذن سيدي بملاحظة ؟
- تفضل !
- إن إبراهيم يعني أنني أنا قائده ، وأنا كنيتي أبو خالد .
- فأسقط في يد القاضي .
نحن فلسطينيون:
ومن الطريف أن هذه الحركة لم تضع في برامجها الطرح الفلسطيني مباشرة ، بل كانت القومية العربية هي مبتدأها ومنتهاها. تذود عن الأرض حتى لا تُصادر ، وتدعو إلى التثبت بالجذور . ولم نكن نقرأ في صحافتها أو في صحافة الحزب الشيوعي أننا "فلسطينيون " أو ما هو بتعريف " الشعب الفلسطيني في الجليل" مثلاً .
حتى إذا كان مؤتمر فتح ، وكان تأسيسه في الفاتح من أيلول 1969 ، عندها أخذ النفَس الفلسطيني يتردد هنا وهناك، فكانت كتابات محمد أبو شلباية من القدس تدعو إلى دولتين لشعبين، وإلى كيان فلسطيني مستقل، وإلى التصريح علنًا بأننا أبناء الشعب الفلسطيني ، ويجب أن يكون للفلسطينيين كيان كسائر الشعوب .
بعد ذلك صدر ديوان محمود درويش "عاشق من فلسطين" سنة 1970، وليس ثمة من سبقه في الإشارة إلى الهوية تصريحًا قبل ذلك.
ومع ذلك فقد اتهم أبو شلباية بأنه يخدم السلطة والاحتلال، فالأولى اليوم – حسب رأي الشيوعيين وغيرهم - هو إعادة الأراضي المحتلة إلى حيث كانت ، فالضفة للأردن ، والقطاع لمصر ، والجولان لسورية، حتى يُطبق قرار الأمم المتحدة بإعادة الأراضي المحتلة إلى الحدود التي كانت يوم 4 / 6 / 1967 ، ومن ثم يكون النضال لتحقيق الاستقلال الفلسطيني. وكنت شخصيًا أحاور كثيرًا سكرتير الحزب الشيوعي – في باقة حول هذه القضية، وكيف يجب أن ندافع عن حق قيام الدولة الفلسطينية ، وكنت أرى أن كتابات أبو شلباية هي قمة في الوعي السياسي ، وهي جريئة، فيجن جنون أبو عمر – وهذه هي كنيته – ويكيل له كل اتهام.
تعرفت إلى أبي شلباية فيما بعد ، وحييته وشكرته على مقالاته المهمة التي تأثرت بها ، بل أذكر إثر ذلك أنني في مقابلة تلفزيونية قلت:
" نحن أبناء الشعب الفلسطيني في إسرائيل........ "
ومن العجيب حينها أنها لم تُحذف من التقرير ، ومر الأمر بسلام ، فقد خشيت من الاعتقال لأننا لم نكن نصرح علنًا بمثل هذا التصريح .
وشجعني ذلك أنني حضرت محاضرة لموشيه ديان في جامعة باراريلان (1970) وكان هو في حوار مع كامل الطيبي، وكان ديان يتحدث بغرور وصلف عن انتظاره لمهاتفة من عبد الناصر حتى يستعيد سيناء.
وقفت لأسأل المحاضر عن حق الشعب الفلسطيني في كيان خاص به إلى جانب دولة إسرائيل، وأنه لا بد من ذلك حتى يعم السلام وتكون مساواة في الحقوق لأبناء الشعب الفلسطيني في إسرائيل.
ولم أكن أعرف معنى الكراهية كما أبداها بأنيابها متدين يهودي يميني ، فأخذ حق الكلام وانطلق يهاجمني بحقد يتنزى من عيونه التي تشف كراهية وعمى، وأحسست انه على وشك أن يضربني. وضاعت الكلمات ، وضاع الحوار في مثل هذا المشهد .
أكتوبر 1973:
لست أدري لماذا دخل في رُوعي – منذ البدء - أن معارك أكتوبر هذه إنما هي تمثيلية محبوكة ، وذلك حتى يتم نصر - ولو وهميًا - فيكون بذلك مبرر لعقد راية السلام. ولم أصدق إسرائيل في بكائها وعويلها يوم الغفران، كما لم أصدق مبالغاتنا العربية المتواصلة حافرًا على حافر . وظل هذا الشك يرافقني سنين طويلة، ولم أستطع التخلص منه – حتى وأنا أشاهد بانوراما 6 أكتوبر في القاهرة فيما بعد .
ولن أستفيض في ذلك ما دام هذا الرأي شخصيًا لا يهمه أن يحصل على موافقة هذا أو ذاك .
شارون:
استضاف نادي الهستدروت بإدارة غالب مجادلة ( عضو الكنيست فيما بعد) أريئيل شارون وذلك في آب 1974، وكان شارون جنرال احتياط، عاد من حرب سيناء مزهوًا منتـفخًا ، فقد تباهى بأنه عبر الدفرسوار، وصد تقدم الجيش المصري .
وأصبح الشارع الإسرائيلي يغني بالعبرية ( أريك ميلخ يسرائيل) بمعنى أن أريك ( اسم دلع لاسمه الحقيقي ) ملك إسرائيل ، وهي أغنية استحدثوها على غرار الأغنية العبرية المعروفة التي تقول إن داود هو ملك إسرائيل.
بدأ شارون يطرح أمامنا رؤيته السياسية، ومن المهم أن أذكرها هنا، لأنها قناعته
- كما يبدو - وكثيرًا ما تصرف بعد ذلك بوحي منها، ومن يدري كم وكيف ومتى يعمل من أجل تحقيقها؟!
صرح – وكان ذلك التصريح لأول مرة من سياسي إسرائيلي – أنه يؤمن أن الفلسطينيين هم شعب عريق، وتحق لهم دولة، ولكن، أين؟
إنها في شرقي الأردن، حيث الأغلبية هناك فلسطينيون، فيجب أن يتسنم الفلسطينيون هناك حكم الأردن . أما الضفة فتبقى كما كانت تحت الحكم الإسرائيلي، ولكن إسرائيل لا تمانع السكان فيها من أن يحملوا جوازًا فلسطينيًا وهوية وانتماء لدولة فلسطين في شرقي الأردن.
وقف محمد مصاروة (من كفر قرع) وعرّف بنفسه، ثم سأل شارون:
كيف للمهاجرين من بولونيا وغيرها - وأنت منهم - أن يقرروا مصير من ارتبط بأرضه وهو فلسطيني الجذور، ما هو الحق الأخلاقي لكم؟
أجاب شارون مباشرة وكأنه كان على موعد مع السؤال:
لقد سمعت اسمك. إنك تقول في نهايته مصاروة. قل لي، ما هو الحق الذي لك هنا ما دمت جئت من مصر؟
وكان النقاش بينهما سجالا .
وأذكر أنني قلت له:
أنا مواطن في إسرائيل رغم أنفي، فلم يستشرني أحد إن كنت أوافق على أن تحكمني إسرائيل، بل إن منطقة المثلث سُلمت لكم بعد سنة من قيام الدولة، ولو كان الأمر بأيدينا لما وافقنا أصلا على حكم أجنبي ، فلماذا... إذن أعامل في موطني بتمييز؟ لماذا تصادرون أراضينا، لماذا لا تحررون الوقف الإسلامي. ألا تدِلك هذه المعاملة على أن وثيقة الاستقلال التي تنص على ضمان حقوق الأقلية وبأنها واجب أساس – لا تُحترم، وبأن المواطن العربي هو من الدرجة العاشرة؟
ومن العجيب أن شارون رد علي بهدوء شديد – خلاف عصبيتي - ودلّ عليّ وعلى السامعين أن حزبه (حيروت) هو الوحيد الذي يخدم الأقلية العربية في البلاد ، ويعمل على مساواتها ، بدليل أن هذا الحزب هو الذي ألغى الحكم العسكري ، وأنه هو الذي سيعـقد السلام مع الدول العربية. (تثبت فيما بعد أن بيغن زعيم الحزب هو الذي بادر إلى عقد السلام مع السادات سنة 1978).
يوم الأرض الثاني:
كنت نشيطًا سياسيًا أكتب في صحف الحزب الشيوعي ، وأخطب أحيانًا على منابره من غير أن ألتزم بخطه الحزبي أو بسواه.
ففي ذكرى يوم الأرض الأولى (1977 ) كنت شاهد عيان على كذب السلطة وادعائهم أن الطلاب هاجموا الشرطة بالحجارة. فقد شاهدت الهمجية تلاحق الأطفال ، وتدخل المنازل ، وتضرب المسنين وووو
تنادينا إلى مهرجان حاشد شاركت فيه السلطة المحلية وعضو الكنيست توفيق زياد . وقد ألقيت قصيدتين – كتبتهما هما: يوم الأرض، أسماك القرش( كنت قبل سنة كتبت قصيدة " الستة في حوار " على إثر مقتل الستة في سخنين ودير حنا ).
وفي " أسماك القرش " سجلت فيها حكاية ما جرى في عدوان فقلت:
............
وَبَعْدَها بِبُرْهَةٍ كانَ النِّداءْ
بِأَنَّ قِرْشًا فاغِرًا فَمَهْ
وَيَحْمِلُ العِداءْ
يَطوفُ في باقَةَ في الشِّوارِعْ
وَيَقْذِفُ القَنابِلَ الَّتي تُهَيِّجُ الْمَدامِعْ
تُهاجِمُ الأَطْفالَ في الْمَدارِسْ
شَراسَةُ الأوغادِ ، تَقْحَمُ الْجَوامعْ
عِصيِّهُم سِلاحُهُمْ وَنَقْمَةُ الغَضَبْ
تُلاحِقُ الكِبارَ والصِّغارْ
( فَتَحْتُ عَيْنِي مَرَّتَيْنْ
لأَنَّني ظَنَنْتُ أَنْ قَدْ مَسَّني دُوار )
وَهُم يُجَرْجرِونَ خَمْسَةً وراءَ مَرْكَبَهْ
يُمَثِّلونَ لُعْبَةَ الْقِطارْ
وَتُصْفَعُ الْعَجوزُ صَفْعَتَيْنْ
وَتُكْسَرُ الأَبوابُ ، يَبْكي طِفْلُنا الْحَبيبْ
وَتُقْذَفُ الْحِجارْ
أيْقَنْتُ أَنْ لا بُدَّ مِنْ قِرْشٍ أغارْ
ها هُمْ يُكَسِّرونَ ، يَصْرُخونَ يَهْجُمونْ
وَيَشْتُمونَ يَرْكُضونْ
حَتَّى يُضيفَ القِرْشُ نَصْرًا في سِجِلاَّتِ انْتِصارْ
يُمَزِّقون رايَةً مِنْ فَوْقِ دارْ
يَعْتَقِلونَ خَمْسَةً وَيَنْظُرونْ
بِنَظْرَةِ احْتِقارْ
وَيَزْحَفُ الْحِقْدُ
على عُيونِنا الغِضابْ
وَيَضْرِبونَ يُلْحِقونَ الضَّرْبَ في الأَشْجارْ
ومَا دَرَوا
بِأَنَّها تَموتُ في انَتِصابْ
ـ عَلَّمْتُمُونا يَوْمها دَرْسَيْنِ في الحِسابْ
1 ـ في أَننا مَعًا وَعِنْدَكُمْ عَلى صَعيدْ
2 ـ وَصاحِبُ الأَموالِ مَنْ يُوهِمُ نَفْسَهْ
بِأَنَّهُ السَّعيدْ
تكَشَّفَتْ لَهُ حَقيقَةُ الثَّراءْ
فالعارُ والشَّنارْ
سَيُخْذَلُ التَّتارْ
فَسَجِّلوا وَجَلْجِلوا
فَلْيُخْذَلِ التَّتارْ !!!
31\3\77
(ألقيت في الاجتماع الاحتجاجي بباقة الغربية)
ثم عقدت الندوات الكثيرة في الوسط العربي لاستنكار مصادرة الأراضي ، والعدوان على الجماهير العربية، وكنت أشارك بقصائدي التي كنت أحس أن لها صدى واسع وحماسي في الجمهور، بل عرفت يومها أن الشاعر له دور ووظيفة في معارك شعبه.
وبعدها ثابرت على مشاركتي في مهرجانات يوم الأرض سنة تلو سنة ، حتى ولو لم يفسح لي مجال لإلقاء كلمة هنا أو قصيدة هناك ، وذلك بسبب تنافس الأحزاب وممثليهم على اعتلاء المنصة – وما أحبها لدى الكثيرين !!!!! -، ولم يكن لي مشاركة إلا في راهط يوم أن شاركت في مهرجان يوم الأرض ممثلاً عن الحركة التقدمية للسلام والمساواة. يومها كانت الدبابات الإسرائيلية تطوق المكان، وعيون الجنود كانت تقدح شررًا وغضبًا علينا، ومن جهة أخرى كان الشيوعيون وأنصارهم ينظرون إلي بغضب كاد يفترسني، وذلك لأن الحركة التقدمية كانت المرأة الضرة التي لا يقبلونها بأي حال.
حركة شيلي :
قبل أن أشارك في تأسيس الحركة التقدمية شاركت في تأسيس حركة (شيلي) وربما هي نواتها ، وكانت شيلي حركة اليسار الإسرائيلي برئاسة أوري أفنيري الذي أكن له الود بسبب جراءته وتحديه .
وقد ألقيت كلمة في غابة ( بن شيمن ) مثلت فيها أنصار الحركة من الجمهور العــربي ، وكنت مشجعًا تأسيس هذه الحركة، ويبدو أنني كنت طامحًا لأن يقع اختيارهم علي لأكون مرشحًا ا للكنيست. لكنهم انتخبوا الأستاذ وليد صادق، فقلت لنفسي: خلفًا در !! فهؤلاء أيضًا أخذوا يعلنون – فيما بعد - أنهم حزب صهيوني، وحسبك من شر سماعه !
وكنت أدرك صعوبة الانسحاب ، لأن ماتي بيلد هو الأستاذ المشرف على الدكتوارة التي أعكف عليها ، و هو من نشيطي هذا الحزب الجديد. ومع ذلك - والحق يُقال - لم يؤثر هذا الانسحاب على علاقتنا بشيء.
تأسس الحركة التقدمية
تحمست لهذه الحركة منذ بدايتها، فمحمد ميعاري رئيسها هو المحامي ذو الشخصية الوطنية المتحمسة، ويشارك معه أستاذي ماتي بيلد من جامعة تل ابييب وأوري أفنيري. وقد بدأت الحركة معتدلة في التوجه السياسي، وقد زرت في مراحلها الأولى بيوتًا يهودية ، ونوادي يسارية إسرائيلية لشرح فكرتنا التي ستكون من اجل السلام بين الشعبين. غير أن الحركة أخذت تتبنى – وبصورة حادة - خطًا فلسطينيًا واضحًا وتعلن أنها فلسطينية الجذور، وتصدر صحافتها بألوان العلم الأربعة. وكانت خطب القس رياح أبو العسل تؤجج المشاعر الوطنية.
وفي المقابل كانت حملات الحزب الشيوعي شرسة ضد القائمة الجديدة، واتهمت صحافتهم الحركة الجديدة بالعمالة ( قاد هذه الحملة إميل حبيبي ) ،رغم أن القائمة ألغيت أو رفضت أولاً، فعقدت محاكم كثيرة ، وكانت التماسات كثيرة، حتى تسنى لها أن تمارس حقها وتنافس في المعركة الانتخابية.
كنت نشيطًا جدًا في هذه الحركة، أكتب في صحافتها ، ومنها التضامن ثم الوطن،
وكنت أنشر أشعارًا وطنية ، وأطوف في الجليل والمثلث والمدن المختلطة ، وزرت مضارب النقب، وأماكن مختلفة لم يكن لي بها عهد ، فنُقابل أنـّى توجهنا بالحماسة والتصفيق والمد الوطني، وكأننا نمثل حركة فتح حقيقية، وإن كنا لا نعلن عن ذلك رسميًا.
وفي باقة بلدي أعددت مع زملاء آخرين مهرجانًا خطابيًا كبيرًا قرأت فيه قصائد، ودعوت إلى التصويت لهذه القائمة الفلسطينية التي هي منا وإلينا، فكانت نتيجة الانتخابات مفاجئة جدًا، إذ صوت نحو 80% من سكان بلدي لهذه القائمة الجديدة.
ولم يجد توفيق زياد قبيل هذا النجاح الباهر من يهاجمه في خطابه الذي ألقاه بالقرب من بيتي في باقة إلا الشاعر، دون أن يذكر اسمي، وأخذ يشدد على حرف الراء بسخرية جعلت بعضهم يضحك على هذه المسرحية الطريفة.
وكان معنا في الحركة التقدمة بعض المثقفين الممتازين مثل المرحوم سامي مرعي والشاعر المرحوم فوزي عبد الله والكاتب أحمد درويش ورئيس مجلس عرابة السابق أحمد جربوني والقاضي ( لاحقًا ) صبري محسن والمحامي عزيز شحادة وأبناء الناصرة رشيد سليم وكامل الظاهر وغيرهم، وكنت أحس أن لي مكانة رفيعة خاصة بينهم.
وآل بي الأمر إلى أن أصبحت عضو اللجنة المركزية بعد فروغ مكان سامي مرعي. فكان عدد الأصوات الذي حظيت به يؤهلني إلى أن أحضر جلسات هذه اللجنة التي كانت كثيرة، ولكنها أخذت – مع جلساتي – تتسم بالبرود والخفوت، فأين حرارة البداية وحماسة الانطلاقة؟!
وكنت أرى أن اقتراحاتي ما هي إلا جهد بذلته ، وسفر أضعته .
ثم كان تأسيس اتحاد الكتاب العرب الذي بادرت إليه شخصيًا (بسبب أنني كنت رئيس رابطة الكتاب العرب ضمن اتحاد كتاب إسرائيل – وسأفرد عن هذه الاتحادات والرابطات فصلاً)، فتبنى الكاتب محمد علي طه الفكرة ، وعرضها على الحزب الشيوعي وخاصة على إميل حبيبي، فإذا بالاتحاد يُؤسس ، ويخرج إلى حيز التنفيذ ، فينتخب سميح القاسم رئيسًا وفاروق مواسي نائبًا للرئيس ومحمد علي طه سكرتيرًا للاتحاد. وضمت اللجنة المركزية نخبة من كتابنا وشعرائنا المتميّزين.
ولم يفلح الاتحاد بإقناع شعراء وأدباء آخرين من الحركة التقدمية بالانضمام إليهم، فاعتبر هؤلاء أن ما قمت به أنا خيانة للحركة التقدمية. واتخذوا قرارًا بتأسيس رابطة الكتاب الفلسطينيين.
ولم أستطع أن أقنع زملائي في الحركة بصواب ما فَعلت، فبدأ الجفاء يسود بيننا، وقد تَوّج ذلك المرحوم فوزي عبد الله في مؤتمر الحركة ، إذ استشاط غضبًا، ووجه هجمات شرسة صوبي غمزًا ولمزًا ، وهو يذكر أن الحزب الشيوعي يرسل هنا بعض أعوانه للطعن بنا وبوحدتنا ، ولم أفلح في الدفاع عن نفسي أمامهم، فهو قد اكتسب تأييدهم وكسب الجولة.
ثم كان أن دعاني وزير الدفاع ( في حينه ) أرنس أنا وبعض الأدباء للتداول حول الشؤون الأدبية والثقافية في الوسط العربي ، فلبيت الدعوة ، ولم أهادن كعادتي في مثل هذه اللقاءات ، وطالبت بحقوقنا الأساسية ... ووو
ولكن هذا اللقاء أغضب قيادة الحركة فقررت لجنة الإعلام فصلي من اللجنة المركزية .
( ثم نشرت صحيفتهم – فيما بعد - أنني ما زلت عضوًا في الحركة التقدمية . )
وفي الانتخابات التي جرت في 14 / 2 / 1992 لم تفز الحركة بأي تمثيل ، وطويت صفحات سياسية كثيرة .
في الختام ، لا بد هنا من ذكر ملاحظتين :
الأولى : كانت محاولات لإعادة بعث الحركة بدون ميعاري ، فاتصل بي أحمد جربوني وأحمد درويش ، ولكني اعتذرت ، لأنني مقتنع أن الشرارة أوالانطلاقة التي بدأت لا تعود بنفس حرارتها ، وكيف لنا أن نقنع أحدًا بصحة الخط السياسي في ظروف الخلافات والنقاشات بيننا ؟؟
الثانية : على ذكر أرنس ولقائه ، فقد التقيت أرنس ثانية في 6 / 4 / 1992 في قاعة المجلس المحلي وبدعوة من رئيسه سمير درويش ، وهناك طرحت قضايا آنية كنا نعاني منها كصرخات " الموت للعرب !! " تطلقها الغوغاء في كل مناسبة رياضية أو سياسية ، وأنتم - يا حضرة الوزير - تبثون ذلك في إعلامكم ، فكيف يمكن أن يكون الحال لو صرخ نفر من المواطنين العرب :" الموت لليهود " !
وبالطبع ، فإن أجوبة السياسيين تكون مقتضبة ، وتوافقك – أنت السائل أو المعلق - في كثير من طلباتك أو آرائك ، وتعترف لك بقصور السياسة الإسرائيلية نحو المواطنين العرب ... وووو